مكي المغربي
شهدت ندوة متميزة في طيبة بريس ضمن سلسلة منتدى بناء الديموقراطية، وفكرة المنتدى الاساسية عن مشاركة المواطنين في الديموقراطية، وهذا ما يطرح سؤالا أصعب، تصدى له محمد لطيف في بداية الندوة، وهو ما مدى ديموقراطية المواطن السوداني؟ وهو سؤال أعمق من هل هو يرغب في الديموقراطية؟ فالرغبة موجودة ولكن السؤال هل يمارس الديموقراطية ويتحمل نتائجها وتبعاتها وعيوبها؟!
الندوة هي ورقة “الاعلام في نظام ديموقراطي” من تقديم الدكتورة هند عباس حلمي، والجلسة برئاسة الأستاذ المخضرم، محمد عبدو السيد.
أجادت هند في الورقة وأعجبتني منها نقطة “الإتصال السياسي”، وهي تفسير واقعي للمزاوجة بين الاعلام والسياسة وهذا أمر لا مفر منه، وقد يتم التعبير عنه بطريقة إتهامية وهي “تسييس الإعلام”، وكأننا نرفض إستخدام الاعلام في السياسة وهذا تطرف مهني للصحافة ولا يخدم غرض الاصلاح والمعالجة بتاتا.
الورقة أشارت الى جهود سابقة من اليونسكو وغيرها، والحلول التي تم تقديمها لخدمة الانتقال.
نقطتي في الندوة كانت هي أنه من مشكلات السودان التي سقط فيها الاعلام والاعلاميون في هذا الانتقال الحرج -في الغالب وليس كلهم- هي تصوير الصراع أنه بين الحق والباطل، وهو ليس كذلك، ولم ولن يتجسد الحق كل الحق في معسكر، في مواجهة الباطل كل الباطل في معسكر.
قد ينقسم الناس، لكن يوجد حق، وحق نسبي، وخطأ، وخطأ نسبي، هنا وهناك وكل معسكر فيه الخير والشر يختلطان معا.
الاعلام عند بعضهم مضى في هذا الاتجاه من الفرز والتصنيف الحاد، ولكنه فشل في النهاية، بل هو في تقديري من اسباب عودة النظام السابق، كما يردد البعض ولا أتفق معهم.
ولكن أقول كيف لا يعود؟! عندما تقول لا يوجد غير (س) و (ص) هذا يعني أنه لو فشلت (س) بنفسها أو بفعل فاعل، يعني بقاء (ص) وحدها، لأنك قلت وبتشدد لا يوجد خيار ثالث.
لكن لو قلت يوجد أ، ب، ت، ث، .. بما في ذلك س،ص، ع وغيرها وأن القسمة ليست على صفين أو معسكرين وليست ثورة و ثورة مضادة فقط لا غير، بل هنالك تعدد وتنوع، هنالك دعاة تغيير جذري، ودعاة تغيير متدرج، ودعاة اصلاح بدون تغيير، ودعاة محافظة على القديم باصلاحات محدودة، وهنالك رافضين جذريين التغيير، وهنالك شريحة كبيرة من الصامتين لا يجوز لاحد الحديث باسمهم إلا بعد التجربة الانتخابية.
اذا كان الكلام حق مكفول، الصمت أيضا حق مكفول، واذا كانت الانتماء حق، اللاانتماء أيضا حق.
أعتقد، مجرد التفكير بهذه الطريقة عن تعدد الاصناف، حتى دون الافصاح كان أفضل من الارهاب الفكري الذي مورس لفترة سابقة بقسمة السودان الى أهل الجنة وأهل النار.
من الطرائف ان جدل المفاضلة بين التغيير والاصلاح أصلا ليبرالي غربي، لأن هنالك من يعتقد ان الديموقراطية الليبرالية ليست تغيير سياسي إنما تحتاج الى “هندسة إجتماعية”، وهذه العملية تحتاج الى تراخي المجتمع والتأثير المستمر فيه، وهذا يتم بدعم الاصلاح والاصلاحيين في اي نظام بدلا من “صدمة التغيير” التي تعصف تماما بعملية الهندسة الاجتماعية وربما تفضي الى هزيمة مشروع التغيير وعودة النظام السابق كاملا.
هذا ما يقوله البروفيسور الأمريكي جون ميرشيمر رائد مدرسة الواقعية الأمريكية.
يمكن مشاهدة محاضرته في يوتيوب
The False Promise of Liberal Hegemony in US foreign policy
ميرشيمر كان من رافضي احتلال العراق، وكل ما حذر منه حدث بالشولة والنقطة، وهذا ما جعله سيد المنابر بلا منازع.
الخلافات الأمريكية الداخلية ممتعة للغاية وهي لا تظهر في مجموعات المناصرة ولا الميديا التي يتكدس فيها الناشطون، تظهر في مراكز الدراسات، وحتى في المراكز تظهر في المناشط التي تحدث قبل اتخاذ قرار كبير، ولكن بعده تتحول المناشط الى اخراج وتوجيه للقرار وليس صناعته.
عودة للندوة في طيبة بريس، وأجد الدكتورة هند ناقشت مرة أخرى جانبا مما ذكرت في نقطة المؤثرات على الاعلام ومن ضمنها “الصراعات ااسياسية”.
في الندوة نقاش حول ضرورة وجود وزارة اعلام من عدمها.
أنا شخصيا مع بقاء وزارة الاعلام واعتقد ان تصوير قرار الالغاء بأنه اكثر ديموقراطية لان الدول الديموقراطية اتخذت هذا القرار تصوير خاطيء للغاية.
هذا مجرد تعويض عن عدم دمقرطة حقيقية للاعلام.
اولا، غير صحيح أن عدم وجود وزارة اعلام في بعض الدول الغربية يعني أنه لا يوجد اعلام حكومي، أو سيطرة حكومية في تنفيذ قوانين منظمة للاعلام.
أذكر انني نظمت زيارة لادارة الاعلام الخارجي في وزارة الاعلام لواشنطون ابان عملي في السفارة، وهنالك وجدوا أن كل ما يقومون به من تنظيم وتقنين الصحفيين الأجانب تقوم به ادارة حكومية في وزارة الخارجية الأمريكية.
الصحفي الأجنبي والميديا الأجنبية لديها قوانين ولوائح تنظمها.
وزارة الدفاع لديها اعلام، البيت الأبيض لديه اعلام، أي مصلحة حكومية لديها قسم اعلام ولديه صلاحيات فيما يليه، ويضاف لهذا مؤسسات اعلامية حكومية تنفق عليها الدولة.
بمعنى أنه توجد وزارة اعلام مقسمة على كل الوزارات.
هذا لو حدث في السودان، وظهرت مزاعم بأن التنسيق ممكن ان يتم بين وزارة الاعلام “,المفككة” هذه سيكون مجرد أحلام.
نحن نشتكي من عدم التنسيق بين وزارة المالية وبنك السودان كيف يمكن أن تتوقع تنسيقا بين قسم الاعلام في وزارة النفط، و مصلحة السجون؟!
انا مع بقاء، بل وتقوية وزارة الاعلام، لأن فرز وتقسيم صلاحياتها لا يتحقق بالالغاء.
لو قيل يمكن أن ينشأ مجلس إعلام بصلاحيات أقوى في التنسيق، هذا يعني تغيير المسمى من وزارة الى مجلس، مجرد “ميكياج ديموقراطي”.
ختاما، شكرا للندوة وللعصف الذهني الراقي والاحترام والتقدير الذي كان فيها.