الرأي على شط النيل / مكي المغربي

نفس الجندي!

✍️ مكي المغربي

 ستأخذ العدالة القانونية مجراها بإذن الله، وفي حكم ثبوت القصاص بالبينة في مواجهة من قتل أبرياء بالذخيرة الحية سيقف المجتمع مع تنفيذه بلا أدنى شك .. ومن قال غير هذا ستناله دعوة الأم المكلومة التي قتل ولدها .. ولكن العدالة الربانية الشاملة .. الأوسع من القانونية ليست بيد أحد غيره الواحد الديان.

وسيقود الوعي المجتمعي المتراكم الوضع نحو صورة أوضح .. ليعلم الناس أن التفريط في الأرواح أمر أعظم من مجرد رصاصة اطلقها فاعل.

نفس الجندي الذي يقاتل في الفشقة الآن وربما يقتل أثناء كتابة هذه السطور، كما استشهد من قبله، هو ذات الجندي الذي يحمل بندقيته في أبواب القيادة ويتلقى التعليمات أو يتصرف وفق التقديرات .. أصاب ام أساء.

هو نفسه لكن حظه أن توزيعه و”أمر التحرك” اتى لزميله الذي نراه بطلا ونحسبه شهيدا، لم يأته. لو كان جندي الفشقة الذي دحر الغزاة اسمه أحمد وجندي القيادة اسمه محمد .. كان وارد جدا أن يكون أحمد هو في القيادة ومحمد في الفشقة. لذلك اعتبار أن هذا مجرم وذاك شهيد .. هذا شقي وذاك سعيد باعتبار شخصه خطأ جسيم ..

 ولكن اختلفت الظروف بين المواجهة القومية إنابة عن كل الشعب السوداني في حدودنا الغالية وظروف الجندي الآخر التي جعلته في محنة الدين والدنيا في مكان فيه مواجهة سياسة بين مكون مدني و مكون عسكري أو بالأحرى “جزء” من المكون المدني ومعه أذرعه الشعبية والشبابية والتنظيمية من جهة وبين الأهداف التي وضعوها نصب اعينهم من قيادة المكون العسكري ليحملوها كل الفشل والوزر ويبرئون انفسهم تماما .. ولك أن تسهب في تفاصيل وتعقيدات هذا الأمر والألغاز المحيطة به حتى يشيب رأسك وتسمع روايات متضاربة بين وزيرين عن يمينك والآخر عن يسارك في عزاء شاب شهيد قدم روحه للوطن .. او حتى بين اعضاء حزب واحد … كتلة من الغموض تواجهك في حقيقة العلاقة بين الطرفين .. دعونا منهما .. ولنعود للجنود والشباب والشهداء.

هل الجندي في القيادة اختار ان يكون في هذا الوضع الملتبس المعقد .. وذاك اختار ان يكون هناك في الوضع الواضح مع عدو خارجي؟! ليلقى ربه شهيدا؟ الإجابة قطعا لا! بل هو “نفس الجندي” ولكن اختلفت الظروف التي لم يختارها هو وللأسف لن يكون لديه اي دور في تغيير هذا الوضع السياسي المأزوم .. لأن الدور هو دور السياسيين الذين يتحكمون في الجهاز التنفيذي ويتزعمون احزابهم .. وبعضهم خارج السودان يرفل في ثياب النعمة والوجبات الديليفيري ويقول كلامه عبر الأثير ويقود الجماهير للخير أو الشر .. ولا يدفع هو الثمن .. ولكن الجندي في الفشقة يموت ولا تزال أسرته في منزل ايجار في طوكر أو الضعين .. والجندي الذي قد يتهم وتتم محاكمته ايضا أسرته في منزل ايجار في سنكات أو بابابنوسة!

هذا سيقول المجتمع لأبناءه ابوكم شهيد وذاك سيقول المجتمع لابناءه ابوكم قاتل .. وهما من ذات الدفعة والتدريب والميز والسكن!

هيهات .. فالوعي الشعبي الأقوى سيتراكم ويتراكم ويحدد المسئولية عن هذا الوضع وهذه الظروف التي جعلت محمد شهيد .. وأحمد قاتل.

أيضا لو نظرنا للتقصير العام .. قطع شك .. تأمين أرواح المتظاهرين العزل مهما كان موقفهم وهتافهم هو مسئولية الأجهزة والقوات الأمنية ولكن هل وحدها؟ قطعا لا!

التظاهر حق مشروع ولكنه في كل العالم المتحضر هنالك تجارب وتشريعات وثقافة مدنية له ..

 حق التظاهر ليس لوصول مدنيين و(كفاءات!) للسلطة عبر ثورة ثم بعد ذلك ينتهي دوره .. هو ثقافة مستمرة في اي وضع انتقالي أو ديموقراطي .. لا يكفي تضمينه “حبرا على ورق” في وثيقة دستورية أو بيانات سياسية .. يحتاج إلى نظر وتحليل الواقع ودراسة التجارب الدولية والتشريعات التي تنظمه على وجه التفصيل وتنوير الشباب بها والجلوس معهم في ورش عمل حول هذه القوانين.

لكن هنالك من هم في الشق المدني مهتمون بقوانين تغيير بل تجريف اجتماعي وليس قوانين تطوير ممارسة الحقوق المدنية والحريات العامة، وإذا تم استخدام حق التظاهر مجددا وقرروا حمايته فإنما يفعلون ذلك لتمرير القوانين التي يريدونها وليس للمطالب الشعبية والفئوية والنقابية ضدهم .. تلك يتركون فيها المتظاهرين مع العساكر “ياكلوا نارهم” .. أما لو كانت مثلا هذه التظاهرة لدعم القراي وصورة مايكل انجلو التي تجسد الذات الإلهية، أو لدعم اتفاقية سيداو، تجدهم يتحدثون عن أن هذا نبض الشارع الحقيقي ويتعاونون مع الشق العسكري والأمني والمتظاهرين في تناغم حقيقي كما يقولون .. وتخرج المظاهرة في أبهى صورة.

هنالك انتقائية ايدولوجية في دعم وتوجيه حق التظاهر ما بين الرغبة في خروجه بشكل مدني والسيطرة عليه، وما بين التخلي عنه أو بكل أسف الرغبة – عند فئة منهم – في أن يتحول إلى أى نهاية مريرة تعزز وزنهم وسطوتهم وكروت ضغطهم على العسكريين.

أيضا اذا كانت الشرطة تحت سيطرة الشق المدني وتعمل بأمر الولاة .. وبتوجيه النائب العام ..

أين الجهود في رفع قدراتها وكفاءاتها في التعامل المهني النظيف مع الاحتجاجات السلمية والتعامل القانوني بغير خسائر في الأرواح مع الاحتجاجات العنيفة.

اذكر في كورس عن سلامة الصحفيين لمدة اسبوعين ولدينا مدرب صحفي وشرطي بريطاني سابق، استعرض لنا ١٦ وسيلة لتفريق التجمعات دون إراقة قطرة دم .. وأن هذا الأمر تخصص وفيه تطوير تكنولوجي مذهل .. بالإضافة إلي تحليل ودراسة التجمعات الاحتجاجية من الوقفة السلمية البسيطة لخمسة أشخاص إلى حالة الإضرابات المدنية الشاملة.

هل تولى مجلس الوزراء أي جهود في هذا الصدد ام دوره فقط المصادقة على موازنة تشمل شراء البنبان والهراوات .. ثم إدانة استخدامها .. هل دور الشق المدني تخلص فقط في فصل مدير الشرطة ثم تعيين آخر حسب الرأي العام أو الخاص؟!

أيضا.. كل من عاش في الخارج ومارس التظاهر يوما، يعلم أن هنالك تشريعات تصل في بعض الدول لوضع بطاقة ائتمان أو “ذمة مالية” ضامنة للمجموعة التي قررت التظاهر حتى لا يتحطم زجاج البيوت والمحلات والعربات ثم تقيد ضد مجهول .. وهكذا تتغير سقوف وأنواع الضمانات ويشمل الأمر تفصيل لشكل ونوع الاحتجاج .. وتختلف القوانين في امريكا مثلا من ولاية إلى ولاية .. لا يوجد في العالم الديموقراطي من يتحدث “طق حنك” عن حق التظاهر مع فراغ بل “ثقب أسود” قانوني وتشريعي ثم “يلبد” للمتفلتين بمواد من القانون الجنائي .. الإزعاج العام .. والتلف .. وغيرهما .. الموضوع تطور كامل تشريعي وقيمي وتنويري.. وهذا غير موجود .. اذن يتحمل الشق المدني وأي وزير أو مسئول أو قيادي حزبي فيه ذات الوزر في كل قطرة دم تراق بذات وزر من أطلق الرصاصة .. لانه لم يقم بدوره المدني الحقيقي لمنع حدوث الأمر.

هل الشق المدني راغب أو قادر على قيادة هذه النقلة التشريعية والتنويرية ام هو غير راغب أو راغب لكنه غير قادر ..أم هنالك من يمنعه أو ربما توجد خلافات بينه .. جعلت تغيير المواريث لشطب “وللذكر مثل حظ الانثيين” أمر مهم لدى بعضهم ولكن تشريعات حق التظاهر امر غير مهم؟! لان الدم سيلتصق بالعساكر ويذهب بهم إلى الجحيم؟! مالنا ومالهم؟! هل هذا تفكير مدني وطني .. بل هل هذا تفكير إنساني من الاساس؟! 

سيأخذ القانون مجراه.. ولكن ايضا التاريخ يسجل ويدون هذه التجربة بكل تفاصيلها.. وستأخذ العدالية الجماهيرية مجراها .. وستأخذ العدالة الربانية مجراها.

ختاما .. هل رضي المكون العسكري بهذا الدور وأذعن له؟ هل دور الجيش فقط أن يحرك الشاحنات العسكرية اذا قصرت شاحنات الولاية عن نقل ضحايا السيول الفيضانات؟! ما الأمر لو قصرت عقول المدنيين وانحشرت في زاوية ايدولوجية لدعم وجود أممي أجنبي وتشريعات خارجة عن الفقه والمألوف فقط دون ابتدار حركة تنوير حقيقية؟! هل الجيش بنادق ورصاص فقط؟ أليس “الإستراتيجية” كعلم ومجال أصلا هي سليلة العلوم العسكرية؟! ألا توجد لديه إدارات قانونية وتوجيه معنوي ومعرفي وإدارة حقوق انسان وقضاة وخبراء .. أليس لديه أكاديمية ومراكز دراسات .. والألوف ممن في الخدمة أو متقاعدين من حملة الدرجات العلمية العليا..

 أليس من الواجب عليه في حالة تقصير مدني .. ان ينصح .. مجرد نصيحة “بالخشم” وتوفير مشورة “في ورقة منشورة” .. وأن يصارح الشعب برأيه ثم بعد ذلك يبقى المكون المدني هو المسئول عن تقصيره .

أم يجوز أن ينتقد أصغر حزب في المكون المدني الجيش ويفتح عليه نيران النقد بينما لا يجوز للجيش أن ينصح البتة حول تقصير المدنيين؟!

هل رضي الجيش ان يكون الحائط الذي تلتصق به خطايا المرحلة وضحاياها بالدماء.. فقط لا غير؟!

اترك رد

error: Content is protected !!