أزعم يقيناً أن جيلى الذى ولِدَ فى منتصف الستينات من القرن الماضى وفى أواخرها هو آخر جيل تَشكَّل وعيُه عبر الإعلام المسموع ، حيث كان الراديو بالنسبة إلينا كبساط الريح نجوب به أصقاع الدنيا ونُحلِّقُ عبره فى فضاءات الخيال الرحبة على حَداثة سننا ، حيث بدأت علاقتنا بالمذياع بصورة قسرية ومن ثمَّ تعلقت قلوبنا به .. ومن الأشياء التى لاتزال عالقة فى وجدانى من ذكريات الطفولة الباكرة فى منتصف السبعينات فى كسلا الوريفة صوت المُقرئ عوض عمر رحمه الله رحمةً واسعة بطريقته المُحببة والفريدة فى تلاوة القرآن قبل أن ينتقل مؤشر الراديو إلى إذاعة لندن ودقات البج بن معلنةً عن موعد أخبار السادسة صباحاً ونحن نتحلق حول ( الكانون ) والكُلُّ يحمل ( كُبّايته ) المميزة فى إنتظار شاى اللبن بالحرجل .. و ( الزلابية ) حينما يكون فى الأمر سعة .. ومن ثمَّ نستمع قسراً إلى برنامج السياسة بين السائل والمجيب ونحن لا ندرى ما السؤل وما الإجابة ومن السائل ومن المجيب ولكنها إنطبعت فى الذاكرة هكذا .. ويليه برنامج قولٌ على قول لحسن الكرمى الذى كُنَّا نستعذب قوله وإن لم نكن نفهمه ..!! ولاتزال أصوات مذيعى هيئة الإذاعة البريطانية ( مديحة رشيد المدفعي وهدى الرشيد ورشاد رمضان وسلوى جراح ) وغيرهم تَرِّنُ فى أُذنىَّ حيث كانت برامجها المتنوعة لاسيما ( ندوة المستمعين ) تجد الإهتمام من الأُسر السودانية آنذاك ، فقد شكَّلت وجدان وثقافة أجيال كاملة ليس فى السودان فحسب بل فى المنطقة العربية بأسرها كيفما تُريد قبل أن تنافسها لاحقاً إذاعة مونتى كارلو ومذيعيها الأشهر ( حكمت وهبى وجورج نوفل ) إن لم تخنى الذاكرة ، وإعلاناتها الصاخبة والمميزة لاسيما إعلانها الشهير ( تعال إلى حيث النكهة .. تعال إلى مارلبورو ) .
أمَّا إذاعة أمدرمان فكانت ( حكاية ) وكنا ننتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر ونجلس فى ( ركن الأطفال ) لنستمتع بحكايات ( عمكم مختار ) الذى كان يختلط صوته بصوت ماكينة الخياطة التى يعمل عليها الوالد رحمه الله رحمةً واسعة ..
أسوق تلك المقدمة والنوستالجيا للتدليل على أن للإعلام دورٌ خطيرٌ جداً فى تشكيل الوعى المجتمعى ، وفى تأطير ثقافة الأفراد والجماعات والتأثير عليهم بصورة أكبر وأعمق مما يتصور الجميع .. وحسناً فعلت هيئة التوجيه والخدمات برئاسة قوات الشرطة بعقدها الورشة الإعلامية المهمة تحت شعار ( نحو رؤية إستراتيجية لإعلام شُرَطى فاعل ) والتى نأمل أن تخرج بتوصيات قوية ، فالشرطة اليوم أحوج ما تكون لمحتوى إعلامى قوى وعميق ومؤثر ، يُعضد مسيرتها المهنية ويدعم قضايا المجتمع الأمنية ويُعزِّز من لُحمته الإجتماعية بغض النظر عن عن الوعاء والمنبر الذى يُقدِّم هذا المحتوى .. فالمصداقية والمهنية والمؤسسية هى العوامل الأساسية فى تحقيق فاعلية الرسالة الإعلامية الشُرَطية وقوة تأثيرها على الجميع ، كما أنها وفى هذه الفترة الحرجة من تأريخنا أحوج ما تكون إلى تأسيس خطاب إعلامى شُرَطى قادر على التعبير عن نبض مؤسسة الشرطة وذلك بالتعاون مع شُركائها المشتغلين بالإعلام بكافة أشكاله للإسهام فى صناعة وتشكيل الوعى الأمنى المجتمعى بإستغلال المنابر الأوسع إنتشاراً والمتمثلة فى وسائل التواصل الإجتماعى التى أصبح لها حضورها القوى وتأثيرها السحرى دون إهمال الإعلام التقليدى أو إقصائه أو إلغائه .. وبناء جسر للتواصل مع مكونات المجتمع السودانى لتوصيل خطابها الإعلامى الشُرَطى بإقتدارٍ وبرؤية إستراتيجية راشدة تُحقِّق غاياتها وأهدافها وتعمل على بث رسائل الطمأنينة والأمان لجميع أهل بلادى .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كُلِّ سوء .
الأربعاء ١٠ أغسطس ٢٠٢٢م