الرأي

السم الذي يسري في شرايين واقعنا السياسي ياسر عرمان : الشيطان يعظ

✍️ عبدالله عبيد الله

“أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة” مارتن لوثر كينج.

كثيرا ما استشهد ياسر عرمان بالمقولة أعلاه لزعيم حركة الحقوق المدنية والمناضل ضد العنصرية في أمريكا. وظل في كتابته يشدد علي المبدئية والاتساق الأخلاقي في المواقف خاصة فيما يتعلق بمقاومة الظلم، وليبرر أنه ظل على مدى ٤٠ عاما يحارب كل الحكومات التي تعاقبت على السودان عسكرية كانت أم ديمقراطية او انتقالية، والغا في دماء السودانيين وناعقا بخطاب الكراهية والعنف.
إلا أنه هذه المرة، وبعد شهرين من اندلاع الحريق الكبير المستمر في السودان الذي كان هو أحد أبرز حمالي حطبه ووقوده، وفي مواجهة المشاهد اليومية بالخرطوم من النسخة المحدثة لتاريخ هولاكو التتري في بغداد، على أيدي حلفائه الجدد من الجنجويد، ارتدى مسوح الرهبان الذين يكتفون بالوعظ والدعوة لإدارة الخد الإيسر لمن صفغك على الخد الأيمن و يؤذيهم أن يسموا أصحاب الخطيئة بأسمائهم. ولذا تظاهر الحياد.

“الجماعة التي اختارت الحرب لديها سؤال لماذا لا ندين انتهاكات الدعم السريع؟ هذه الحرب بها طرفان والانتهاكات ارتكبت من الطرفين وهي مدانة وتستحق محاسبة الطرفين. اختار الطرفان وسيط وحدد الوسيط بان الانتهاكات ارتكبت من الطرفين ولابد من بعثة سلام على الأرض ورد الحقوق”. هكذا كتب ياسر عرمان.!!
ذلك ببساطة يعني أنك إذا أدنت او طلبت إدانة اغتصاب النساء والقاصرات في بيوتهن وفي الشارع العام على أيدي مليشيا الجنجويد، أو قتل من يرفض التنازل عن سيارته ملك حلاله، أو تشريد أكثر من نصف سكان العاصمة بعد احتلال ونهب وتخريب بيوتهم وترويعهم واتخاذهم دروع بشرية وعمالة منزلية قسرية، أو حصار جزيرة توتي، التي لا يوجد بها حتى قسم للشرطة ومنع دخول المواد التموينية لها، أو تحويل المستشفيات والكنائس والجامعات إلى ثكنات عسكرية ومنصات للقناصة، أو نهب البنوك والشركات والأسواق، وكل ذلك ارتكبه حلفاء ياسر عرمان، فإنك بلا شك من “الجماعة التي اختارت الحرب”.

وطالما أن الوسيط ” حدد بأن الانتهاكات ارتكبت من الطرفين”-وفقا لياسر عرمان-، فلا قيمة إذن للشهادات اليومية المباشرة من الآلاف من ” شعبنا” (وهذه عبارة أثيرة لدي عرمان) عن تجاربهم الشخصية المؤلمة مع انتهاكات المليشيا، أو بيانات قيادات الكنيسة او وحدة مكافحة العنف ضد المرأة او حتى الحزب الشيوعي السوداني والتي تحدد بوضوح هوية مرتكبي الانتهاكات. ولا عزاء للضحايا وعليهم الانتظار لحين وصول بعثة سلام تنشر على الأرض وترد الحقوق..ويتصالح الذئب مع الحمل.. وعندها سيحدد عرمان موقفه من الانتهاكات.
هل يذكرك ذلك بموقف الوسيط الأمريكي أيضا من انتهاكات أسرائيل ضد الفلسطينين؛ إدانة العنف من الطرفين، وقبله الموقف ضد العنف في جنوب أفريقيا العنصرية بما ذلك نضال ألمؤتمر الأفريقي الوطنيANC الذي يزعم عرمان أنه مثله الأعلى في النضال، لدرجة أن مانديلا ومعظم قيادات المؤتمر ظلوا حتى عام ٢٠٠٩ مصنفين رسميا من قبل واشنطن إرهابيين.؟ نعم الموقف واحد وهو موقف ذرائعي لا أخلاقي.
لا احسب أن عرمان ، المختبئ وراء إدعاء الوسيط بان الطرفين ارتكبا انتهاكات ، ليتجنب إدانة حلفائه ينطبق عليه حال الأمير عبد الله الفيصل في قصيدة ثورة الشك مما تغنيه أم كلثوم:
وما أنا بالمصدق فيك قولا
ولكني شقيت بحسن ظني
وكم طافت على ظلال شك
أقضت مضجعي واستعبدتني

فليس هناك ما يدل على عرمان يشقيه أو يؤرقه حسن ظنه في حلفائه في وجه الشهادات الدامغة ضدهم.
كيف يكون ذلك.. وقد برأ المليشيا من أي ذنب في شعال الحريق. فالحرب الدائرة الآن ليست سوي حتمية تاريخية: “نحن أمام لحظة تاريخية فارقة من لحظات الحقيقة الساطعة كشمس النهار دون مساحيق أو تجميل فقد انفجر مركز الدولة الذي يعاني من تشوهات عميقة تراكمت على مدى يزيد عن ستة عقود”… “بعد عقود طويلة من الاحتقان وأخطاء متراكمة قبل وبعد الاستقلال”. وبهذا فإن المليشيا المتمردة ليست سوي أداة من أدوات الانفجار الحتمي..ولا تتحمل وَزره.
وإن كان هناك من يلام على هذا الانفجار فهو المؤتمر الوطني المحلول، ذلك الكائن
الخارق للعادة والقوانين الاجتماعية. لأنه بعد ٤ سنوات منذ أن انتزعت منه السلطة وحل بالقانون واقصي من العمل السياسي وسجن قادته وشردت كوادره، لا يزال قادرا على فعل الافاعيل وتشتيت قوي الثورة، والتي توصف بأنها ثورة وعي، وإفشال الحكومة الانتقالية وعرقلة كل خططها وتخريب العلاقة بين القوي المدنية والعسكرية.. وعزل قوي الكفاح المسلح ومضايقة الدعم السريع لإعادته لبيت الطاعة والتحكم في الإدارات الإلهية وإقناع القوي الخارجية بأنه صانع الاستقرار الذي يجب أن يكون أولوية تسبق الديمقراطية و.. و..
هل هذا من باب تضخيم المؤتمر الوطني المحلول أم تقزيم بل إلغاء كَل من سواه.. من قيادة القوات المسلحة.. وقوي مدنية وديسمبريين وأبريليين ودعم سريع وحركات مسلحة وإدارات أهلية. جميعها ليس لها دور ولا إرادة agency. الفاعل الوحيد هو المؤتمر الوطني والآخرون هم مجرد مفعول بهَم:
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى.
أما تبريره للتحالف مع الدعم السريع فهو أن الأخير اكتشف أن المؤتمر الوطني أصبح عدوا له.. وعدو عدوى. صديقي.

بدا لي أن ياسر عرمان تجسيد ل “مصطفى سعيد” في “موسم الهجرة للشمال” الذي قال مخاطبا قضاته في لندن عند محاكمته بجريمة القتل ” أنا جرعة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ”
وياله من سم لا يزال يسري في عروق أمتنا.

اترك رد

error: Content is protected !!