مدونتي / حسن فضل المولي

حسن فضل المولى يكتب :من الكتياب إلى قناة النيل الأزرق (٢)الزيداب ، شندي ، الدامر ، عطبرة ..

و مضيت وحدي ..
في طريقٍ كنت أجده مُقْمِراً حيناً
و موحِشاً أحيانا ..
كانت خُطاي هي التي تقودُني
لا أنا من يُمسِك بخِطامها ..
و الصدفة وحدها هي التي تُدِير
مِقْوَدي ، و تحملني من فَجٍّ ،
إلى فَخٍّ ، إلى مُنعرَجٍ ، إلى مَتاهَةٍ ،
إلى مُستَقَرٍ و مُقامٍ كريم ، بلا حولة
مني ولا حيلة و لا قوة ..
و على امتداد مشواري و تقلباته ،
صعوداً و هبوطاً و انعطافاً ،
كنت أجد ..
( و كم لله من أمرٍ خفيٍّ
يدِقُّ خفاه عن فهم الذكي
و كم يُسْرٍ أتى من بعد عُسرٍ
ففَرَّج كُربَةَ القلب الشجِيِّ
و كم أمرٍ تُساء به صباحاً
و تأتيك المسرَّةُ بالعَشيِّ ) ..
أو كما قال أحدهم ..

و من الحُرَّة ..
سلام يا ( الوادي الحَمادين ) ،
و ( الشويرب ) و ( العِقيدة ) ،
و ( العالياب ) ، و ( وِهَيب ) ،
و ( الفِريخ ) ..
و جيناك يا ( الزيداب ) لأداء فريضة ( الامتحان ) ..
و ( الزيداب ) من حواضرنا ، حيث ..
( مشروع الزيداب الزراعي العملاق ) ،
و هو أول مشروع زراعي مَرْوي في
( السودان ) ، بل في أفريقيا ، إذ
أنشيء في العام ( ١٩٠٤ ) لزراعة
( القطن ) بغرض التصدير ..
و ( سوق السبت ) الذي كان يحج
إليه البائعون و المشترون و أصحاب
المآرب و الحاجات ، من كل الأنحاء ..
و أنا صغير و بعد أن حلَقْتُ رأسي ، ( رُحت ) في الزحام ، و لم يعثر عليَّ
والدي إلا عصراً ، قبيل موعد تحرك
( البص ) عائداً إلى ( الكتياب ) ،
و في ( البص ) نجلس على ( الكَنَب ) مُتقابلين ، و إن تعذر ( فشماعة ) ،
أو بي ( فوق ) ..
و هناك ( مستشفى الزيداب )
الشهير ..
و فيها ( المدرسة الوسطى ) العريقة ،
و التي أتيناها مُمْتَحَنين ..

و انقضت أيام الإمتحانات ..
و عُدتُ إلى ( الكتياب ) ..
و بعد انتظار مُمِض ، جاء اليوم
الموعود ، حيث تحَلَّقنا عصراً حول ( الرادي ) ، وكنت يومها أجلس
جِلسة ( القُرفُصَاء ) ..
و ( القرفصاء ) ، أن تجلس على
رُكْبَتيك ، و تُلصِق بَطنَكَ بفخْذَيك ،
و تجعل كَفَيكَ تحت إبْطَيك ، و هي جِلسة تعكس الترقُّبَ و التوَجَُّس
و التوَقُّعَ ..
كنت انتظر بفارغ الصبر انتهاء
( نشرة الساعة خمسة ) ، و التي سيعقبها ذاك اليوم إعلان توزيع الناجحين على ( المدارس
الثانوية العليا ) ..
يا رب ..
يا رب ..
يا ااارب ( شندي الثانوية ) ..
( شندي الثانوية ) بالنسبة لي ( غاية الآمال ) و ليس بعدها بعْدٌ ..
و كان عندما يُقال إن ( فُلاناً ) ، في
( شندي الثانوية ) ، انتهى الكلام ..
و هي الأقرب إليَّ مكاناً و هوىً إلى
إلى نفسي ..
و كنت إذ آتيها محمولاً على ( لوري )
أو في جوف ( بص ) و على ظهره
أحياناً ، بالطريق الغربي ، أبدأ رحلتي ..
بسم الله ( بالجابراب ) ابتديت ..
و ( الفادنية ) ، و ( سقادي ) ،
و ( قبة الشيخ نعيم ) ،
و ( حمودات ) ، و ( بقروسي ) ،
و ( الكِمَير ) ، و ( المِكْنِيَّة )
و ( الأُبيضاب) و ( كَلِي )
و ( الجَبَلاب ) و ( طيبة الخواض )
و ( المغاوير ) و ( الجوير )
( و قبة الشيخ ( سلمان
ود العوضية ) ، و ( النوراب) ،
و ( الفراحسين ) و الصُّفُر ) ،
و ( السيَّال ) ،
و ( المتمة ) ..
و لي ( شندي ) جيت ..

و ( شندي ) في وعيي يومذاك حَرْق ( المك نمر ) لي ( ود الباشا ) ..
الغنالو ( صنديد شندي اللحو ) ..
( نِمراً ما بِفِز حاشاهو كلا و حاشا
لَمَام للهمايل البي العتامير طاشا
ذو عفة وثبات و كرماً معاهو بشاشا
و تشهد دار جعل يوم حريقة الباشا ) ..
و كَم وُ كَمْ عَدَيْت بي ( بنطون شندي ) ..
( بنطون شندي عدا و جابا
يا ناس البريدا حبابا
لا قيتا في البنطون
زي الصيد عليها عيون
طِير ياحمام قوم بَيَّه
ودي ليها ألف تحية
للراقية أم شعوراً حيَّة )
و ( المستشفى ) ، و لما يقولوا ليك
( فلان ) مِوَدِنو ( مستشفى شندي )
فهذا يعني أن عِلَّته قد استحكمت
و استعصت على ( حَكِيم ) البلد ..
و ( شَنَّان ) ، ومنْ منا لم يسمع
( بشنَّان ) ..
و ( حَدَباي ) علينا جاي ..
و ( شندي ) فيها ( ساردية ) ،
و ( الأهلي ) ، و ( النيل ) ،
و ( الشاطي ) ..
وأُلو سبقٍ و ريادة في الرياضة ،
يومها و من بعد ..
( عامر جمال الدين ) ..
و ( محمد الشيخ مدني ) ..
و ( عبدالمجيد منصور ) ..
و ( عصام الحاج ) ..
و ( صلاح أحمد إدريس ) ..
و الحكم الدولي ( النعيم سليمان ) ..
و منقة ( شندي ) ، ما أحلاها ..
و العجب العجيب طعمية ( شندي ) المحطة ..
و جيب لي ( فَرْدَّة ) معاك من
( شندي ) يا المسافر ( شندي ) ..
و ناس ( شندي ) ، يا اللللله من
ناس ( شندي ) ..
و يا حليل ربوع ( شندي ) ..
( بلد الجمال عندي
الفيها نَمَا فني
و من المتمة أمان ) ..
و ياحليل ( عثمان الشفيع ) المِن ( شندي ) ..
و ( الطيب عبدالله ) من مواليد ( شندي ) ..
( يا أرض الحبيب كم لي فيك غرام ) ..
و ( حسين شندي ) ..
( الما كلَّ مل و ماقال انحَمَل
يا ولدي ) ..
و يُحكى أن فناناً شهيراً جهيراً ، جاء
إلى ( شندي ) و عندما صعد المسرح
بدأ يعزف طويلاً على العود فصاح فيه أحد الحضور : ( ياخي ما تسِيب “….. “
و تغني ، إنت قايل نفسك “حسين
شندي” ) ..
و ( محمد وردي ) درس ( الوسطى ) ،
و تخرج من ( معهد التربية لتأهيل المعلمين ) في ( شندي ) ، و غنى لي ( شندي ) و ( المتمة ) ..
( في شندي العظيمة تلقى بنات جعل )
و احدات في المتمة زي لون العسل
النايرات خدودن زي فجراً أطل ) ..

و بدأ ( المذيع ) يستعرض التوزيع ،
و قبل أن يأتي إلى ( شندي الثانوية العليا ) ، التي أترقَّبُ ، أتى إلى الطلاب المقبولين بمدرسة ( الدامر الثانوية العليا ) ..
و قلت : ( دي جات من وين كمان ،
يا خي ما تجيب لينا شندي ،
و تريحنا ) ..
و كانت المفاجأة لي أن ذُكر إسمي
من ضمن الطلاب المقبولين
بمدرسة ( الدامر الثانوية العليا ) ،
و هو مالم يخطر على بالي ،
و عَصَف بكل أحلامي و تعَلُقي ،
بل و عشقي ..
أنت تريد و الله يريد ..
و ( ياعبدي ..
أنت تُرِيد و أنا أُريد
و لا يكون إلا ما أريد
فإن سلَّمتَ لما أُريد كفَيْتُك ما تريد ،
و إن لم تسَلِّم لما أريد أتعبتك فيما
تريد ، ثمَّ لا يكون إلا ما أريد ) ..

حملت أشيائي و رجائي و مخاوفي ، قاصداً ( دامر المجذوب ) ..
و ( الدامر ) في مخيلتي ، تلك الصورة
التي رسمها ( توفيق صالح جبريل ) ..
( أيا دامَرُ المجذوبِ لا أنتِ قريةٌ
بداوتُها تبدو و لا أنتِ بَنْدَرُ
خرجنا قُبَيلَ الصبحِ منكِ و أنتِ
في غِلالة ِظلماءٍ فهل فيك مَنْ
دَرُوا ) !!
و غادرتها و أنا متيمٌ بحبها ..
( أراكِ تزيدين في عيني جمالا
و أعشق منك كل يوم حالا
تزيدين مَلاحةً و أزيد عشقاً
فحالي فيك ينتقل انتقالا ) ..
أو كما قال الشاعر .. و استقر بي المقام في ( الدامر
الثانوية العليا ) و التي دخلتها
و للأصيل ائتلاق..
و أول ما استقبلني من ( الدامر ) ،
هواؤها ، و هو هواءٌ نقيٌّ عليلٌ ،
يُلامس المُعتَّلَ فيشفى و يطيب ،
و قد عُرِفَتْ يومها بذلك ..
و من بعدُ إنسانها ..
و إنسان ( الدامر ) و ما حولها ،
مزيج من البساطة و الانبساط
و الأنِفَة ، يُقبل عليك ، إذ يقبل ،
بقدر ما يطمئن إليك و يأنس ،
و عندها ، إذا تَقرَّبتَ منه ذِراعاً
تقرب منك باعَاً ، و إن أتيته تمشي
أتاك مُهَرْوِلاً ..
و ( للمجاذيب ) فيها حضرة و مقام
و أنسام ، تنفحك و أنت ترتاد
( مسجد الشيخ المجذوب ) العتيق ..
و تملؤك باليقين و الرجاء ، و أنت
تحيا و تزكو و تزهو ، مع ( محمد
المهدي المجذوب ) في ( ليلة المولد ) ..
( ليلة المولد
ياسر الليالي و الجمال
و ربيعاً فتن الأنفس
بالسحر الحلال ) ..
و ديوانه ( نار المجاذيب ) ..
و في ( الدامر الثانوية ) ..
يالَهُ من آسرٍ الأستاذ ( أحمد
المهدي المجذوب ) ، و هو يُلقي
علينا دروساً في ( الأدب العربي )
من فمٍ إذا نَثَر الحديثَ حسبته نثر
الدرر .. و من ( التِميراب ) يتوهَّج العلامة البروف ( عبدالله الطيب ) ، و الذي
وسَمَ الدامر بأنها مليحةٌ تعلو على
ما سواها ..
(ففيك بنو المجذوب وأبناء بيرق
وابناء عبد الله والفضل يذكر ) ..
و في ( الشعديناب ) يشمخ ( أحمد قدور علي ) ، و أبناؤه من بعده
شُموس يُستضاء بها ، الأستاذ
( السر ) ، و البروف الفريق
( عمر ) ، و الشاعر ( عبدالمنعم )
و الشاعر ( محمد أحمد ) ..
و ( عكير الدامر ) ..
( همك كان جبل لُوك الصبر
بِتهِدُّو
مشوارك طويل كَرِّب لجامك
شِدُّو
كفّك للضعيف بالحسنة دايماً
مِدُّو
و الباب البجيب الريح أخير لك
سِدُّو ) .. و ( الدامر ) سوق ( الجُمال )
و عُموم المواشي ، من كل نوعٍ
و لون ..
و هي ( المديرية ) ، بكل سطوتها
و امتداد سلطانها ..
و ( السجن ) العَتِيد الذي كان
يُحشر فيه عُتاة المذنبين و الهمباتة
فاشتهر بهم و اشتهروا به ..
و ( بيوتات ) ضاربة في المجد
تتنسم فيها عبق العظمة و الميسرة ..
و ( حنة الدامر ) ، شهرتها تزحم
الآفاق ، و كلما اسودَّت تفعل ما
يفعله السحر بالنفوس من جذبٍ
و إغراء و إمتاع ، و سبحان الذي
أودع في هذه الأوراق الخضراء ‏
هذا اللون الأسود البهيم الذي
يمنح جمالاً و إشراقاً ..
و يرى بعض مفسري الأحلام أن
رؤية ( الحناء ) في المنام تشير إلى
الخير و السعادة ، ورؤيتها للمرأة ( المتزوجة ) تدل على أن زوجها
مخلص لها و يحبها ، و للعزباء
فإن أوان خطوبتها أو زواجها قد
اقترب ، و الله أعلم ..
و ( قهوة تَقَلاوي ) ، كنت أجد
( لشايِها ) مذاقاً يجعلني أُداوم
التردد عليها فرداً أو في جماعة ..
و في ( الدامر ) حظيت بمعرفة
أحد الصالحين الأخيار و هو
( محمد صالح الحسنابي ) ، فحبب
إلينا الاستقامة ، و قد كان يبذل لي
من الود مالا أجد له ما يكافئه
من الامتنان ، و اكثر من مرة و أنا
أزوره بمتجره بسوق الدامر ، كان
( يدِّسُ ) في جيبي ( عشرة جنيهات ) ،
أعود بها مبسوطاً ، و كأن الدنيا قد حِيزَت لي ، لحاجتي إليها و أنا أقضي أياماً بلياليها في شظفٍ من العيش
و ضيق ، و إن كنت أبدو و كأنني في
يُسرِ حالٍ و سعةٍ ..

و ( أنفقت في الدامر الثانوية العليا )
أنضر أيام عمري ، حيث هيأ الله لي
رفقة ًخياراً من خيارٍ في خيار ، وفدوا
من كل أرجاء الولاية ، و من أصقاع
بعيدة ، فكان كل منا يعطي أفضل
ما عنده و يرشف أفضل ما عند
إخوانه و رِفاقه ..
من ( حلفا ) جاؤوا ..
و منهم من جاء من ( أبوحمد ) ،
و ( مُقرات ) ..
و منهم من جاء من ( البسابير ) ،
و ( حجر الطير ) ، و ( حجر العسل ) ..
و منهم من جاء من ( حمرة الوز ) ،
و ( كاب الجداد ) ، و يُروى أن
طالباً في حصة اللغة العربية أراد
أن يتظارف مع الأستاذ فسأله :
هل نقول ( كاب الجَداد ) أم نقول
( كاب الدِجاج ) !!
و ( قاسم برنابا ) و شقيقه من
( جنوب السودان ) ..

و من ( القولد ) ابن أخ ( صديق عبدالرحيم ) ، كان معنا ..
( في القولد التقيت بالصديق
أنعم به من فاضل صديقي
خرجت أمشي معه للساقية
و يالها من ذكريات باقية
فكم أكلت معه الكابيدا
و كم سمعت اورو و الودا ) ..
و ( ود الفضل ) ، أراد أن يتوجه إلى
الله بكُلِيّته فاستغنى عن أغلب ثيابة ،
و أبقى على جلابية أو اثنين
و قصَّرهما ، و كان يأخذ ( رغيفة
الفطور ) فيجعل ثُلُثَها لافطاره ،
و ثلثها لغدائه ، و ثلثها لعشائه ،
و ينام في البرد خارج العنبر لكيلا
ينام عن ( صلاة الفجر ) ، فكان بيننا
من يرى في ذلك غُلوَّاً و تَنَطُعاً و من يراه حَنِيفَاً مُقبلاً على الله بكل
عزيمة و استغراق ..
و من ( نَقَزو ) استضاف ( مسرح
المدرسة ) فناناً لم نُلقي له بالاً
يومها و بعدها أدركنا أنه من أجمل
و أرق الأصوات و هو يغني :
( أقدار يانور عيني ) ..
و ( ده ماسلامك ) ..
و ( حد يقدر ينسى نفسو ) ..
( و آخر زاد ، و آخر خبر ، و حلم
الصبا ) ..
( مجذوب أونسه ) .. و وفقني الله لأكون خادماً لهم
و هم يختارونني ( رئيساً لإتحاد
طلاب الدامر الثانوية العليا ) ..
و صحبت بعضهم إلى ذويهم ..
في ( الحَصَاية ) و ( الجُبَاراب ) ،
و ( المِسَيَّاب ) ، و ( العَكَد ) ،
و ( الحِديبة ) ، و ( الفاضلاب ) ،
و ( أم الطيور ) ، و ( أبو سِلَيم ) ، و( خِليوة ) ، و ( كَنُّور ) ، و ( السلمة ) ،
و ( دارمالي ) ، و ( الباوقة ) ،
و ( العَبِيدية ) ، و ( الشًِريك ) ..
و بالطبع ( بربر ) ..


( في بربر السلوه و في الدامر الخلوة
بريدو
في عطبرة الصحوة و العفة كاسياني
بريدو
سوداني الجوه وجداني بريدو ) ..
و ( عطبرة ) ..
و ما أدراك ( ما عطبرة ) .. و يوم الخميس الفُسحة ( عطبرة ) ..
نعبر ( نهر عطبرة ) الذي يقوم
( برزخاً ) بين ( الدامر ) و ( عطبرة )
عبر ( كوبري الحديد ) التليد ، و هو
الأخ الأصغر ( لكبري الحديد
أم درمان ) و ( الخرطوم بحري) ..
و أول مرة رأيت فيها ( عطبرة ) ،
و أنا في ( الثانوية العامة ) ..
هفَّت لينا و أحد أصدقائي ، نمشي نشوف ( عطبرة ) للزمان ، و في أول الليل ذهبنا إلى ( حديقة البلدية ) ،
و انتحينا مكاناً قصِيِّاً ، و قلنا نضوق ( البيرة ) ، فأشِرنا على ( الجرسون ) :
( أدينا واحد بيرة و كبايتين ) ..
و قبل أن يؤتى إلينا ( بالشراب )
طفقنا نتحدث عن موضة الرسائل آنذاك فمثلاً كتب أحدهم إلى
صديقه :
( أبعث إليك بسلام حاااارٍ من
سويداء قلبٍ مُلتهب ، إذا مر
بالأنهار جفت و إذا و إذا مر
بالأشجار نشفت …. ) ،
فرد عليه صديقه : ( ياخ سلامك
البجَفِفْ و ينَشِفْ ده أمسكو عليك
لو جاني بجيب خبري ) ..
و قطع علينا حامل ( البيرة ) هذا
التداعي ..
و بعدأن تجرعنا منها قليلاً ، قال لي صديقي :
( الشِي دي مالا مُرَّة ومسيخة كَدِي ) !!
قلت له : ( أنا ذاتي ما قايلا كَدِي ) ..
فكانت المرة الأولى و الأخيرة التي أختَمِر فيها ..
و مشينا قضينا باقي الليل في ( المحطة ) ، و سط هدير
( القُطارة ) و الصباح بدري
رجعنا .. و لما كانت ( الدامر ) هي ( العاصمة
الادارية ) التي يكسوها الوقار
و الهدوء ، فإن ( عطبرة ) قد اتخذت طابعاً أكثر بهرَجَةً و حيوية و حِراكاً
و عِراكاً ..
و لا متين يجي الخميس ..
ومن عصر(اً) بدري علي ( عطبرة) ،
( عطبرة ) الحديد و النار و العمَّال
و ( العَجَّال ) ..

نعم ..
أكثر ما كان يدهشني مرأى (العجلات )
و هي تزحف ( كأسراب القطا ) ،
عندما تِرِد مساقط المياه ..
و على ذكر ( القطا ) أذكر ( قيس بن الملوح ) و هو يحِنُّ إلى ليلاهُ ..
( بكيت على سرب القطا اذ مررن
بي فقُلتُ ومثلي بالبُكاء جَديرُ
أسِرْبَ القَطا هَل من مُعيرٍ جَناحَهُ
لعلّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ
وأي قطاة لم تعرني جناحها
فعاشَتْ بضَيرٍ والجَناحُ كَسِيرُ ) ..
و كنا نطرب لأصوات ( القُطارة )
وهي تطلق ( صافراتها ) المدوية ..
و صفارة ..
( المحلي داخل عطبرة
يابلالي ليل ليلي انا
و البريدو يبرا من الشقا
يابلالي ليل ليلي أنا ) ..
و نتعشى فول عند ( اليماني ) ،
ده أهم حاجة ، و كنا نُشَبِّهُ فوله ( بالكَبدة ) ، بالفتحة وليس بالكَسرة ..
و كثيراً ما تَحمِلُنا أشواقنا إلى حيث
يسكن الفنان ( حسن خليفة العطبراوي ) ، على أمل أن نصادفه ،
طالع من بيتو أو راجع أو بِوَدِع ، و هو من أفعم جوانحنا بأغنياته الحرَّاقة ..
( مرحبتين بلدنا حبابا ) ..
و ( أنا سوداني أنا ) ..
و ( لن أحيد ) ..
و ( حبيبنا الما منظور ينسانا ) ..
و ( ديمه في العشاق القلوب مرتاحة ) ..
و عشرات الأغنيات الباهرات .. و في ( عطبرة ) عَرِين ( نقابة عمال السكة حديد ) ، و التي كان لها شنَّة
و رنَّة ، و كان صِيتُها ذائعاً في مشارق
الأرض و مغاربها ..
و في عطبرة ( السينما ) ..
و هذا أيضاً مما كان يجذب إليها
و يُحبِب فيها ..
و قد كانت الأسبق في هذا المجال ،
و هو ما أبَانَه البروف (هشام عباس زكريا ) ابن المنطقة ، و عِماد
( جامعة وادي النيل ) ، من أن أول
( سينما ) في ( السودان ) كانت
( سينما النجم الأحمر عطبرة )
و التي أنشئت في العام ( ١٩٣١ ) ..
و أخرجت عطبرة إلى الوجود أول
فيلم روائي سوداني ( آمال و أحلام ) ،
في العام ( ١٩٦٦ ) و الذي سهر على إنتاجه رائد صناعة ( التصوير )
و ( السينما ) في ( السودان ) ابن ( عطبرة ) الألمعي المصور
و المخرج ( الرشيد مهدي ) .. و كرة القدم في ( أستاد عطبرة )
لها طعم و نكهة ..
فهناك التشجيع على أصوله
و فنونه و جنونه ..
و يزداد تأجُجّاً و اشتعالاً عندما
( يلعب ) فريق ( الأمل عطبرة ) ،
ذلك أن جمهوره شرس وشديد
البأس ، فلو غلبتهم تِدَّقَا و كان
غلبوك تِدَّقا ، يعني الفريق
المنافس لهم في الحالتين
مَدْقُوق مدقوق ..
و أذكر عندما كنت في ( تلفزيون
السودان ) أرسلنا ( عربة التلفزة )
لنقل مباراة من ( عطبرة ) ، و كان
المخرج ( بدرالدين حسني ) ، رحمه
الله وغفر له ، و ( بدر الدين ) أعطاه
الله بسطة في الجسم و عُلُّواً ،
و ( كاريزما ) ، فتجمهر عدد من المشجعين حول ( عربة التلفزة ) ،
و في هذا الأثناء خرج ( بدرالدين )
من ( الكابينة ) ، فسأل أحدهم :
( إنتو ده منو الجِهامة ده ) ، فقيل
إنه ( المخرج ) ، فقال مندهشاً :
( بالله أتاريهو الإخراج ده صعب كده !! ) ..
و كنا في كل مرة نقضي ليلة
( الجمعة ) مع أصدقائنا في
( مدرسة عطبرة الثانوية العليا ) ،
و داخليتها الخمسة نجوم ،
نتسامر حتى الفجر ، و نصلي
الجمعة في ( مسجد عطبرة
العتيق ) ، و نعود عصراً إنتظاراً
ليوم ( السبت ) ، و يوم ( السبت ) ،
كان من أطول و أثقل الأيام على
نفوسنا في كل سني الدراسة ،
و نبتهج كثيراً بشروق شمس
( الخميس ) .. و هناك ما أُمسك عن ذكره
و الخوض فيه ، فقد دعاني
أستاذنا ( إبراهيم أحمد الحسن )
إلى تَفادي ( الدقْدَاق ) و ها أنذا
أفعل ..
و لعل آخر مرة أزور فيها ( عطبرة ) ،
يوم ١٩ يونيو ٢٠٢٣ ، مُعزيَّاً في
وفاة الأستاذ ( ميرغني أبوشنب ) ،
و الذي قدر الله له أن يُقْبَر هناك ..
و نحن جلوس في ( الفُراش ) ،
أخبرتُ صديقي ( صلاح عمر ) ،
أنني قد تواصلت مع الفقيد قبل
أيام ، و أنبأته أنني في ( الكتياب ) ،
و سآتي ( عطبرة ) لزيارته ، و ها
هي المقادير تجري في أعِنَّتِها
فآتي معزياً فيه ، رحمه الله
و غفر له .. و سلامٌ على ( عطبرة ) ..
و على ساكني ( عطبرة ، فهم أهل
حضارة و غضارة و نضارة ..
و سلامٌ عليك
المهندس ( علي محجوب ) ،
شاعر ( قطار الشوق ) ..
( قطار الشوق متين ترحل تودينا
نشوف بلداً حنان اهلها ترسى
هناك ترسينا
نسايم عطبرة الحلوة تهَدِّينا
و ترسينا
نقابل فيها ناس طيبين فراقهم
كان ببكينا ) ..
و إلى لقاء ..
والسلام ..

اترك رد

error: Content is protected !!