ثُمر المداد / د. أحمد عبدالباقي

وقف السبيل (الأسبلة) وأهميته في التخفيف من أزمة العطش في السودان

د. أحمد عبد الباقي

من المؤلم جدا ونحن في القرن الحادي والعشرين نتحدث في السودان عن العطش أو أزمة المياه القديمة المتجددة في كل عام، بل في بعض المناطق يقطع الناس مسافات بالكيلومترات ركبانا أو رِجالا بسبب ضيق ذات اليد للحصول على بضع جالونات من الماء والبلد تزخر بمواردها المائية سواء أكانت المتجددة سنويا التي تقدر بحوالي 30 ألف لتر مكعب أو تلك الجوفية التي يبلغ احتياطيها 7000 مليار متر مكعب (أكبر احتياطي للمياه في العالم حسب تقرير نشرته صحيفة القدس العربي في مارس 2019م). لا أريد أن أخوض في التفاصيل في ماهية المشكلة أو جذورها بل أحببت أن أنبه إلى أهمية الدور المجتمعي في تذليل بعض الصعاب تكاملا مع الدور الحكومي الذي لا غني عنه، فما هي الأسبلة وما هو دورها في تخفيف حدة أزمة العطش في السودان.

الأسبلة في الإسلام:

الأسبلة” -ويُطلق عليها في بلاد المغرب العربي الصهاريج (جمع صهريج) – جمع لكلمة سبيل، والسبيل في العرف القائم اليوم وقبل اليوم: هو منشأة مائية أقامها محسنٌ بقصد الأجر والثواب عند الله، لعبت هذه الأسبلة دوراً عظيماً في تاريخ الإسلام، فهي تقدم لابن الراحلة (المسافر) أعظم الخدمات، وتوفر لابن البلد من الفقراء والأغنياء ما يحتاجه من الماء. السبيل الواحد بالتصور القديم في الحضارة الإسلامية يكلف أموالا كثيرة لأنه يتكون من بناء ضخم، قاعدته الأولى صهريج مائي تحت الأرض، ويتسع لمخزون مائي يمون السبيل لمدة سنة تقريباً في حالة انقطاع الماء، وبعد الصهريج تأتي حجرة التسبيل وملحقاتها مثل أنابيب توزيع المياه داخليا عبر صنابير للمياه مصنوعة من أنابيب رصاصية.

ذُكر في السنة النبوية أن صدقات السقيا من أفضل الصدقات الجارية عند الله تعالى فقد روي عن الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء). وقد أفرد الإمام البخاري باباً في فضل سقيا الماء وفضل ثوابه. ويعد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه صاحب أول سبيل في الإسلام عندما اشترى بطلب من رسول الله صل الله عليه وسلم بئر رومة في المدينة المنورة، من صاحبه اليهودي وأوقفه لسقاية المسلمين بعد أن كان اليهودي يأخذ مبالغ طائلة من المسلمين ثمناً للمياه التي يأخذونها من البئر.

ذكر الدكتور مصطي السباعي رحمه الله في سِفره القيم “من روائع حضارتنا” أن أول صدقة وقف في تاريخ الإسلام نشأت عندما نزل قوله تعالي: “لنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” (آل عمران: 92)، قال أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه ” أن أحب أموالي إِلَيَّ بئر حاءِ-وهي بئر طيبة الماء- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها لله تبارك وتعالي، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال عليه الصلاة والسلام، ” بَخٍ بَخٍ، ذلك مالٌ رابح ذاك مالٌ رابح حبس الأصل و سبِّلِ الثمرة”، (بخ: اسم فعل للمدح والإعجاب والرضا بشيء، ويكرر للمبالغة وتستخدم عندنا في العامية السودانية بمعني الرش بالماء أو السماد وهي من العربية الفصحي أيضا).

ازدهرت الحضارة الإسلامية علي مر عصورها قوة واضمحلالا بالعديد من هذه الأسبلة و أقربها عهدا تلك التي كانت في العهود الأيوبية والمملوكية، وقد ازدادت في العهد العثماني بشكل كبير، وحتى يكتب لهذا السبيل الديمومة أو ما يعرف حديثا بـ (Sustainability) ، يجعل صاحب السبيل وقفاً من البساتين والأملاك، لتوفر له حاجاته من الأموال لإنفاقها على من يقوم بخدمته من العاملين فيه، وغير ذلك مما يحتاجه السبيل من نفقات.

الأسبلة في السودان:

من المتعارف عليه في السودان أن السبيل بصورة مبسطة يتكون من جَرٌّ، وجِرَارٌ) جمع جرة) أو أزْيار جمع زير (وتُجمع أيضا على أزْوَار و وزِيار و زِيَرَة) توضع علي قارعة الطريق تظلل بظل مبسط لحمايتها وتوضع عليها أكواب لغرف الماء تُملأ هذه الزِيَرَة بالماء بصورة متكررة لضمان توفره. وكذلك عندنا الصهاريج الكبيرة التي تنشئها الدولة وتُنصب في الأحياء السكينة أو القري أو المرافق الخدمية مثل الجامعات، المدارس المستشفيات، فالسبيل ينشأ على سبيل التطوع بينما الصهاريج يمكن أن تكون تطوعا (سبيل) أو حكومية وكذلك الآبار فهي تحفر على سبيل الوقف والسبيل.

إرثنا الحضاري والمجتمعي في السودان يزخر بنماذج مشرقة لصدقة السقيا، مثل الأسبلة التي تنتشر في طرقات أحياء المدن والقري أو المبردات الحديثة في المساجد أو في المؤسسات الخدمية مثل المدارس والمستشفيات وهذه ينقطع نفعها ما لم تُتعهد بالرعاية وبالتالي يتوقف أجرها، أما الأسبلة الوقفية المستمرة النفع مثل آبار السقيا وملحقاتها فهي مستمرة النفع ما بقيت أعيانها ثابتة ومنتجة، إذن يمكن للمجتمع السوداني -بالتعاون مع الحكومة- أن ينهض خاصة أصحاب الدثور (الأموال) بإحياء الأسبلة (الصهاريج الضخمة) أو حفر أبار السقيا أو محطات المياه الوقفية المستمرة النفع.

لابد أن ينهض المجتمع بدوره في المساهمة في حل ضائقة المياه و لضمان ديمومة نفع السقيا الوقفية أقترح أن يتم التفكير في إنشاء شركة مساهمة عامة وقفية يُفتح فيها الاكتتاب بالأسهم للجمهور كل حسب وسعه (وقف النقود) تطلع هذه الشركة بحفر آبار للسقيا أو إنشاء محطات مياه علي سبيل الوقف ولضمان استمرار الصرف المالي علي صيانة هذه الآبار أو المحطات والصرف علي من يضطلعون بالإشراف والمراقبة، لابد من أن تكون مصحوبة باستثمارات مثل بيع المياه للشركات والمصانع أو انتاج مياه معدنية أو تعبئة المياه النقية من هذه الآبار وتسويقها علي أن يكون ريعها للصرف علي تسيير هذه الآبار أو المحطات.

أما مسألة توفير الكهرباء لهذه الآبار أو المحطات (ربما لتشغيل الموترات لزيادة فعالية ضخ المياه) يمكن الاستفادة من الطاقة الشمسية وقد أطلعت على تجارب بعض المنظمات التطوعية الأجنبية في السودان التي توفر ألواح خلايا شمسية لمد لتشغيل وابورات الآبار الارتوازية.

أري أن هنالك إشادة مستحقة للتجربة الممتازة لمنظمة السقيا ومنظمة صدقات اللتان تعملان في مجال حفر الآبار وتوفير المياه في عدة مناطق من السودان بل هنالك تجارب على مستوي الاحياء مثلا: يمكن حفر بئر للسقيا بحيث يسعي أهل الحي لتوفير الطلمبات بالتبرعات لإدخالها لربط البئر بشبكة توزيع المياه بالحي، أكيد هنالك الكثير من الأمثلة في كل السودان على هذا النوع من الوقف، نحتاج لدراسة تلك التجارب والاستفادة منها وتوسيع مدار عملها بصورة أكثر كفاءة من من أجل ديمومة نفع هذه المرافق.

اترك رد

error: Content is protected !!