✍️ ياسر يوسف
تحبس الكاتبة المجيدة زينب السعيد أنفاس من يقرأ روايتها الجديدة ( أحلام في بئر يوسف ) من الغلاف إلي الغلاف ، فليس موضوع الرواية وحده المتعلق بالهجرة غير الشرعية ( والمجازفة لركوب الأهوال ) ما يصنع التشويق ، وإنما عناصر أخري كالسرد الجيد والغوص في تفاعلات النفس البشرية التي إستخدمتها زينب السعيد كأحسن ما يكون الإستخدام للكاتب الممتلك لأدواته ..
تدور أحداث الرواية كما يحكيها ( سعد ) بطل الرواية عن الهجرة غير الشرعية عبر التهريب الذي يوظف الأماكن بصورة واقعية حين يحكي سعد بداية رحلته من الخرطوم مرورا بالصحراء القاسية ووصولا إلي ليبيا ، المحطة قبل الأخيرة ( لركوب قوارب الموت أو السمبك) ، وخلال هذه الرحلة القاسية والواقعية تتجلي قدرة الكاتبة في توظيف القصص الحقيقية بإضافة البعد الروائي الذي يحرك لواعج النفس ، ويلفت الأنظار إلي المآسي الإنسانية الهائلة التي تغطي مسيرة ( هذه المغامرة ) علها تكون عبرة لمن يعتبر …
تتفنن الكاتبة في عرض ( الأوجاع ) لشخصيات الرواية الذين يزاملون بطلها في هذه الرحلة ، فكيف يمكنك أن تحبس دموعك وأنت تري أبا مفجوعا وأما سورية مكلومة وهما يدفنان صغيرتهما ( ملك ) في صحراء قاسية لا زرع فيها ولا حياة ، وذاك أحمد الفتي الوحيد عند أمه وقد تسلل بإغراء ( الزبانية ) لرحلة الموت بعدما إنتهكت الكلاب البشرية عذريته أمام أعين رفقاء الرحلة الذين تعجزهم الحيلة والقهر في الإنتصار لنخوتهم أولا ولأحمد الصغير ثانيا ..
ولا تكتفي الكاتبة ببعث مواجع القارئ ونقل الصورة المتوحشة لهذه الرحلة علي لسان بطل الرواية بتلك المشاهد الحيوانيه ، ولكنها تستخدم قدرتها الروائية لتذكرنا بأن ( كاتل الروح ما بروح ) وهي تستعرض قصة موت مجذوب الذي ظن أن فراره من وطنه سينجيه من عذاب الضمير ومن جريمته القديمة ..
وفي مسار مواز تبرز الكاتبة وحشية الشبكات الإجرامية وتسلسل بنائها الشبكي وتنسيقها الدقيق المحكم ، إبتداء من ( يوهانس ) العقل المدبر والمخطط والذي يتولي تسويق الفكرة وتجهيز ( البضاعة للشحن ) بعد أخذ المعلوم ، ومن ثم التسليم للسائقين متوحشي القلب والضمير والذين يتعاملون مع ( الضحايا ) وكأنهم ( حزمة جرجير ) وهم ( يدفسونهم دفسا ) في العربات التي لا تصلح أساسا لنقل البشر ، وفي هذه المشاهد القاسية يتذكر القارئ ملحمة الروائي الكبير أليكس هيلي ( الجذور ) التي جسد فيها ببراعة عالية صور الإنتهاكات الممنهجة لترحيل ( العبيد الأفارقة ) إلي العالم الآخر ، وتبلغ القسوة ذروتها في التعامل اللا إنساني مع ( الضحايا ) حين يصلون ليبيا وتستلمهم العصابات الأكثر إحترافا والأقل إنسانية ، حيث نجحت الكاتبة بإمتياز في تصوير مدي البشاعة في التعامل مع الضحايا ..
أضافت الكاتبة لروايتها هذه سفرا جديدا لأدب الهجرة غير الشرعية والذي بدأ في الإنتشار خاصة في الدول الأفريقية المتأثرة بهذه الظاهرة ، إذ كتسب أهميتها من واقع حيوية الموضوع وأهميته ، فلا يزال الشباب السوداني عرضة لتضليل عصابات الجريمة المنظمة التي تزين لهم الباطل وتعدهم بالفردوس ( الزائف ) ، ومع الظروف الإقتصادية التي تمر بها البلاد فهناك دائما آذان صاغية وقلوب مرهفة بل وإستجابة تؤدي إلي الهلاك في النهاية ، وقد نجحت الكاتبة في تسليط الضوء على قضية مهمة يجدر بالمسؤولين زيادة إهتمامهم بها ، وتطوير طرق مكافحتها ، لأنها جريمة مركبة تتنوع فيها الإنتهاكات ما بين التهريب والهجرة غير الشرعية وبيع الأعضاء البشرية والإتجار بالبشر ، وتقوم بها عصابات منظمة تدر عليها أرباحا سنوية تصل إلي 4,4 مليار دولار بحسب الأمم المتحدة ..
علي أن أجمل مافي رواية زينب السعيد هو إستلهامها لقصة نبي الله يوسف الذي ألقي به إخوته في غياهب الجب ، ومن ثم بيع عبدا في سوق النخاسة وسجينا بعدها قبل أن تشمله التبرئة الإلهية بعنايتها فيلتقي بأبيه نبي الله يعقوب وقد صار نبيا رسولا وأمينًا علي خزائن أهل مصر ، وكذلك بطل روايتنا سعد ، فبعد كل الأهوال التي مر بها تسعفه عناية الرحمن فيعود إلي أهله ليحكي لهم المآسي علها تكون عبرة لآخرين ، وإن يكن قد فقد ( حنانا) ( بشاكوش) قوي فقد إستعاد حياته وعاد لوالدته ونجا من أن ( يصطاده حرس الحدود الإسباني الذين يصطادون المهاجرين غير الشرعيين كالعصافير) كما نقل د سعيد اللاوندي عن أحد المهاجرين المغاربة…