مدونتي / حسن فضل المولي

حسن فضل المولى يكتب : جمال الوالي … النُّضَار …

جمال محمد عبدالله الوالي
حسن فضل المولى

إنَّ من أشق و أرهق الأفعال إلى النفس
أن تتوخى ( الاعتدال ) و أنت تتحدث
عن إنسان تُحِبه أو آخر تبغضه ، فإنك
في الحالتين ترجو ( الله ) أن يعصمك
من ( تَجاوُزِ الحد ) و أنت تُقبل على
من تُحِب ، و يعصِمُك من ( تَجاوُزِ الحد ) و أنت تَنْأى عمَّن تبغض ..
و أنت تُقْبِلُ على من تُحب ، فإن ( الاعتدال ) لا يعني غمط الحق ،
لكنه إظهار الحق بحق و حقيقة
و استحقاق ..
و هذا ما أجدني أكثر حرصاً عليه و أنا أكتب هذا المقال بعنوان ..
( جمال الوالي … النُّضَار … ) ..
و النُّضَار هو الخالص من كل شائبةٍ
و زِيف ..
ذَهَبٌ نُضَارٌ ، و وجه نُضار ، و نفسٌ نُضار ، و ( جَمالٌ ) نُضار ..
و ( جمالٌ ) نُضارٌ يعني ( الحُسنَ )
الخالص ..
لكني أعني به هنا ، ( جمال بن محمد بن عبدالله الوالي ) الخالص ..
الخالص من كل شَيْنٍ و دَرَنٍ و وهَن ،
إلا ما يعتري ابن آدم من نقائصَ فُطِرَ عليها ، ذلك أن الكمال لله وحده ،
و المعصوم رسولنا الكريم وحده ..
و هكذا هوَ عندي ..
و هكذا هو عند من عرفه و خالطه ..
و عندما غُيِّب يوماً قَسْراً ، قلت إن
( جمال )حين توارى في تلك الغَيَابَة ، تبين للقاصي و الداني ، كم أن الرجل محبوبٌ و مُقِيمٌ في القلوب ..
إنني منذ أن عرفته فهو ( جمال ) النبيل ..
رفيق ، و رقيق ، و شفيق ، و أنيق ،
و ذو وجهٍ طليق ..
يجتهد في إنفاق ما يأتيه من مال ٍ،
حتى تكاد تشفق عليه و تقول لسائله :
إتق الله فيه ..
و تجده يسبقك إلى المسرات ،
و هو في الصدارة عند كل نازلة ..
حتى وهو بعيد ، يسبقك بالسؤال ،
و الإتصال ، و تفقُّد الأحوال ، و بذل
النوال ..
يعني في كل شأن هو ..
أمام ٌ، و إمامٌ ، و مِقدام ، و قِدااام ..

نعم ..
إني لأشهد أنه كان دائم الإنفاق ، سِراً
و علانية ..
إذا أقبل ، و طبعُه الإقبال ، فإنه
كالسحابة الوطفاء المِدرارة ، يُعطي
عطاء من تظن أنه قد آثرك بما لم
يؤثرك به أحدٌ من قبل ..
و كان لا يأتي هذا الصنيع عن حال
من يجلس على خزائن من ( ذهبٍ )
و ( دولار ) ، كما يظن الكثيرون ..
و لكنه ..
و كما أعلم عنه ، فقد كان كثيراً ما يُمسي وهو خالي الوفاض ، إلا من
يقينٍ راسخٍ بأن المال غادٍ و رائح ٌ،
و يبقى من المال الأجرُ و الأحاديثُ
و الذكر ..
كان دائماً يقول لي : ( أنا ما بقدر
أقول لي زول ما عندي و أنا عندي ) ..
و أذكر أنه في لقاءٍ ( ببيت الضيافة ) ،
ضم الرئيس الأسبق ( عمر البشير ) ،
و جَمعٌ من المغتربين ، قال لهم
( البشير ) عندما أشار أحدهم ( لجمال ) :
( يا جماعه جمال ده ماغَنِي ، لكنه
سخي ) ..
وفعلاً ..
تجده ( مَعْبَراً ) للمال و ليس (خازِناً ) ..
فمايأخذه من هناك ينفقه هنا ..
و ما يأخذه من ذاك يمنحه هذا ..
و إن لم يكن يملك ، فإنه يستدين
من أولئك لينفق على هؤلاء ..
و تجده في ذلك وَرِعاً عفيفاً ، لايأخذ
إلا بحق لينفق في حق ..
و لعله طيلة الفترة التي قضاها رئيساً لمجلس إدارة ( بنك الثروة الحيوانية ) ، فقد دخله نظيفاً و خرج منه أنظف ، لم يتقاضى أتعاباً عن ذلك التكليف ، و لم يقترض من البنك مليماً و احداً ، و من حقه ذلك ، كما يفعل معظم رؤساء مجالس إدارات البنوك ، و من ساوره شكٌ في قولي فليذهب إلى البنك
و ليسأل كما فعل البعض من قبل ، وهم يسارعون سؤالاً و نبشاً علَّهم يجدون مَذَمَةً يطيرون بها في الآفاق ..
و على هذا فقِس ، إذ أنه في كل
تعاملاته المالية يَتَحَرَّى الحلال ،
و يَتَقي الشُّبُهات ..

كان يحرص في كل موسم حج على
استئجار طائرة يحمل على متنها
فوجاً من الحجيج ، تجد بينهم ،
القريب إليه و البعيد منه ، الميسور
و الفقير ، ومن لم يكن يتوقع أن
يناديه المُنادي بهذه السرعه و هذا
اليسر ..
و تجده يسهر على راحتهم و ينشط
في خدمتهم و يحمل هم كل واحدٍ
منهم ..
و كنت مرة واحداً من هؤلاء ..
وترافقنا ونحن نؤدي مناسك هذه
الشعيرة ، وفي طريق عودتنا من
( عرفات ) راجِلين إلى ( مُزدلِفة ) ،
ثمَّ إلى ( مِنى ) ، و عند رمي ( الجمرات ) ، و ( الطواف ) ، كنت
أجده دائماً أمامي مُنطَلِقاً لا يلوى
على شيء ، و لم تفلح معه كل
محاولاتي في مُحاذاته ، مما جعلني
أُحَدِّث نفسي بأن ( جمالاً ) يشُق
عليك أن تسبقه في كل حالٍ و مآل
و مجال ، إذ أنه سابق في الخيرات ،
و بالخيرات نحو الخيرات ..
و كنت أُغْبِطُه ..
و الغِبطَة نقيض الحسد ..
الحسد أن تتمنى زوال النعمة من غيرك ..
و الغبطة أن تتمنى أن يكون لك مثل
ما لأخيك ، ولا يزول عنه خيره بل يزيد ..

ما أصاب الداء حبيباً لديه ، أو وقف
ببابه ذو عِلَةٍ ، أو تناهى إليه خبرُ مريضٍ
إلا و أسرع إليه ، و كان الطبيب المؤازرا ، قبل الطبيب المُدَاويَّا ..
و إبان فترة عملي ( في مصر ) ، و لفترة
تقارب الأربعة أعوام ، كان لا يمر بي وقت إلا و يزفُّ لي مريضاً أو أكثر ،
و كان يتابع مسيرة علاجهم صباحاً
و عَشِية ، فأتعب أنا و لا يتعب هو ،
و يناقشني بدرايةٍ في طبيعة العِلة
و ما يُناسبها من علاج و دواء ، و لعل
ذلك يعود إلى كثرة متابعته لمثل هذه
الحالات ، أو مما يتعلمه من حرمه
الطبيب الإختصاصي دكتوره ( نعمه
إبراهيم حسن النعيم ) ، و هي شقيقة
الدكتوره ( كوثر إبراهيم ) حرم الأرباب
( صلاح أحمد إدريس ) ..
و لقد شهدته عياناً ، و نحن في ( دبي ) عندما باغت الداء صديقنا ( عبدالعزيز برجاس ) ، فأسرع بنقله إلى مستشفى (سليمان الحبيب ) ، و رابعنا الوجيه ( أحمد القاسم ) ، سادِن ( الذهب )
و ( النفائس ) ، و رأيت ( جمال ) يلاحق الأطباء بالسؤال إشفاقاً ، حتى أنني كنت أشفق عليهما ، و عندما قرر الطبيب تنويمه ، و لأن في ذلك مخاطرة ، فقد كان يرجو الطبيب أن يتريث ريثما يفعل و يفعل ، إلا أن الطبيب لجأ إليَّ فأذنت له ، و بعدها غاب ( برجاس ) عن الدنيا ( ثلاثين يوماً ) حُسوما ، حتى ظننا أنه لن يعود إلى الحياة الدنيا بعد هذا الغياب الطويل ، و ظل ( جمال ) مُلازماً له ، ملازمة الود و العُشرة و المحبة التي انعقدت بينهما ..
و في يومٍ زارنا أحد شباب ( المريخ ) وهو يعمل و يسكن في ( الشارقه ) ،
و في المساء بلغ ( جمال ) أنه قد
أُدخل ( مستشفى الشارقه ) ، لإجراء
جراحه عاجله في القلب ، وهو مستشفى فخيم لا ينقصه شيئاً ، فما كان منه إلا أن وجه بنقله في تلك الليله ، إلى ( مستشفى سليمان الحبيب
الخاص ) في ( دبي ) ، حيث يرقد
( برجاس ) ، و أرسل إسعافاً ، رافقه أخي ( صديق كوباني ) ، و جاء به ،
على مقرُبةٍ من الفجر ، و أجريت له العمليه على أعجل ما يكون ..
و هو دائماً في مثل هذه الحالات
يجتهد و يتفانى في فعل و تقديم
الأفضل و الأجدى و الأنفع ، مهما
كلفه ذلك ..
و ليس ذلك و قفاً على العلاج ، فقد
شهدته و خبرته ..
فهو يجود عليك بالأحب إلى نفسه ،
و يمنحك مما يحب أن يقتني لنفسه ،
و يُحب لك ما يحبه لنفسه و أكثر ..
لا يَسْتَكثِرُ مالاً
و لا يدَخِر وسعاً
و لا وقتاً
و لا يحجِب وُداً و مَعَزَةً ..
و أنا واحدٌ من أولئك الذين غمرتهم
هذه النفحات ، و هذه اللطائف ..

ورد عن الشيخ ( محي الدين بن عربي )
أنه قال : ( لن تبلغ من الدين شيئاً حتى
توَقِّرَ جميع الخلائق ) ..
و لقد رأيت من ( جمال ) توقيراً للناس
لا يقدر عليه إلا أولو العزم ، ممن فاضت قلوبهم بالمحبة و الرضى
و اليقين ..
و هي محبة ، و رضى ، يتدفقان من
قلبه فيغمران مَنْ حوله ..
و لقد رأيت ذلك رأي العين ..
إذ أنه لم يكن يضيق بأحدٍ
و لم يكن يرُدُّ أحداً ..
على كثرة من يُلاقي
و على كثرة ما يطلُبُهُ مَنْ يُلاقي
و على كثرة ما يُلاقي مِمَّن يُلاقي ..
كنت أنا أجد في كل وقت أمام داره جمعاًمن أصحاب المآرب و الحاجات
يتزاحمون بالمناكب ، حتى أن أحدهم كان يظُن أو يُرَوِّج لأن هذا ( مستشفى )
و ليس مسكناً ، فقلت له : ( لماذا تدعهم يتجمهرون أمام المنزل
و فيهم و فيهم ، و قد ينالك منهم ما لايسر ) ، فقال لي : ( خليهم ، مافي حاجه بتحصل ) ، و هو يعرف جيداً
أن بينهم و بينهم وبينهم ..
و ذات مرة طلب منه أحدُهم أن
يَكُف عطاءه عن ( فلان ) ، فهو علاوةً
على أنه ميسور الحال ، فهو أيضاً ممن
يسيئون التصرف ، فكان رده أنه يعلم
ذلك ، و تمادى في وصله له و جزيل صِلاته ..
و مرة حكى لي ضاحكاً أن أحد أقربائه قال له : ( إنت كده بتْكَمِل قروشك ، طيب مادام مُصِر ماتدي طوااالي ، مَطْوِح الواحد شويه ، تعالي بكره ، أنا مسافر ، أو أي عذر ، عشان الواحد ما ياخد بالساااهل كده ) ..
و ضحِكنا ..
و بالطبع لم يفعل ذلك
لأنه لم يكن بطبعه كذلك ..
و أنا أعلم جيداً أنه يُعطي أناساً هم
أفضل حالاً منه و أغنى ..
و يعطي كثيراً و غزيراً و بلا انقطاع ،
حتى أنني مرة قلت له ، بدلاً من أن
تهَب و احداً كل هذا فاجعله لإثنين
أو ثلاثة ، فما استجاب و أعارني أُذُناً صماء ..
لم يكن يطيع أحداً أبداً ..
في منْ يُعطي
و كم يُعطي
و كيف يُعطي
و أين يُعطي ..

و ما رأيت أحداً مُبَرَءاً من شُحِ النفسِ مثل ( جمال ) ..
و هوَ عندما يُسأل لا يقول ( لا )
و في الدنيِّةِ لا تسمع منه غير ( لا ) ..
ذلك أنه قد جُبِل على أن يرى القبيح
قبيحاً و الجميل جميلاً ..
و أنا أخالط الناس كثيراً ، فما أن تأتي
سيرة ( جمال ) ، حتى تجد من يقول ..
عالجني أو عالج ( فُلان ) ..
أقال عثرتي أو عثرة ( فُلان )
برَني أو برَ ( فُلان ) ..
شاركنا في كذا ..
و جاءنا في كذا ..
و اتصل بنا في كذا ..
نعم ..
و أذكر هنا ، و أنا بمعيته بفندق ( قراند
حياة دبي ) ، حيث إنضم إلينا الطبيب
البارع ( حاتم أبوشورة ) و صادف أن كان ( بدبي ) شقيقه الودود ( حيدر أبوشورة ) ، و الذي دعانا لتناول العشاء على ضيافته بالفندق ذاته ، و قبل أن يحين الموعد ، أخبرني ( حيدر ) أن صديقه ( فُلان ) سيأتي بمعيته ، و هو رجل أعمال شاب يقيم ( بدبي ) و قال لي : ( عارف ياحسن صديقي ده لما عرف أني عازمكم و معاكم ( جمال ) ، أصرَّ أنو يجي معاي ، و أخبرني أن والده قد جمعه مرة هوَ و إخوانه ، و هم من أسرة ( أم درمانية عريقه ) ، و قال لهم
في أي مكان تلاقوا ( جمال الوالي ) ده ،
تكرموه غاية الإكرام ، فقد أكرمني
يوماً ) ..
و كثيرون رأيته ينفَحُهُم و يتلطف بهم ..
و كثيرون أسَّروا لي بما قدمه لهم ،
و تلك المآذق التي أخرجهم منها ،
حتى أني كثيراً ما أتساءل : كيف أُتيح لهذا الرجل فعل كل هذا ، لكل هؤلاء ،
بكل تلك الشهامة و المروءة الشماء ..
و لكن ..
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم
و على قدر الكرام تأتي المكارم ) ..

لا ينقاد أو يمضي و هو مغمض العينين ..
أبداً ، أبداً ..
له موقف ، و له رأي ، و له رؤية ..
إذا حاججته فإنه يحاجَّك الحُجة بالحجة ، و يصادم إذا اقتضى الأمر
مصادمة و منازلةً و مُناجزةً ..
و لكنه في كل الأحوال ، يفعل ذلك
إحقاقا للحق ، الذي يرى أنه بالإتباع أنفع و أجدر و أحق ، و ليس إنتصاراً للنفس أو ميلاً مع الهوى الأخرق ..
و أنا هنا أتحدث بما شهدت و رأيت ..
لقد أمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بيد رجل في المسجد ، وقال للحاضرين: ( من منكم يشهد لهذا الرجل ؟ ) «أي يضمنه» ، فقام رجل وقال : ( أشهد بأنه رجل صالح ) ، ثم جلس ، فأوقفه عمر وقال له: ( هل أنت جاره الأقرب؟ ) فقال: ( لا ) ، فسأله عمر : ( هل رافقته في سفر؟ ) ، فقال : ( لا ) ، فسأله عمر : ( هل عاملته بالدرهم والدينار؟ ) ، فقال: ( لا )، فإذا بأمير المؤمنين يقول له: ( اجلس أيها الرجل الطيب فإنك لا تعرفه ) .. ثم قال عمر للرجل بعد ما رد شهادته: ( لعلك رأيته يتمتم بقراءة القرآن في المسجد ، فغرتك هذه التلاوة ، فظننت أنه رجل صالح! ) ..
لقد عملنا معاً في مكان واحد ..
و ضربنا في الأرض معاً ، شمالاً و جنوباً
و شرقاً ..
و ترافقنا بالساعات ، و نحن نرتاد مراتع الأفراح ، و نغشى مضارب الأتراح ..
فوقفت على طرفٍ مما رويت ..
و وقفت على تلك المحبه التى كان يبذلها له مَنْ هم أمامه و وراءه ، و عن
اليمين و عن الشمال ..
و حتى عندما اقتحم مجالاً لا يُجْمِعُ
أهلُهُ على أحد ، و لهم رأي في كل من
يتقدمهم ، فقد كان الأمر جدّ مختلف بالنسبة ( لجمال ) ، و هو يتسنم رئاسة ( نادي المريخ ) ، و أنت تستمع إلى كثيرين ، و ليس كل ، و هم يتغنون ..
( لن نُوالي غير الوالي ) ..
( جمال الوالي رئيس طوالي ) ..
و في منحىً آخرٍ طريف ..
لقد ذهبت برفقته يوماً لتقديم واجب العزاء في شقيقة ( أبراهومة الصغير ) ، بحي ( ود أورو ) ، و صادفنا ( الهادي نصرالدين ) و هو أحد أشهر ظُرفاء
( أم درمان ) في مكان العزاء ، و كان يحمل ( لجمال ) محبة خاصة ، كنت شاهداً على كثير من مظاهرها ، وترافقنا معه ، لزيارة أحد الإخوة جوار ( مسجد الإمام عبدالرحمن ) ، في طريقنا إلى ( الثورة ) ، و قد دعانا بإلحاح للغداء فاعتذرنا ، فقال : ( طيب أقعد إنت يا الهادي ) ، فأجابه : ( يازول إنت ما نصيح ، غَدَا شنو البقعد أحْرِسو ، وأخَلِي ليهو جمال الوالي ) !!
محبة لا تُشْترى ..
و لا تُستلَف ..
و لا تُدَّعى ..
و لا تُصطَنع ..
و لا تأتي مصادفة ..
و لا يظُننَّ أحدٌ أنها محبة مردها إلى
إنفاق المال و حده ..
لا ، و كلا ..
إن مَرَدَّها إلى البذل بحب ..
و مباشرة الناس بحب ..
فيكافِئك الناس حباً بحب ..
و يَرُدون لك الحبَ أضعافاً مضاعفةً
من الحب ..
فتجد نفسك سابحاً في بُحيرةٍ من الحب ..
و تجد الحبَ يملأ قلبَك فتستحيل
بحيرةً عذبةً تعيش كلُ سوابِحِها في
حُبٍ و حُبٍ و حُب ..

و كما أن ( جمال ) محل حفاوة الآخرين
و ثنائهم ، فهو لا يفتأ يثني بكل ما أوتي من مشاعر نابضة بالوفاء ، يثني بكل الامتنان ، و بكل الغبطة ، و بكل عبارات المحبة على كل من أهدى إليه جميلاً ، و يُعظِّمهُ و يحدِّث به و يزهو ..
و أنا كثيراً ما حدَثني ، عن ذلك الذي
بسط له من المودة ما يُثلِجُ الصدرَ ،
و ذلك الذي آزره ، و ذلك الذي أعطاه
مما يحب و يضنُّ به الآخرون ..
و كما أن هناك أُناسٌ تصادفهم في
الحياة يَسْتَصْغِرون العظيمَ الذي
الذي يُساق إليهم ، فإن جمال يعْظُم
في عينيه الصغير الذي الذي تقدمه له
على استحياء ، بل و يفرح به و يُذِيعُه
و يُباهي ، و لسان حاله يقول ..
إن قليلَكَ لا يُقال له قليلٌ ..
و لكنه كثيرٌ كثير ..

و عَهِدتُ ( جمالاً ) مُقْبِلاً على أطايب الحياة و رونقها ..
يُقبل على الأجمل ..
و يختار لنفسه الأجمل ..
و يَهَبُ الأنضر و الأجمل ..
و يدعوك إلى حيث الأجمل ..
و معه تعرف من الأصحاب الأجمل ..
و يتوخى فيما يفعل و يقول الأجمل ..
و يطربه ( كمال ترباس ) ، بغنائه
و تطريبه الأجمل ..
( ما تهتموا للأيام
و ما تهتموا أصلو الناس حياتا ظروف
تتحكم تغير كل خط مألوف
و ما تهتموا للأيام
مصير الزول حياتو ياما فيها يشوف
و في دنيانا بنلاقي الفرح و الخوف
و ما تهتموا للأيام ) ..
و التِماس الجمال ..
و إشاعة المحبة من صميم خٌلق المتصوفة ..
و ( جمالٌ ) مطبوع على وَلَهٍ بالمتصوفة
و منجذب إليهم ..
كان قريباً من الشيخ ( عبدالرحيم البرعي ) ..
و كان قريباً من الشيخ الدكتور ( الجيلي عبدالمحمود الحفيان ) ..
و كان قريباً من كثير من أئمة التصوف
و شيوخه و أوتاده ..
فتعَلَم منهم و ارتوي من حياضهم..
و المتصوفة يَقبَلون الناس بعِلاتِهم
و يُقبِلون على الناس على عِلاتهِم ..
و لا يضيقون أو يتأففون من عِلاتِهم ..
و يُحَبِبُون إليهم ( الطريق )
و يُجَمِّلونه لهم
و يُذَكِرونهم أنَّ ..
( الأرض أرض الله
و المَقَامُ واسعٌ
و رب الدار كريم ) ..
و ليس هناك أبلغ مما ذهب إليه
شيخُنا ( محيي الدين بن عربي ) ..
( و أنا يا أهل الخير عَبدٌ مَحْضٌ لله ،
لا أطلب التفوق على عباده ، بل إني
أتمنى أن يكون العالم كله على قدم
واحده في أعلى المراتب ، فلا ضيق
في مراتبِ المعْرِفة و الكمال ) ..
و كذلك فقد ثبت لي ..
لا ضيق في نيل المعالي ..
و لاضيق في اكتساب الخيرات ..
و لا ضيق في تفريج الكُرُبات ..
و لا ضيق في السعي بين الناس بالمودة
و المسرات ..
و العاقبة للصادقين المتقين السابقين
بالقُرُبات ..

و ( جمال ) من قبل و من بعد..
تجده باراً بأهله و موصولاً بقرابته ،
و هو ينتمي إلى دوحةٍ أنى ذهبت تجد
لها فرعاً داني القطوف ، فمن ( الزيداب ) بنهر النيل ، إلى ( آل الأزرق ) بالقضارف ، و الذين هم أهل علمٍ و دين و كرم و نجدة ، و انتهاءً بالجزيرة ، هناك و هناك ، و هنا في
( فداسي ) ، حيث مسقط رأسه ،
و مقام ( أمِّهِ ) و ( أبيه ) و ( فصِيلتهِ
التي تؤوِيِهِ ) ..
و أبوه الشيخ ( محمد عبدالله الوالي ) ،
كان من قيادات المزارعين ، و قيادات
الإتحاديين ، و منارات الوجَهَاء ، و نال عضوية الجمعية التاسيسية ، و هو عالِمٌ و شاعرٌ تَنْسِبُه إلى فحول الشعراء ، و دونكم هذه الأبيات من قصيدته التي نظمها ناعياً فيها إبنه الغريق ( الصادق ) ..
( أملٌ تبَدَّدَ فاستحال سرابا
و منىً كَذَبْنَّ و كُنَّ قبل عِذابا )
و يمضي ..
( يا نيل قالوا إن ماءك نعمةٌ
يَهَبُ الحياة سعادةً و شبابا
يغشى اليباب فيستحيل مواتُه
روضاً يرف أزاهراً و خِلابا
ما بال مائك عَمَّ روضَ سعادتي
فأحاله بعد الحياة يَبَابا
يا نيل هل أدركت من غَيَّبْتَهُ
و منعته الأنفاسَ و الأسبابا
يا نيل هل أدركت موقع ”صادق”
مِنا و كيف زَكَا صِباهُ و طابا
يا نيل لو أدركت سرَ نُبُوغِه
و ذكاءه المُتوَقِّد الوثابا
ما كنت تجرؤ نِيِلُ أن تغتاله
و تسير فوق رُفَاتِه مُنسابا
و تخلِّف الآلام تَعْمُر رَبْعَنا
و الحزن ينشر فوقه أثوابا
لولا قليلٌ من تُقىً حصَنْتُهُ
بحِمىً من الإيمان عزَّ جَنَابَا
قد هبَّ يُلْهِمُني التصَبُّرَ و الرضا
بقضاء ربي صابراً أوَّابا
لهَلَكتُ حُزناً عند فقدي(صادقٍ )
أو عشت عُمري لا أحِيرُ جَوابا ) ..

و ( جمال ) تجده كثير الفخر ( بفداسي ) ، و ( الفدَّاسه ) ..
و حقّ له أن يفخر و يزهو ..
ففي هذه البلدة المعمورة التي تتوسط ( الحصاحيصا ) و ( مدني ) ، تجد
من الأخيار و العلماء ما يُدهِشُك ..
تجد فيها أساطين الطب ، و الهندسة ،
و الفقه ، و الزراعة ، و الإعلام ، و علوم الفيزياء و الكيمياء و الطيران
و الحيوان ، و فُصوص الحكمة ، و كل لغات الفرنجة و ألسنتهم ..
و نحن نشاطره العزاء في رحيل والدته ،
طَفِقتُ أُحدِّث من كان إلى جانبي عن
عظمة هذه البلدة و أهلها ، فأشرت
إلى جماعة من الناس كانوا على مقربة
منا ، يجلسون في وقار و تواضع
و تأدُّب ، و يرتدون أبسط الثياب ،
و يَحْتذون أبسط الأنْعُل ، و منهم من يرشف كوباً من الشاي ، و آخر يصلح عمامته ، و من هو حافي القدمين ، حتى تحسبهم لم يغادروا ( فداسي ) يوماً ، و ما عرِفوا ( الخرطومَ )
و ( أمدرمانا) ..
قلت له أُنْظُر ..
هؤلاء كُلُهم من هُنا ..
و هؤلاء جُلهم نوابغ و فطاحِلة
و جهابِذة ..
و كلهم مهوى أفئدتِهم مُرْضِعَتِهم الرؤوم ( فداسي ) ..
هذا بروف ( فلان ) ، و هذا بروف ( فلان ) ، و هذا اللواء ( فلان ) ، و هذا بروف ( حسن الزين ) الخبير الإعلامي ، و قد درسني في الجامعة ، و هذا البروف ( مبارك المجذوب ) المتخصص في أمراض الدم ووزير التعليم العالي ، و هذا البروف الفريق شرطة ( صلاح المجذوب ) اختصاصي المخ و الأعصاب و المحاضر ( بجامعة الرباط ) و هذا المهندس البروف ( الشيخ المجذوب ) و هو زوج شقيقة ( جمال ) و هذا الباشمهندس ( آدم عبدالله ) كان نائباً لمحافظ ( مشروع الجزيرة ) و هو زوج شقيقة ( جمال ) ، و هذا البروف ( بابكر الدرديري ) أستاذ اللغه العربية و قد درسني ، و هذا الشيخ الدكتور ( العاقب حاج إدريس ) أستاذ الإعلام ، و هو من تعرفت عليه إبان فترة عملي معيداً ( بقسم الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض ) ، و ذاك البروف ( نصرالدين محمد عبدالله الوالي ) مدير مستشفى الذرة ( مدني ) ، و هو شقيق ( جمال ) ،
و هناك المهندس ( عبدالمحمود سليمان ) مدير سودانير ، و إلى جواره
المهندس ( عمر يوسف ) مدير الإدارة
الهندسية لمشروع الجزيرة ، و هو زوج شقيقة ( جمال )، و هذا البروفيسورات ( محي الدين المجذوب ) عميد عمداء كليات الطب ، و قد رُوِيَّ لي أن دكتور ( الأمين محمد عثمان ) طلب منه مرة ( cv ) لتقديمه لمنظمة عالمية فنفد ما بالفاكس من ورق قبل أن تَنْفَدَ سِيرَتُهُ ، و لعل ذاك هو المهندس ( عبدالله خوجلي ) عميد كلية الهندسة بجامعة الخرطوم ، و أيضاً المهندس البارع ( أحمد خوجلي ) ، و الذي سلَّم علَّي قبل قليل هو زميل دراستي في الجامعة العالِم الشاعر ( المغيرة ) بن العالِم الورع الفقيه الشيخ ( محمد رملي ) ،
و الذي يجلس هناك هو ( محمد أحمد الجاك ) من أثرى الأثرياء في السودان ، و هو خال ( جمال ) ، و الذي أمامه
( سيف الوالي ) النافذ في الطيران المدني و هو شقيق ( جمال ) ..
و هنا أكثر من عشرين من العُلماء الأفذاذ ، الذين نالوا الدرجات العليا
من أرفع الجامعات الأمريكية
و البريطانية و الفرنسية ، و لعلك
لا تلمس فيهم غُروراً و لا عُلُوَّاً و لا استكبارا ، ولا يتَشَدَّقون و لا يُقَهْقِهون
و لا يَتَفَيْهَقُون ، و لا تصُدُر عنهم ( Yes)
أو ( No ) إدعاءً و تنَطُّعاً ..
و إذا انتفضوا و خرجوا سِراعاً و تِباعاً ، فتأكد أن وُجهَتهم ( المسجد ) ، أو
عائدين إلى أكنانِهم و أشغالِهِم ..

في هذه المنابت الطيبة نشأ ( جمال ) ، فأخذ من طَيِّبِها و طِيبَتِها و طِيْبِها
و أطايِبها و طُيُوبِها ، و كل مشتقات ( طاب يطيب ) ..
و المَنْبَتُ الحسن يورث أحسن الخصال ..
و لعل من محاسن الخصال أن تسعى
في قضاء حوائج ( الخلائق ) من الناس ..
و قضاء حوائج ( الخلائق ) يكون ببذل الجهد و المال و إحسان ( العلائق ) ..
و إحسان ( العلائق ) من أحب الأعمال
إلى ( الخالق ) ..
و ( جمال ) يسعى إلى مرضاة ( الخالق ) بالمداومة على العطاء ..
و هو عطاءٌ ..
مع نقاءٍ ..
في صفاءٍ ..
على حياءٍ ..
بصدقٍ و وفاءٍ ..
و إن عبادةَ اللهِ ، بالقيام على شئون خلقه ، و السعي في مصالحهم ، قد
تكون أشق على النفس من الجهاد
في سبيله ، و أرجى منفعة ، و أعظم
ثواباً ، و أقصر الطرق إلى رحمة الله
و ألطافه الخفيَّة و نِعمه السخيَّة ..
و يبقي من حُسنِ المحاسن أن تَلهَج
ألسنتُنا بما نرى ..
من صنائع المعروف
و صُنّاع المعروف
و مَراقِي المعروف
و ها أنذا أفعل ..
أفعلُ ذلك اتساقاً مع قاعدةِ أن تقولَ
لمن أحسن : ( أحسنت ، و أحسنت ) ..
و هو خُلُق نبيل يلزم أن نتواصى به
و نُشِيعُهُ ..
و بمعنى آخر ..
إذا أسديت معروفاً لأحدٍ فلا تَعْمَد
إلى التغني به و الافتخار حتى لا تقع
تحت طائلة الرياء ..
و إذا أصابك معروفٌ من أحدٍ أو رأيت
معروفاً ينالُ أحداً ، فلك أن تُحَدِّث به
و تُذيعُهُ ، لا و يُندب ذلك حتى تُحَبِب الآخرين في جَميل الفِعال و الخِصال ..
قال تعالى :
٣٩)وَ أَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى
٤٠)وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى
٤١)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى
٤٢)وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ..
صدق الله العظيم ..
و على الله قصد السبيل ..

و السلام ..
أم درمان .. ٢٣ يناير ٢٠٢٣

اترك رد

error: Content is protected !!