الرأي

قطر والإخاء الإنساني ومغازي صنيع المغرب!


الدكتور الخضر هارون


كاتب هذه السطور ليس مؤهلا
للكتابة عن أولمبياد كأس ألعالم لهذا العام ٢٠٢٢ فلم يكن الشأن الرياضي بالجملة في دائرة اهتماماته رغم أن طرفا من حياته الأولي في حي السجانة بالخرطوم شهد منه حماسة في تشجيع نادي المريخ الرياضي لحد الهوس جعلت الأسرة كلها تشجع المريخ. وشهد بعض صولات لفرق في الساحة كالتضامن وقلب الأسد كانت تؤم ميدان الرابطة ( الليق) الذي تقام فيه حاليا احتفالات المولد النبي الشريف وكذلك ميدان المايقوما شمال المركز الصحي وسينما النيلين وميدان التضامن نفسه في قلب حي السجانة جنوب جامع الشايقية وشرق دكان العم سيد .وتتداعي في الذاكرة صورة العم باب الله وهو ينادي علي التسالي المميز ( كع) . وكان هناك صاحب الترمس اللذيذ يمارس دعايته الخاصة ( لذيذ جدا ومغذي للزبائن واللي عايز يشتري يدوق أولاً يا!). والخزين يحمل مكبر الصوت اليدوي : ( يوم التلاتة الجاية النيل والأهلي بدار الرياضة) كان ذلك اسم استاد الخرطوم يومئذ. والخزين لمن لا يعرفه كان مشهوراً في جنوب الخرطوم شهرته دعايته للجريدة الناطقة باسم نظام الفريق عبود واسمها ( الثورة) فكان يدعو الناس لشرائها وكانت واسعة الصفحات يترأس تحريرها محمد خليفة طه الريفي. فشبهوا لذلك ضخامة حجمها تندراً وتقليلاً لقدرها ب ( البِرش) ، والبُرش هو تلك السجادة المصنوعة من سعف النخيل أو الدوم: وصاح الخزين مرة ( البِرش بقرش)، عبارة قادت المسكين رحمه الله للسجن.
كان كاتب هذه السطور في حماسته للمريخ يحرص علي قراءة جريدة ( الناس) التي كانت تابلويد يحاكي المجلة الأمريكة People لصاحبها محمد مكي. وكذلك مجلة الرياضة الأسبوعية التي كانت واسعة التوزيع لمقابلاتها مع نجوم الكرة يومئذ ماجد محمد عثمان نجم المريخ ونصر الدين عباس جكسا نجم الهلال وغيرهم وكثيرا ما اشتملت المجلة علي أبيات من الشعر لمرسي صالح سراج:
حدث أن جاء المنتخب الوطني مهزوماً من الخرج فكتب:
بعد ما اتمرمطنا زين
استفتنا كلمتين
نحن وين والكورة وين!
وهو كلام يعبر عن واقع كرتنا اليوم!
وكتب مرة:
غير سبت مين في الهلال
والكوارتي الصال وجال
مع أمين سادوا المجال
وأمين هو الكابتن أمين زكي رحمه الله وكان مراقبا لنا في امتحانات اللجنة التي جلسنا لها في المدرسة الاهلية الوسطي التي أسسها الشيخ مصطفي الأمين في قلب السوق العربي حيث قبلنا بعدها في الخرطوم الأميرية الوسطي والكابتن أمين كان مدرساً في الأهلية.
كان يحفظ كذلك أسماء لعيبة المريخ عبدالله عباس وحزن الحزن كله عند اصابته في حادث دراجة بخارية والتقر وبرعي احمد البشير وجقدول وبشارة وسانتو وماوماوي ورفعت وهاشم محمد عثمان. كذلك كان يعرف نجوم الهلال : صديق منزول ، سبت دودو والكوارتي وأشول وزميلنا في الثانوية الريح جادين ومحمد حسين كسلا وسواهم في الساحة من الفرق الأخري علي سيد احمد وابراهيم كبير.
كان شقيقه الأكبر أحمد رياضيا يحمل الأثقال في نادي الخريجين قبالة سينما كلوزيوم مكان البنك الفرنسي السوداني حالياً وكان أخوه كثيرا ما يصحبه إلي هناك كما كان شقيقه الأصغر هاشما يجيد لعبة كرة القدم. ولعله مارسها في فرق الدرجة الثالثة في سنار وانتهي مشواره معها حتي أصبح وزيرا للرياضة .
وعندما انتقل كاتب ما تقرؤن الي الأميرية مدني خاب ظن زملائه الذين ظنوا أن حريفاً رياضياً متقناً قد قدم إليهم من العاصمة. ومع ذلك ظل يمارس لعب الكرة في الحي ، حي المزاد كسائر من في سنه لكنه لم يتميز فيها ببراعة ما ،وظل دوماً في مواقع الدفاع فيها. ويذكر بالخير هنا من أبناء الحي لاعب الأهلي المعروف وقت ذاك ، عبدالله شريعة رحمه الله وهو يزمجر كالأسد ( رجمنني) و ( نبر ماين)! وأفاضل كثر من أبناء ذلك الحي العريق.
ثم فترت الحماسة لمتابعة الرياضة وأخبارها.
استمتع بأولمبياد الألعاب الأولمبية الذي نظم في لوس أنجلس في العام ١٩٨٤ لما حوي من إبداعات في رياضات شتي والهالة الإعلامية الأمريكية التي صاحبت فعالياته. ثم تابع أحداثا رياضية لما صحبه من مغار إنسانية منها نهائيات بطولة كرة القدم الأمريكية حيث فاز فريق واشنطن العاصمة ( رد اسكنز ). ولم تنم أمريكا تلك الليلة لأن كابتن الفريق كان ( دوق ويليامز ) اسود البشرة! هل تصدقون؟! وكان الظن بالأسود أنه قوي الجسم يصلح ملاكماً وعداء ولاعب سلة ولكنه لا يصلح لرياضات تحتاج العقل وحسن التخطيط كالسباحة والغولف وسباق السيارات! قالها معلق رياضي يعمل في شبكة سي بي إس ففقد وظيفته علي الفور. والرد علي هذه الفرية لم يكن بالغضب وحده لكنه كان بالافعال لا بالمجادلة والأقوال : جاء تايقر وود الأسود ليتربع علي عرش الغولف خلفاً للأبيض جاك نيكلاس. واستثمر الرائع والكوميدي الاسطورة بيل كاسبي في سباق السيارات لتدريب السود عليه فلا يظل حكرا علي البيضان ومطية لتأكيد دونية الأسود . وتفوقت السيدة السوداء سرينا وليامز وشقيقتها فينوس في التنس وقد أرخ لنجاحهما الفيلم الذي حاز علي الاوسكار هذا العام ببطولة ويل اسميث ( كينق ريتشارد ) .وقد جاءتا في إثر الابيض جون ماكنرو..وتهاوت اسطورة التفوق الأبيض واثبتت الرياضة المساواة بين البشر إذا تساوت الفرص وهذا عين ما فعلته المغرب بفوزها المشرف في هذا المنديال فلله درها لا ينال من عظمة ما حققت إن لم تفز في نهاية المطاف بالكأس الذهبي فقد صنعت التاريخ .قال كاتب هذه السطور لنادل في مقهي في أقادير ( مبارك فوزكم!) فأشرق وجهه بشرا : مبارك علينا جميعا ،علي العرب والمسلمين والأفارقة! وبارك لبائع في سوق الأحد فرد الرجل: يبارك أيامك! انتصارنا عظيم لأن هؤلاء العجم يظنون أننا لا نقدر علي الفوز! نعم هذا مغزي تألق المغرب ، وكانت عزيمة تحقيق النصر هي حملة أوباما للرئاسة: نعم إن ذلك ( أي الفوز) بالإمكان yes we can! كذلك كان فوز المغرب دليلاً علي بقاء الوجدان القومي والإنتماء للأمة حياً متقداً.علق علي هذا التضامن الذي عجزت كل الأساليب الشريرة والخبيثة علي محوه وتقطيع عراه . عبر عن ذلك بطريقته الممثل الأمريكي بطل تايتانك ليوناردو كابريو :عند سقوط ذلك الطفل المغربي في بئر في الريف المغربي تجاوبت شعوب المنطقة بأسرها لأيام تدعو لنجاته. قال يقولون لنا : هؤلاء متخلفون؟ كيف يكونون متخلفين وهم بهذه الإنسانية والحب. كم من الأطفال يموتون عندنا في شوارع المدن الكبري بالجوع و الاهمال والجريمة دون أن يحفل بهم أحد؟!
تأثروا كذلك بالحميمية العائلية من عائلات لعيبة المغرب التي عبرت عنها أحضان الأمهات الدافئة. قالوا إنهم يفتقدونها كل يوم بتفشي بزواج المثليين والتفسخ والتفكك الأسري.

ومن مغازي هذه التظاهرة الرياضية أن التفوق والإنجاز علي كل الصعد ممكن بالمثابرة والعزيمة القوية واحترام الذات ،فشكرا لقطر الدولة النامية التي علمت كما المغرب المستضعفين عملياً هذه القيمة العظيمة فقد نجحت باقتدار في تنظيم هذا العرس الدولي كأحسن ما يكون النجاح ليس ذلك وحسب بل وفقاً لمعتقداتها وسياقها الثقافي والحضاري بما جلب لها احترام المنصفين في الغرب نفسه مؤكدين أن للشرق ما يقدمه للبشرية .ينبغي أخذ العبرة من ذلك حتي تنغرس هذه المعاني وتنداح في عالمنا لقيام النهضة الشاملة وحتي يعلم الكافة أن مضمار السباق متاح ومفتوح دوماً للتألق وتجويد التعليم واقتحام ميادين الصناعة والفعل المثمر. ثمرة أخري كبري وعظيمة في مونديال قطر : تأكيد الإخاء الإنساني. فعلي الرغم من التحامل السياسي والاعلامي فيما يتصل بقضية فلسطين فقد ثبت أن الضمير الإنساني ماذا حياً إزاءها والبطولات الرياضية ساهمت فيه بقدر واف.أحزنني القول المنسوب لرئيس الفيفا السابق بأن الكأس لا ينبغي أن يكون عربياً فدل ذلك علي أن صلته بالرياضة كانت صلة وظيفة لا غاية وهدف للتآخي الإنساني عبر الرياضة وخلق الروح الرياضية. لكني تذكرت بيضاً بلغوا ذلك الشأو في السمو الانساني فماكنرو الذي ذكرنا منذ حين كان غضوبا سريع الانفعال وصفه مرة بيتر جانقنز مذيع الاي بي سي بأنه ابن الغولف السئ الخلق، رفض اللعب في بطولة نظمها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وعلمت أن نجم البرتغال كرستين ماردونا مناصر لقضية فلسطين.
ولابد من وقفة إجلال للاعب البرازيل ولماردونا لقاء زرفهما سخين الدمع علي فقدان فريقيهما فتلك قيمة إنسانية في حب الأوطان:
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق.

اترك رد

error: Content is protected !!