مهرجان (كان) يفتتح الأبواب المُمكنة للسينما السودانية وقتها.. يجلسني بعدها على مَنَصّات الحُضُور الأممي
في معهد العالم العربي – باريس.. عرضت تجربتي المسرحية الأولى ومنها إلى مسارح الدنيا
عُدت يا سادتي إلى تصاويري الأقدم، وأوراقي تزينها حروفٌ تسكن إلى بعضها، تكمل كلمة، تمشي مع أخريات جملة تامة الحُسن، تعيش في الذكرى، وتسجِّل فيما بينها مجموعة من خطواتٍ، مشيتها أزماناً أنشد وأبحث عنها، روح الملتاع بعشق الفن والرؤية الجديدة، جديد عليها مشاويري الأولى في البدايات بين أحياء البقعة المباركة القديمة. وإلى جوار الشاطئ الأبيض (بحر أبيض) يُجسِّد الالتواء مع الاستقامة، وقليل من الاستدارة. وبحر أبيض يطاوع المد، فيجري في يسر، والحي القديم الجديد الأقرب إلى الروح يسكن في كل الأوقات والأزمنة. تتوقّف تسبقك الأشجار، فيها ما هو لي، والآخر لأغنام تطاوع صوتي قبل سوطي، الراعي أنا والشاهد على مسيرتي بعدها بين المُدن الشواهق، وخطوط في الخرائط أوصلتني بينها المُدن البهية، حيث انطلقت منها، ممثل يهوى فنون الأداء ويعشقها، قادته بعدها إلى مرافئ النجاح، وأضحى بين تلك المدن – مُتباعدة الأطراف – وبين نجومها يُحسب، وأخذتني الى فضاءات أرحب، وملتقيات الفنون تتعدد، مسرح وسينما، وتلك الفرص فيها أوسع، وأضحت المدن البهية بعدها عشقاً استدام في التفاصيل، في أولها حضورٌ ومشاركةٌ، لكنها المدن الأقدم في التواريخ، سيدة الحضارة من عند (كوش ونبتة ومروي)، ومعها وبها ومن عندي أدركت بينها أن الممكن ليس بعيداً.
من عند أهلي في (مَرّاغة وكابتوت)، وبيوت أهلي هناك، (تِحِت مُش فُوق)، قال خالي عليه الرحمة يشرح لي الفرق بين المعاني الراسخة الأقدم، وتبيان الفروقات بين (تِحِت وفُوق)، فهناك فرق. من جاء وكان أول، سكن جوار النهر الخالد، ومن لحق بعدها ولو بقليل، منحته الدولة له البيت بدون مزرعة، (فُوق) أي بعيد عنها ساعات التكوين الأولى.
ثم مدينتي الأجمل الأخرى (الأبيض)، وتلك المدينة الأحب، أردها لميلاد سيدي قنديل كردفان قدّس الله سرَّة ونفعنا بأضواء ميلاد، أضاء يومها الميلاد المجيد الغرب الكبير، فصارت (كردفان) العلامة والإشارة عندي، حيثما أكون تدفعني للصفوف الأمامية. فيوم مشيت على السجادة الحمراء، تلمع أطرافها. وكما حكيت قبلها، عمتي لم تخضر بعد، و(كان) المدينة الفرنسية إشارة النور والبهاء، تعج بالفنانين من كل أنحاء المعمورة، وبينهم أمشي. وتلك مدينتي الأولى في الغرب الكبير، وقفت انتظر الدخول لقصر المهرجان الكبير على الشاطئ (اللازوردي)، أجلس في مقعدي أو أطير أيهما أقرب إلى خيالك، ممكن. وتضئ الشاشة الفسيحة، أكبر بكثير من كل ما عرفت، وتظهر صورتي بشحمي ولحمي، والعراقي القصير المُتّسخ، والسروال غير متساوي الأطوال، وحجابي تميمتي يتدلى، يكسوه جلد متين، صنعت بعناية ودقة ومحبّة، نقش على الأطراف، تحمل الأرقام، تتكرّر بحساب معلوم، والأسورة الفضية تلمع، أول مرة أعرف أنّ الشاشة الفضية تعطي للألوان معنىً آخر. فما أنا ذاك، وقد بلغت العقد الثاني بقليل. أشهد (الزين) أنا على أميز شاشة سينما عرفتها باتساع الأفق الذي أعرف. والزين أنا وما أنا، تمشي على السجادة الحمراء أمامي تماماً بلا تأخير، سيدة السينما الإيطالية، جميلة العالم (صوفيا لورين) خطواتي واثقة، أمشي ملكاً، من (كوش) أو أميراً من سلاطين (دارفور) أو سلطاناً من دار قمر ومملكة دار (مساليت) الكبرى المستقلة، أو شيخاً يحيط به الحِيران في الساحة الكُبرى في (الشكينيبة)، أجراس ترن. وأقف لتحية الجمهور الكبير، أوقِّع على ورقة وأخرى هي (الاوتكراف). ثم سببت مشاهدتي لنفسي من نفسي، بعد سنوات التصوير، قد تزيد على الأربع أو تبلغ الخمس، لكني في حالي ومشيت بالتصاوير لأول مرة إلى (الدبة والجابرية وتنقاسي) للمدينة البداية، نعم هي التي فتحت لي أبواب المدائن، بها وبعدها ما جئتها سائحاً أمني النفس بالفرجة، جلست فيها باقتدار الفن على صناعة الممكن، فدخلت المدن (الفرنسية) بعدها بعروضي المسرحية، نوبات وأجراس، وممثلون شباب منها (باريس) انطلقوا لمدن أخرى، لبناء حيوات أخرى أفضل لهم وأحسن كما ظنوا وقتها، وأسباب صواب الفكرة عندهم بعد أن عادوا ليسهموا مع البقعة المباركة.
وجمعت في ذات المكان قبل عقود، ولعلها المرة الأولى أن يعرض مُخرج ومُمثل عملاً مسرحياً كبيراً على ذات المسرح (معهد العالم العربي في باريس) يوم استضاف أكبر حدث ثقافي فني علمي (ممالك على ضفاف النيل) عرضت فيه تجربتي الجديدة يومها (سلمان الزغرات سيد سنار)، ثم بعدها بأيامٍ عرض فيلم (عرس الزين) للمرة الثانية في سينما المعهد. أنظر للفتوحات وتأمّل، قبل ليلة أو أكثر وقفت على ذات المسرح بلحمي ودمي مع فريق مسرح البقعة، مُشخِّصاتيّاً أحاور الجمهور في عرض المحفل الأول لي، ثم بعدها أعود في المساء أجلس إلى جوار سيدتي ومحل ودي الطيب صالح قدّس الله سرَّة، يوقع نسخة مترجمة جديدة من روايته الأشهر (عرس الزين)، يُقدِّمني للجمهور الحاضر، لأنّ الفيلم سيعرض بعد قليل في ذات القاعة التي قدّمنا عليها الفرجة (سلمان الزغرات سيد سنار). فانظر كيف أحلت يومها وفريق مسرح البقعة ليالي (باريس) لمولد وعرس ولقاء جمع بين فن حاضر وآخر يختبئ في الشرائط السينمائية.
وأقف وأُحيي الجمهور، وقد اختلفت قليلاً عنها أيام التصوير الأولى، قبل عقد وأكثر من الزمان، وثم انظر للمدن التي قدّمتني للناس في (فرنسا) الفن وبعدها السياسة، يوم أحضرت ولأول مرة أول وآخر برنامج تعاون فني علمي سينمائي سوداني (فرنسي)، رحم الله لمن انتقل إلى الرحمة والمغفرة والقبول، وأمد الله في عمر من وقفوا إلى جوار المشروع في مؤسسة الدولة للسينما. وخرجت من الخرطوم ثلاثة أفلام سودانية (فرنسية) وتلك كانت مدينة أخرى أسعدتني الإشارات إليها، وأمشي إلى جوار النهر الفاخر، نعم نهر النيل من عند (الدبة أو تنقاسي) أو (كريمة) فيه روح الأعياد، به الشخوص البناؤون للحياة الجديدة، مدن صنعت لها في قلبي إطاراً وصنعت لي فرصاً تتجدِّد كل الأوقات.
نعم الدهليز يقدِّر المدن البعيدة، كتبت عنها بفرح وحُب، أدرك كم ساهمت في نشر ما استطيع من فنون تعلّقت بها وسعيت لتعبر عن وطن حدادي مدادي يسع الجميع.
راهنت وأظل على تعدُّد الثقافات وتنوُّع أشكال الفنون الوطنية السودانية.
دهاليزي في الأول مع مطلع العام الجديد، تحكي سيرة أظن فيها حضور إضافي.
كل عام وأنتم بألف خير وعيد سعيد،،،،