✍️ د. أحمد عبد الباقي
اعتقد القدماء أن التماسيح تذرف الدموع فقط عندما تهاجم ضحاياها وتأكلها، إما كمصيدة لإغراء الفرائس أو بدافع الانفعال بعد فعلها الشرس بالتهامها، واستمر هذا المفهوم عبر القرون حتى العصور الوسطى، كما ورد ذكر المفهوم أيضا في عدة لغات من بينها الإنجليزية منذ القرن الرابع عشر، ومن ثم صارت المقولة مضرب للمثل يُوصف به من بني البشرمن لم يكن صادقا في مشاعره أو تعاطفه تجاه الآخرين خاصة عند المصائب، من المضحك أن الدرسات العلمية أثبتت لاحقا أن التماسيح فعلا تبكي حين تلتهم فريستها ولكنها لا تبكي بدافع العاطفة أو الكذب والادعاء وإنما لأسباب بيولوجية، بل هنالك حالة طبية نادرة تصيب البشرى أيضا تسمى “متلازمة دموع التماسيح”، والتي يذرف المصابون بها الدموع أثناء تناول الطعام بسبب تلف عصب الوجه، ولكن تعبير دموع التماسيح ظل قوياً بما يكفي ليعيش آلاف السنين حتى يومنا هذا و بنفس الاعتقاد الذي ساد من ذي قبل مع أن العلم أثبت أن التماسيح تذرف دموعها لغير ذلك.
نستعرض في هذه المشاركة كيف أن الأمم المتحدة و الدول الغربية تذرف دموع التماسيح علي حال السودانيين وهي لا تفعل ما يكفي لمساعدتهم ماليا لتخفيف وطأة الظروف الاقتصادية المعقدة و لإنجاز التحول الديمقراطي ذلك الحلم الذي يرواد تحقيقه الشعب قاطبة.
اعتمد الاستعراض علي مقال تحت عنوان: ” كيف خذلت الأمم المتحدة و الدول الغربية السودان How the U.N
and the West Failed Sudan
لكاتبه Justin Lynch نُشر المقال علي موقع مجلة فورن بوليسي في يوم 3 مايو 2022م رابط المقال: https://foreignpolicy.com/2022/05/03/un-usa-sudan-failed-hamdok-revolution/ المجلة امريكية الأصل و تصدر منذ عام 1970م وهي تهتم بالشؤون الدولية و المعاصرة ولها محتوي ينشر يوميا علي موقعها الإلكتروني وتصدر كل شهرين عددا مطبوعا أي بواقع ستة أعداد خلال العام.
بعد ثورة ديسمبر في 2018م وعدت الأمم المتحدة و بعض الدول الغربية و أمريكا بصفة خاصة بتوفير مساعدات مالية ضخمة لدعم السودان حتي يتعافي وصارت الحكومة الإنتقالية تباهي بتلك المساعدات و يلهج لسانها بالثناء صباح مساء، بل استخدمتها كمعيار يدل علي تعاطف الغرب مع الشعب السوداني وثورته.
بعد 25 اكتوبر 2021م انفض سامر شركاء التشاكس، و انفرد الجيش بدفة الأمور، ثم كثرت الوفود جئية وذهابا رافعة عصا تلك المساعدت وهي ترفض خفضها أو إنزالها ما لم يتم تسليم السلطة للمدنيين دون الإشارة إلي ما هو التفويض الذي يتم بموجبه تسليم السلطة للمدنيين أو أي المدنيين أحق بتسلم تلك السلطة من الجيش (في ظل تشظي الأحزاب السياسية و المكون المدني وحتي العسكري لم يسلم من ذلك)، وللعلم فإن الحكم المدني الذي ينادي به بعض الناشطين و بعض الدول الغربية بهذه الصورة لا أصل له في علم السياسية، أي لا مجال للحديث عن حكم مدني مقابل حكم عسكري، بل أن نظام الحكم حسب أدبيات العلوم السياسية إما ديمقراطي أو شمولي أو إنتقالي.
مرت ثلاث سنوات و الساقية ما زالت مدورة كحال “حجوة أمّ ضبيبينة”.
المساعدات المالية المذكورة تشمل:(700) مليون دولار التزام أمريكا لدعم التحول الديمقراطي إضافة إلي 600 مليون دولار أخري تقدمها كمساعدات سنوية لدعم التحول ومساعدات إنسانية، كما أن الأمم المتحدة أنشأت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية (يونيتامس)، عقد الرئيس الفرنسي مؤتمرا دوليا للمانحين لدعم الحكومة المدنية، كما أن لسفارات الدول الغربية المعتمدة لدي السودان مساعدات مماثلة ليصل حجم تلك المساعدت مجتمعة بليون دولار سنويا (حسب زعم الكاتب) خُصصت – حسب ما هو معلن عنه- لتقليل حدة الفقر، مكافحة العنف ودعم الديمقراطية.
المساعدات المذكورة اعلاه بإستثناء الـ (700) مليون دولار (التي وعدت بها أمريكا) لم تمنح كشيكٍ لرئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك أو السودان، بل صُرفت عن طريق مكتب الأمم المتحدة في السودان، المنظمات الطوعية، والمقاولين، و بالطبع لا أحد يعرف كيف توزع بنود الصرف أو من هم المقاولين وكيف يتم إختيارهم؟.
بنود الصرف الموضوعة لهذه المساعدات تشمل: مراقبة العنف في السودان، شراء القمح ودفع مرتبات مكتب د. عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الأسبق، و حسب رأي الكاتب أن القدر الذي صُرف من هذه المساعدت لم يتم وفقا لما هو مُعلن ولم يحقق النجاحات المرجوة بل انها ضئيلة جدا لدرجة أنه لم يذكر نوعها.
أهم ما أشار إليه الكاتب أن تلك النجاحات فشلت في مخاطبة الجذور الأساسية للعنف و الفساد كما أنها ذهبت مصالح خاصة لأفراد لم يسمهم.
حتي نهاية 2021م لم تف أمريكا بمبلغ الـ (700) مليون دولار التي تعهدت بها كما أن العديد من السفارات الغربية واجهتها إشكالية في كيفية صرف هذه المساعدات رغم أنها مولت بعض وكالات الأمم المتحدة و عددا كبيرا من المستشارين و برامج تدريبة، وأن معظم البرامج الممولة تفتقر للترتيب والتنسيق مما جعل الكثير من المنفذ منها مكررا وضرب الكاتب مثلا علي ذلك أن ثلاث جهات متبرعة أخبرته أنها مولت برامج تتعلق بأشغال للاتصالات نفذت في مكتب د. حمدوك و كانت ثلاثتها علي ذات النمط، الأمر الذي في تقديري يطرح إحتمالية وقوع شبهة للفساد في تنفيذ تلك الأشغال.
وصف الكاتب أن د. حمدوك كان يحتاج للمساعدات بصورة مباشرة لتنزيل أسعار الكهرباء والخبز و دعم أنصاره من السياسيين ولكنها عوضا عن ذلك صرفت تلك المساعدات علي جيش جرار من المستشارين الأجانب الذين لا يعرفون شيئا عن الأوضاع الداخلية في السودان مما جعلهم تطبيق برامج ذات تكاليف مالية باهظة إلا أنها حققت نسبة للنجاح ضئيلة جدا.
أدعي الكاتب أن حمدوك كان يرغب في دعم أنصاره من السياسيين من تلك المساعدات، مما يضع علامة إستفهام كبيرة حول مدي حيادية د. حمدوك بوصفه رئيس للوزراء ساعتئذ، وبالتالي كان عليه أن يتصف بالقومية والوقوف من الجميع علي مسافات واحدة .
أشار المقال إلي أن بعض وكالات الأمم المتحدة ترغب في الإستئثار بالمساعدات المالية لتصرف علي ميزانية تسييرها وليس التركيز علي حاجة أصحاب المصلحة، وضرب مثلا علي ذلك بأن مديرة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بالسودان تري أنه لا ينبغي أن تحتفظ بعثة الأمم المتحدة في السودان بقوات حفظ للسلام وذلك بغية توفير ميزانية تسيير كافية لوكالتها وليس لدعم الحاجيات الحقيقة لأصحاب المصلحة، يأتي هذا التصرف من هؤلاء القوم في الوقت الذي تحتاج -مثلا-فيه دارفور لقوات حفظ الأمن المتفق عليها في اتفاقية جوبا للسلام و ينقصها التمويل المالي ، فلك أن تتأمل في سلوكهم وهم يصكون آذان الجميع بحديثهم وتصريحاتهم عن دعهم لقضايا الإنتقال ويذرفون دموع التماسيح علي حال الشعب السوداني والمحصلة فشلا ذريعا باعتراف بعضهم.
اتهم كاتب المقال القوات الأمنية بالوقوف ضد وصول المساعدات الأجنبية للسودان وأنها فاسدة كما كانت في زمن البشير، وهنا يناقض الكاتب نفسه في الجزئية المتعلقة باعتراض قوات الامن السودانية وصول المساعدات الأجنبية للسودان، فإن صدق قوله، فكيف حصلت السفارات والمنظمات و وكالات الأمم المتحدة علي تلك الأموال التي صُرفت كما جاء في في المقال.
خلص المقال إلي أن دور المجتمع الدولي في السودان يشف عن مدي محدودية المساعدات الأجنبية وعدم جدواها، كما أن الوهم الذاتي و الإهمال حالا دون دعم الحكومة السودانية و المنظمات التحول الديمقراطي الدائم وبالتالي نجم عن ذلك خذلان الأمم المتحدة والدول الغربية السودان.
نصح الكاتب الجيش السوداني والسياسيين مذكرا إياهم بأن تحديد مصير بلادهم يقع علي عاتقهم وحدهم، منوها إلي أن إرث العنف و الفساد مازال مستمرا حتي بعد سقوط البشير مما يعني أن التحول في السودان يمر دائما بمطبات، هذا إذا قدر له النجاح أصلا علي حد قوله.
همسة:
علي الشعب السوداني الاعتماد علي النفس وزيادة الانتاج لتوفير الدعم الكافي لحل قضاياه، والمساعدات التي يكثٌر حديث الدول الغربية عنها تسببت حقيقة في تعطيل التحول الديمقراطي و حالت دون استفادة السودان حتي الآن من الأموال التي اُفرج عنها، وعليه أري أن تشد الحكومة مئذرها ” تملأ قاشها” -بعد أن شهد شاهد من أهلهم- لتُمعن النظر في المقال لمعرفة المزيد من التفاصيل والتحقيق في الإدعاءات والإتهامات والشُبهات الواردة حول بنود صرف المساعدات والبرامج التي تقدمها وكالات الأمم المتحدة و المنظمات الطوعية، كما يقع علي عاتق وزارة الشؤون الإنسانية الإطلاع بدورها الرقابي علي عمل وبرامج وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الطوعية (أجنبية و وطنية) العاملة في السودان و مراجعة مدي تقيدها بالتفويض الممنوح لها، و مدي موائمة نشاطاتها مع القوانين الوطنية المنظمة للعمل الإنساني الطوعي والمطالبة بتوسيع مشاركة المنظمات الوطنية دون محاباة.