ثُمر المداد / د. أحمد عبدالباقي

ملامح من التعايش العرقي في ماليزيا:دروس وعبر

التعددية الاجتماعية والثقافية واللغوية والدينية ظاهرة ملازمة للطبع البشري، يعزز من أواصر تلك التعددية الاعتراف بذلك التنوع ورعايته لرسم لوحة تجسد فسيفساء اجتماعية بديعة الصنع، زاهية الألوان يوائم بينها التعاون والمصير المشترك.
تبلورت عدة نماذج لتلك الفيسفساء و في عدة دول ليضحي التنوع الثقافي والعرقي والاجتماعي فيها مظهرا من مظاهر عظمة إنسان تلك الدول و نجاح قيادتها في إدارة هذا التنوع، و من بين هذه الدول، رسمت ماليزيا لوحة جمالية تفوق قوس قزح في تناسق ألوانها فتكونت لوحتها مما يلي:

تحفة فنية متناسقة الألوان

بلغ تعداد سكان ماليزيا حسب إحصائيات إدارة الإحصاء الماليزي لعام 2021م (32.7) مليون نسمة مكونة من ثلاث عرقيات أساسية وهي:عرقية الملايو (Bumiputra) يمثلون (69.8%) وتليها عرقية الصينيين بنسبة (22.4%) ثم عرقية الهنود بنسبة (6.8%).

تبع التنوع العرقي تنوع في الديانات والملل والنحل علي النحو التالي (وفقا لإحصائيات إدارة الإحصاء الماليزية لعام 2021): بلغت نسبة المسلمين (61.3%) ، النصاري (9.2%)،البوذيين (19.8%)، الهندوس (6.3%) ، ملل أخري (0.4%)، لادينيين(0.7%)، الكنفوشية والتاوية أو الطاوية (1.3%)؛و غير معروفي الملل والنِحل (1.0%).

تتوزع هذه العرقيات جغرافيا علي (13) ولاية و (3) مقاطعات اتحادية ( كوالالمبور، بتراجايا ولابوان)، يقسم بحر الصين الجنوبي هذه الولايات إلي شبه جزيرة الملايو و شرق برونيو (صباح وسراوك)، لكل ولاية من هذه الولايات دستور مكتوب، مجلس تشريعي و مجلس تنفيذي (مسؤول أمام المجلس التشريعي)، يرأسه كبير الوزراء. أما المقاطعات الإتحادية فهي تتمتع بنفس وضعية الولايات ولكنها ليس لديها مجالس تشريعية ويترأس كل واحدة منها عمدة.

العقد الاجتماعي بين مكونات المجتمع الماليزي

جلب الإحتلال البريطاني(1867-1957م) هذه العرقيات لتبية احتيجات الامبراطورية البريطانية الاقتصادية، و عمل معظم الوافدين مع الاحتلال في مناجم القصدير (الصينين) وبعضهم الآخر (الهنود) في مزارع المطاط.

في مفاوضات الاستقلال، طالب الملايو حينها بخروج تلك العرقيات (التي فضلت البقاء في ماليزيا) مع خروج المحتل ولكن بعد مفاوضات شاقة بين زعماء الملايو والإنجليز تم الإتفاق علي استقلال ماليزيا وبقاء تلك العرقيات فيها كمواطنين بموجب عقد اجتماعي تضمنه دستور البلاد.

نص الإتفاق علي -فيما نص عليه-تبني عقد اجتماعي (نظرية سياسية يوافق فيها الأفراد علي التنازل عن بعض حقوقهم من أجل المصلحة العامة المتشركة)، أهم ما جاء في هذا العقد: منح تلك الأقليات العرقية تحديدا (الهنود والصينيين) الجنسية الماليزية وحقوق المواطنة والاحتفاظ بهويتها ولغتها مقابل أن يظل الاسلام هو الدين الرسمي للدولة مع السماح لتلك الأقليات بممارسة شعائرها الدينية و كذلك أن يتمتع السكان الأصليون (الملايو) بعض الامتيازات.

التعايش العرقي الماليزي بين القدح والمدح

ينظر بعض المحللون إلي هذا التعايش بإعجاب وامكانية الاستفادة من تجربته الناجحة، بينما يري فريق آخر أن ذلك التعايش قنبلة موقتة قابلة للإنفجار، ومن بين هذا وذاك علينا أن نتذكر أن انموذج التعايش الماليزي متفرد بمعني أنه تم بين مكونات عرقية في بلد متعدد حظي بقيادة واعية عملت علي إدارة هذه التنوع عبر عدة آليات منها: التوافق والمحافظة علي العقد الاجتماعي الذي تم الإتفاق عليه منذ الاستقلال، التقسيم العادل للثروة والسلطة، من خلال محاربة الفقر والتمييز الإيجابي لعرقية الملايو دون الإضرار بالفئات الضعفية من القوميات الاخري، اتباع سياسيات تنموية متوزاية، أما السلطة فقد تم توزيعها عبر تبني نظام برلماني غربي (النموذج البريطاني) مع الاحتفاظ بالنظام في المجتمعات الملايوية المتمثل في الملكية الدستورية.

حقق التعايش العرقي في ماليزيا نجاحا مبهرا بوصفها دولة مسلمة ودولة نامية، حظيت في ظله باستقرار سياسي واقتصادي وتنموي، فمنذ استقلالها في عام 1957م لم تتعرض البلاد لأي انقلاب عسكري قط، ولم تشهد خلال ما يقارب الثلاثة عقود من الزمان إلا عشرات المظاهرات فقط ولاسباب مختلفة و ليست سياسية فقط، بلغ عدد رؤساء وزرائها حتي عام 2022م ثمانية فقط، اقتصاديا: حلت ماليزيا في عام 2020م في المرتبة رقم 35 من حيث الثراء من بين دول العالم، و هي تصنف –حسب البنك الدولي- في المرتبة العليا من مرتبة الدول متوسطة الدخل، انخفض معدل الفقر في ظرف أربعة عقود من 60% إلي 5,6% في عام 2021م، تشهد البلاد تطورا تنمويا مضطردا تنعم به جميع فئات الشعب وبلغ معدل الدخل السنوي للفرد 12,500 دولار أمريكي في عام 2021م.

همسة:
رغم انتماء السودان اللأصول الإفريقية والعربية في السودان والغالبية العظمى منه مسلمين بنسبة 96.7%، وباقي الديانات تتراوح بين 3% مسيحين في شمال السودان والخرطوم وجبال النوبة، وحوالي 0.03% ديانات تقليدية في منطقتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، تربط بيننا اللغة العربية ويجمعنا المصير المشترك في ظل تعدد ثقافي يفوق ألوان الطيف جمالا، أري أننا بهذا التنوع أقدر علي صنع فسفيساء زاهية الألوان متراصة العرصات لصنع واقع أفضل من خلال الاعتراف بذلك التنوع والتعدد.

تنوع الثقافات والعادات والتقاليد في السودان يمثل مصدر قوة في لبنات تلك الفسيفساء التي ما أن اختل فيها موضع لبنه إلا فشت الكراهية في المجتمع ودبت فيه الخلافات و تهدد سِلمه الاجتماعي وربما ينفرط عقده.

نحتاج إلي عقد اجتماعي ينظم ذلك التنوع ويوجهه نحو البناء والتعمير لا الفرقة والكراهية. نحتاج إلي قيادة ملهمة لها المقدرة علي تلمس مصادر قوة ذلك التنوع وتوجيهها للبناء والتعمير لا لاستغلالها لتحقيق مكاسب ضيقة.

نحتاج إلي وعي ذاتي يستلهم ان وحدة المصير المشترك أقوي من الفرقة و أقوي من إثارة النعرات الجهوية أو الثقافية أو المناطقية، فليس هنالك ثمة ثقافة متطورة وأخري متخلفة بل كل فتاة بإبيها معجبة و من ذا الذي يقدح في إعجاب الفتاة بأبيها.

اترك رد

error: Content is protected !!