الرأي

حزب الأمة هل غادر موقفه التاريخي من مصر؟

✍️ بروفيسور صلاح محمد إبراهيم

اتيح لي فرصة العمل بجمهورية مصر العربية خلال الفترة بين 1990 إلى 1995 بسفارة السودان بالقاهرة، كانت فترة العواصف السياسية الهوجاء وايضاً فترة  الحكمة والتعقل ، كان زمن الغضب والتراشق بين المعارضة في القاهرة  والحكومة في السودان ، وكان زمن الدبلوماسية الهادئة التي تقدر المصالح العليا المشتركة، وكان وقت صراع الأجهزة  والخوف من أن تفلت الأمور، ولكن كان أيضاً وقت ًالسيطرة واستخدام الحنكة السياسية في إدارة الملفات المعقدة.

   تزامنت فترة عملي مع  عدداً من الدبلوماسيين المحترفين  المرموقين  في وزارة الخارجية ، وكان في مقدمتهم السفير عزالدين حامد الذي ساهم في تعزيز علاقات البلدين خلال فترة التكامل السوداني المصري ، وكذلك السفير احمد الطيب الكردفاني الدبلوماسي الذي اصر هو وحرمه أن يقوم بوداعي بعد انتهاء فترة انتدابي إلى داخل كابينة الطائرة بعد أن استأذن ربانها  ، كان معنا سفراء اعزاء متمرسين مثل محجوب الباشا ، وعبد الرحمن حمزة ، وأحمد جعفر ،  وعادل بشير وحسن عبد  العزيز والوكيل الحالي دفع الله  الحاج  علي ،  بالنسبة لي وكل الطاقم كانت الفترة مزدحمة بالمشكلات والتوترات ، ولكن بفضل مهاراتهم وخبرتهم تجاوزنا كل الصعاب ، و مع معرفتي للعديد من الإعلاميين المصريين بفضل جهود بروفيسور علي شمو  فتحت لي كل الأبواب في تلك الأوقات الصعبة  التي سهلت مهمتي دون حواجز ، ورغم كل ما حدث تبقى علاقة السودان ومصر هي الأكثر أهمية وتحظى بالأولوية في كل الأوقات الصعبة والعادية.

 تابعت خلال تلك الفترة كل أنواع المعارضة السودانية من كل الوان الطيف بما فيهم الاتحاديين ومن حزب الأمة والحركة الشعبية لتحرير السودان، وغيرهم وشهدنا ندواتهم ومعاركهم وصحفهم ، وتعاملت معهم الحكومة المصرية بصبر وتفهم وحكمة ، ومهما تباينت المواقف بين السودان ومصر ، يظل هناك دائماً دور للقاهرة في كل الملفات التي ترتبط بالأمن القومي للبلدين والمصالح المشتركة بينهما.  

 علاقة الحزب الاتحادي الديمقراطي  بمعظم مكوناته الفاعلة في الساحة  السياسية السودانية هي علاقة تاريخية راسخة منذ ما قبل الاستقلال وهي لا تحتاج لتأكيد أو مزايدات ، وهي بلا شك تحت قيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني تظل ثابتة على مر الأيام ، وفي اعتقادي أن الكثيرين يتساءلون عن الدور المصري في ما يجري الان في السودان من حالة سيولة امنية وسياسية وغيرها، وأين تقف مصر من كل ذلك عدا الاتصالات الفوقية التي تتم بين قيادة البلدين على المستوى السيادي ، وهي اتصالات تؤكد دون الدخول في تفاصيل  على المحافظة على استقرار السودان وامنه، خاصة  عندما تقترب الأمور من نقطة الخطر الذي يهدد  الأمن القومي لوداي النيل، وهي نقطة   غير مسموح بتجاوزه بحكم الثوابت التي تحكم العلاقات السودانية المصرية بفهم مشترك  عبر كل الحكومات المختلفة  ، حتى عندما يحدث الاختلاف في بعض القضايا فإن هناك خطوط حمراء تتعلق بالأمن القومي للبلدين تتوقف عندها كل المساجلات .

 لعل خير مثال على ذلك  ما حدث خلال محاولة اغتيال الرئيس الراحل محمد حستي مبارك في اديس ابابا ـ والتي حامت حولها الشبهات والاتهامات ، وكان الموقف المصري متزناً وراقياً ومقدراً لعواقب التصعيد والمخاطر التي يمكن أن ينزلق اليها البلدان ، وشهدنا   التوتر الذي حدث حول القرار الذي اتخذته الحكومة السودانية حول المنازل وبعض المؤسسات المصرية قي الخرطوم ، والغضب المصري المنضبط حول الأمر ،كما أن قضية حلايب ظلت قضية خلاف يتم التعاطي معه بدرجة من التفهم والعقلانية المشتركة ، التاريخ السياسي للبلدين تاريخ حافل بأماني  الوحدة وتجارب التكامل السياسي والاقتصادي والبرلماني على مدى سنوات خلت و أحلام الوحدة لا زالت تراود الكثير من النخب في البلدين رغم سنوات التباعد بين عصر محمد نور الدين  وعصر بروفيسور علي شمو اطال الله غي عمره .

في اعتقادي أن المتغير الجديد في العلاقات السودانية المصرية هو ما حدث في علاقة حزب الأمة بمصر خلال السنوات الماضية قبل وفاة السيد الصادق المهدي رحمه الله ، واظن أن المهدي قد حظي خلال  بعض السنوات التي قضاها في مصر عبر سنوات متفرقة بقدر من التقدير أتاح له التفاعل مع الكثير من النخب المصرية ، ثم العلاقات التي تمددت بين السيدة مريم الصادق المهدي والكثير من الفاعلين المصرين خاصة في وسائل الإعلام ، كل ذلك قد غير   في ما يبدو  الصورة الذهنية التي علقت بمكون الأنصار وحزب الأمة عن مصر بعيداً عن صورة مصر في عقل حزب الأمة في نسخته  القديمة التي تولدت بعد زيارة محمد نجيب إلى السودان عام 1954 ، وما تمخض عنها من أحداث ظلت عالقة بأذهان السودانيين لفترة طويلة.

أظن أن الصادق المهدي و(المنصورة ) يمثلان على الأقل خلال العقد الأخير نقلة تعبر عن صورة ذهنية جديدة كسرت الحاجز الذي جاء بعد شعار ( السودان للسودانيين) الذي  جاء بتشجيع من بريطانيا لهزيمة  شعار وحدة السودان ومصر ، وهي سياسة بريطانية نجح الرئيس عبد الناصر في الانتصار عليها بعد زيارة محمد حسنين هيكل إلى السودان مع الشيخ حسن الباقوري في عام 1953، ومقابلته لكل من الزعيمين السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي ، والتي قام فيها هيكل بنقل صورة حقيقية للأوضاع في السودان ، كان من نتائجها فتح الطريق إلى استقلال السودان .

نقلت بعض وسائل الاعلام مؤخراً أن مصر تقوم بدور للتوفيق بين بعض مبادرات القوى السياسية السودانية، وإذا ما كان ذلك صحيحاً أم لا ، أقول ولماذا لا يحدث ذلك ؟  ولاحظت أن السيد مبارك الفاضل المهدي بين من  ورد اسمهم ضمن المبادرات ، وهو صاحب علاقة خاصة مع القاهرة ، ولكن في تقديري أن على كل من القاهرة وقيادة حزب الأمة في الطرف الأخر جوار القبة  ايضاً أن ينخرطا في حوار أكبر من ذلك تكون القاهرة طرفاً  ووسيطاً يجمع بين أكبر حزبين  في وحدة خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية ، وأقصد بالحوار الأكبر أن يلتقي كل من حزب الأمة بكل مكوناته والحزب الاتحادي الديمقراطي بكل مكوناته إلا من ابى في وحدة تخرج البلاد من الأزمة الحالية التي اصبحت تهدد الأمن القومي لوادي النيل، في ظل مخاطر إقليمية ومخاوف تتحدث عنها تقارير أجهزة المخابرات الدولية ومراكز الدراسات ، وحدة اشبه بلقاء السيدين الذي تم بعد تخلي الفريق عبود عن السلطة،  لقاء  ظل معلماً بارزاً في قدرة السودانيين على التوافق ، وأن يتكرر اللقاء  امر ليس بغريب أو  جديد فقد كان الحزبان شريكين  في حكومة الجبهة الوطنية التي سقطت مع انقلاب 1989، ويظل مثل هذا التوافق امراً مهماً وحاسماً في ظل الظروف والانقسامات التي يشهدها السودان الان ، واظن أن القاهرة تحتفظ بكل خيوط التواصل مع كل الفاعلين السياسيين في السودان بما يحقق حكومة القاعدة العريضة التي يتحدث عنها المجتمع الدولي.

اترك رد

error: Content is protected !!