ليمانيات / د. إدريس ليمان

غوَّاص فى بحر الألم ..!!


كان للموسيقار المصرى الراحل عمَّار الشريعى سهرة أسبوعية غاية فى الروعة والجمال تقدمها إذاعة القاهرة أسمها غواص فى بحر النغم وذلك فى منتصف الثمانينات وكُنتُ أحرص على متابعتها ضمن متابعتى لبرامج السهرات فى مختلف القنوات الإذاعية التى أعشقها ، حيث كان يقوم بشرح القصائد الغنائية وتفصيل وتحليل موسيقاها وخِيارات مُلحنيها وقُدرات مُغنييها بطريقة شيِّقَة وجاذبة ، وكانت له طرائق مختلفة فى التقديم تارةً يتحدث عن المقامات الموسيقية كمقام الحجاز والنهوند والبيَّات والكُرد ويُعَرِّف بها وبغيرها ، وتارةً عن الثُنائيات بين المُلحِّن والمُغَنِّى وأخرى عن الآهات ، وتارةً عن المقدمات الموسيقية وتبادل الأدوار بين الآلات بكُلِّ سلاسة .. متى تنسحب آلة الكمان ليدخل الناى أو القانون ، وتتوقف التشيلو ليبدأ الكونتراباص وأحياناً يتحدث الأكورديون حديث العارف نيابةً عن الفرقة لإيصال معانى القصيدة المُغنَّاة للمستمع عبر الجُمَلْ الموسيقية المُنثالة لمدة تزيد عن الساعة بإحاطة وإجادة و إستمخاخ .. ودارت دورة الأيام فأصبحنا نقضى سهرتنا الإجبارية فى هذه الأيام المشحونة بغبار البارود ورائحة الدماء ، ونغمات المضادات الأرض وعزف الدوشكا المُنفرِد والإنسجام التام بين أصوات الثُنائى وموسيقى الرُباعى مع برنامج غوَّاص فى بحر الألم الذى يُقدمه الباغى الشقى بجرأة ووضاعة يُحسد عليها يقوده الطمع والطموح فأحرق الحرث والنسل ، وأفنته عاتيات قوته التى أنشأها ودمّره زلازل آلته العسكرية التى بناها ، ولم يدرى المسكين أن صوت الباطل والقهر والظلم لا قيمة له فى أزمان الفوضى وإن علت صيحاته فى وجه الحق .. !! فضاع وأضاع وإنطوت فى الوطن حسرة ..!! وبِتْنا نتتبع آثار الهرم النوبى نبحث معه ومع سيِّدى عمر الدوش نسأل عن بلد رايح ونفتش عن بلد سايح .. ونسأل عن أمانينا اللى ما بتدينا صوت صايح .. ونسأل وين مخابينا إذا جانا الزمن لافح .. ونسأل عن بلد مجروح وعارف الجارحو ليه جارح .. ونسأل عن بلد غاطٍ لحدِّ الليلة فى الوجعة وننُط فوق سروجنا ونِتحَزَّم نقوم من وقعة لى وقعة .. نَخُتْ إِيدنَا البِتوجِعنا على السأم البِراجِعنْا .. ونسأل يا وطن يا بيتنا ليه شوقك مواجِهنا .. ليه حُبَّك مُجهجهنا ..!!؟
وسنعود رغم قساوة الغادر الجلاَّد ورغم أكبادنا المحترقة وأنين الثكالى النائحات .. وسنُصلِح من حال مدينتنا ونُطبِّبُها ونزينها ونُجَمِّرَها ونزيح الأذى عن وجهها بإصلاح أحوالنا أولاً .. فأطباؤنا لن يتكاسلون أو يتغيَّبون عن العمل فى المستشفيات العمومية وينشطون فى عياداتهم الخاصة ، ولن يُعلى المدرسون من شأن الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة على حساب المدارس الحكومية ، ولن يبحث رجل الخدمة العامة عن قوت يومه فى جيب طالب الخدمة .. ولن يضع أحدنا مصلحته الخاصة قبل مصلحة الوطن .. وستتغير سلوكياتنا التى تُعيق عملية الإصلاح المجتمعى للأحسن وسيأخذ أهل بلادى الفُرشاة لإكمال النواقص فى لوحة الوطن .
حفظ الله سوداننا وأهله من كُلِّ سوء .

الخميس ٥ أكتوبر ٢٠٢٣م

اترك رد

error: Content is protected !!