الرأي ثقافة

من وحي زيارة للمغرب: ضيف علي عظيمين تفرقت بهما السبل!

د. الخضر هارون

✍️ا لدكتور الخضر هارون

والمضيفان هما أبو يعقوب يوسف بن تشفين أول من لقب بأمير المسلمين وناصر الدين وهو مؤسس دولة المرابطين مع ابن عمه أبوبكر يحي اللمتوني سنة ٤٠٠ هجرية- ١٠٠٩ ميلادية. والآخر أمير إشبيلية في الأندلس محمد بن عباد اللخمي الذي عرف بالمعتمد بن عباد.وقد ولد في بيجا التي تقع حاليا في دولة البرتغال عام ١٠٤٠م
والضيافة كانت في الأصل في إشبيلية عندما استجار المعتمد بابن تشفين عندما ضيق حاكم قشتالة الاسباني الخناق علي حكم المسلمين في الأندلس في القرن الخامس الهجري بعد سقوط دولة بني أمية التي حافظ علي تماسكها الحاجب المنصور فتفتت إلي دويلات فاقت العشرين دولة عرفت بملوكها ، ملوك الطوائف. وكان المعتمد قد ورث ملكاً عريضاً عن أبيه المعتضد بالله الذي تمكن من توسيع سلطان إشبيلية بضم جل دول الطوائف إلي ملكه مع ذلك ضعف أمام ملوك الفرنجة إ في الشمال لدرجة أنه كان يدفع الجزية لهم . ولما لاح الخطر علي وجود المسلمين في الأندلس بانتصارات الفونسو السادس ملك قشتالة المتتالية وبدأت دويلاتهم تتهاوي أمام جيوشه، تحركت في المعتمد نخوة دينيةً وحمية عربية، فقال (لا يحفظ لي التاريخ مزمة أن ضاع ملك المسلمين علي يدي ).فاقترح علي من تبقي من ملوك الطوائف، دعوة ابن تشفين من عدوة المغرب لصد الفونسو السادس عن بلاد المسلمين فحذروه من سطوة ابن تشفين وأنه قد يسلب ملكهم لنفسه فقال مقالته المشهورة ( لإن أرعي إبل ابن تشفين في المغرب خير لي من أن أرعي الخنازير في قشتالة). فاستجاب ابن تشفين لحماية ملك المسلمين في الأندلس ونزل ضيفاً علي المعتمد ثم خاضا معا معركة ضد قشتالة هي الأشهر في تاريخ الاسلام في الاندلس و هي معركة الزلاقة (٤٨٦هجرية-١٠٦٢). كان هذا اللقاء حميمياً ،لقاء أبطال انتصروا علي عدوهم أقر فيه وبعده بن تشفين ببسالة مضيفه المعتمد وبطولته .لكن ظل البون بين الرجلين شاسعاً والفجوة عظيمة فابن تشفين يحمل كل بأس الصحراء فقد صعد إلي المجد بأظافر صلدة قويت علي الصخور والآكام كيف لا وهو أحد مريدي الشيخ عبدالله بن ياسين الجزولي ذاك العالم المالكي الذي أخذ صفوة من الشباب الأشداء إلي جزيرة تيدرة في المحيط الأطلسي من بلاد السوس تبعد نحو ١٨٠ كيلو مترا من نواقشوط عاصمة موريتانيا وكان اذا أشتد المد قطعها عن اليابسة فلا يخرجون إلا اذا حنا عليهم الجزر. يقول الشيخ الدكتور سعيد الكملي إنه أي الجزولي كان يلزمهم بصلاة الجماعة رغم أنها ليست واجبة عند المالكية وكان يجلد عشرة جلدات كل من فاتته ركعة ولما بلغوا نحو الألف بعد أن كانوا سبعة نفر في ذلك الرباط انطلقوا بفقه مالكي راسخ ، حيث وصفت الدولة التي أسسوها بدولة الفقهاء ، يقول الكملي لقد كانوا جميعا فقهاء يجوبون الصحراء كصلال الفلا حتي أخضعوها كاملة حتي بحيرة تشاد وعلي ساحل المتوسط حتي بجاية شرق الجزائر وتضفي هذه الطبيعة القاسية مع عصبية للمذهب شظفاً في العيش ووحشية في الطباع. واستشهد الشيخ الجزولي علي أبواب الرباط العاصمة الحالية للمغرب ، لله در صنهاجة الأمازيغية. وربما أوحت هذه البداية القاسية الحازمة لدولة المرابطين وحال ما حاق بملوك الطوائف في الأندلس وانهيار الوجود الاسلامي برمته هناك في نهاية المطاف لابن خلدون ( ١٣٣٢- ١٤٠٦م) شيئا من نظريته في قيام الممالك والدول وسقوطها .
لقد كان يوسف بن تشفين ضمن أولئك النفر من تلاميذ الجزولي الذين نشأوا علي شظف العيش وخشونته في رباط الصنهاجي الزاهد وجاج بن زلو فقيه سوس. وهو بذاك الحزم والعزم والخشونة ، لا بد أنه قد لاحظ أن حياة مضيفه المعتمد بن عباد علي النقيض مما ينبغي لملك مسلم فقد كان لابن عباد نحو سبعين جارية وراقصات ومغنيات يزينهن حسن من كل الأعراق ولابد أن عيونه قد أبلغته بمعاقرة الخمر في مجالس هؤلاء الحكام بما لا تشفع معه للمعاقر شجاعة واقدام وبأس في ساحات الوغي وربما استنتج أن تلك الدعة وذاك المجون من أسباب انكسارهم لعظيم النصاري الذي كانوا يؤدون له الجزية بدلاً عن أخذها منه . وفي المقابل لا بد أن المضيف الحصيف، المعتمد بن عباد قد لاحظ ما يدور في ذهن ابن تشفين من خلال نظراته وخفايا عباراته وما تخفيه أو تبديه من استنكار .لذلك كله فلربما حمله ذلك لتذكير مضيفه المالكي بأن أباه المعتضد بالله قد خطب ود فقهاء المالكية في الأندلس واستجاب لرغبتهم بحرق جميع كتب غريمهم الفقيه ابن حزم الظاهري وربما رأي في ذلك نقطة لقاء تجمع بينهما فتذيب بعض جبال الثلج التي تفصل بين عالمين وربما تذكر في الأثناء ،تحذيرات بعض خلصائه ابتداء ومنهم ابنه وولي عهده الرشيد أن ابن تشفين قد يستولي علي ملكه .وبالفعل فقد خلقت حياة الترف والمجون في قصور ملوك الطوائف الذرائع للمرابطين بإنهاء ملكهم الذي أصبحت غاياته التمرغ في متع الدنيا ودفع الجزية لأعدائهم في سبيل الإبقاء علي عروشهم ولم تعد بيضة الدين ونشر الاسلام هماً من همومهم لذلك فلما نكس المعتمد عهده لابن تشفين بالإقلاع عن المعاصي الغارق فيها بلاطه وعاود التودد والتحالف مجدداً مع عدو المسلمين الفونسو بل واستأنف دفع الجزية إليه عاد ابن تشفين بجيوش جرارة فقوض ملكه وطوي صفحته وحكم الأندلس كلها وأنهي بضربات ممالك الطوائف فيها واقتاد ابن عباد ليعيش في أغمات مع زوجته اعتماد الروميكية التي اشتق لقبه من اسمها ومات فقيرا معدما يرسف في الأغلال. وهكذا جاءت الضيافة الثانية تصنعها الجغرافية بغير حميمية ولا مودة علاقة ملك بأسير كان ملكاً تخشي هبته وصولاته تقتحمه العيون وتخشي بوائقه ويالها من ضيافة!
حياة المعتمد عصية علي التحليل فقد ترعرع في بلاط يتقلب في النعيم في محيط من الخضرة والجمال وجريان الأنهار .ورث عن أبيه محبة الشعر في بلاط كان فيه ابن زيدون عشيق صاحبة الحسن والجمال ، ولادة بنت المستكفي التي عندما أضطر إلي هجرها في قرطبة وتوجه لإشبيلية بكي وأبكي بأبياته الحسان الخالدات؛
أضحي التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وكان المعتمد رقيق الحاشية عكس والده المعتضد الذي قتل ابنه اسماعيل بيديه عندما تمرد عليه كما قتل الفقيه الهوزني الذي انتقد شدته علي المسلمين وضعفه وهوانه أمام ملوك الفرنجة .ولرقته وحبه للشعر سلبت لبه جارية مملوكة للروميكي بشطر بيت جادت به بعد أن عجز نديمه ابوبكر بن عمار عن الجود به وذلك عندما جادت قريحته بشطر بيت جميل يصف فيه صنع النسيم علي صفحة الماء الرقراق:
صنع الريح من الماء زرد
فردت جارية الرميك بن الحجاج:
ليته كان درعاً لقتال لو جمد
فاشتراها وأحبها واشتق كنيته من اسمها فالمعتمد من اعتماد! وعندما حنت يوماً للعب الطين أيام فقرها في صباها الباكر صنع لها طيناً من المسك والكافور والزعفران وماء الورد فخاضت فيه تشبع رغبتها المكبوتة. قالت له يوماً مفاضبة وهم في شقاء الحبس في صحراء أغمات . ” ما رأيت منك خيراً قط!” نظر إليها في أسي قائلاً :” ولا يوم الطين؟!” قال أصحاب القلوب الحانية من المؤرخين : بكت واعتذرت! وروي بعضهم أنها اكتفت بالصمت .وأصبحت تلك القصة عنواناً علي نكران الجميل ومكر النساء . يتبين لكم ذلك النكران إذا رأيتم القصر المنيف الأنيق الشامخ ،حتي بمعايير اليوم ،الذي كانت تعيش فيه والذي يغشاه ملك اسبانيا حاليا لقضاء بعض اليالي في حجراته الفخيمة.( أنظر القصر في قوقل).
وقصة المعتمد حزينة تتفتت لها الأكباد فهو شهم جواد كريم كما أن دعوته لابن تشفين ، رغم أنه لم يستبعد كما روينا أن تكون الدعوة وبالاً علي ملك آل عباد، لكنه كان أكثر حرصاً علي ملك المسلمين في الأندلس، انظر كتابه لابنه الرشيد يوم نصر الزلاقة والذي ارسله إليه مع الحمام الزاجل،فهو كتاب رجل صاحب قضية : «كتابي هذا من المحلة يوم الجمعة الموافي عشرين من رجب، وقد أعزَّ الله الدين، ونصر المسلمين، وفتح لهم الفتح المبين، وأذاق المشركين العذاب الأليم، والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسَّره وسناه من هذه الهزيمة العظيمة، والمسرة الكبيرة، هزيمة أدفونش أصلاه الله نِكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم، بعد إتيان النهب على محلاته واستئصال القتل في جميع أبطاله وأجناده، وحماته وقواده، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها، فالله الحمد على جميل صُنعِه، ولم يُصبنِي بحمد الله تعالى إلا جراحات يسيرة ألمَّت لكنها فرجت بعد ذلك وغنمت وظفرت.»
لكن استجابة ابن تشفين الأولي لنصرة الأندلس ثم إنهاء حقبة ملوك الطوائف المتناحرين الذين أوشكوا أن يضيعوا مجد المسلمين في بداية القرن الرابع الهجري، حفظ وجود الحضارة الإسلامية في الأندلس لأكثر من أربعة قرون أخري بينما كانت علي وشك الزوال عل أيدي ملوك الطوائف ومنهم ملك آل عباد! (لقد سقطت غرناطةً آخر معاقل المسلمين عام ١٤٩٢ للميلاد )وانتفعت الإنسانية بذلك الوجود الذي كان أساساً صلباً للحضارة المعاصرة في الادارة والنظم والعلوم.
قال وقد وافاه العيد في أغمات سجيناً هذه الأبيات الباكية:

فيمـا مضى كنت بالأعيـاد مسرورا
فسـاءك العيـد فـي أغمات مأسـورا
تـرى بناتـك فـي الأطمار جـائعـة
يغـزلـن للناس مـا يملكـن قطميـرا
بـرزن نحـوك للتسـليم خاشـعـة
أبصــارهن حســيرات مكاســيرا
يطـأن فـي الطين والأقـدام حافيـة
كأنهـا لـم تطـأ مسكـا وكـافـورا
ومع هذه الحال البئيسة المزرية كان الشعراء يختلفون إليه في منفاه يرجون نواله. قال يعتذر:

شُعراءُ طَنجَةَ كلِّهم وَالمَغرِبِ
ذَهَبوا مِن الاغراب أَبعَدَ مَذهَبِ
سألوا العسيرَ مِنَ الأَسير وَإِنَّهُ
بِسُؤالهم لأحَقُّ مِنهُم فاِعجَبِ
لَولا الحَياءُ وَعِزَّةٌ لَخيمةٌ
طَيَّ الحَشا لحكاهمُ في المَطلِبِ
قَد كانَ إِن سئل النَدى يُجزِل وَإِن
نادى الصَريحُ بِبابِهِ اِركَب يَركَبِ
ولما دنا أجله كتب أبيات أوصي بتعليقها علي قبره تقول:
قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي
حَقّاً ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ
بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُعمى إِذِ اِتّصلَت
بِالخَصبِ إِن أَجدَبوا بالري لِلصادي
بالطاعِن الضارِب الرامي إِذا اِقتَتَلوا
بِالمَوتِ أَحمَرَ بالضرغمِ العادي
 
بالدَهر في نِقَم بِالبَحر في نِعَمٍ
بِالبَدرِ في ظُلمٍ بِالصَدرِ في النادي
 
نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ
مِنَ السَماءِ فَوافاني لِميعادِ
 
وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ
أَنَّ الجِبال تَهادى فَوقَ أَعوادِ
 

كَفاكَ فارفُق بِما اِستودِعتَ مِن كَرَمٍ
رَوّاكَ كُلُّ قَطوب البَرق رَعّادِ
 
يَبكي أَخاهُ الَّذي غَيَّبتَ وابِلَهُ
تَحتَ الصَفيحِ بِدَمعٍ رائِح غادي
 
حَتّى يَجودَكَ دَمعُ الطَلّ مُنهَمِراً
مِن أَعيُن الزَهرِ لم تَبخَل بِإِسعادِ
 
وَلا تَزالُ صَلاةُ اللَهِ دائِمَةً
عَلى دَفينكَ لا تُحصى بِتعدادِ
 
وهي مثبتة اليوم علي ضريحه الذي شيد عام ١٩٧٠.
ومن غريب الأقدار أن هذا الملك الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، لما مات صاح الناعي يدعو الناس للصلاة عليه بعبارة فيها من العبر ما لا يحصي:
” الصلاة علي الميت الغريب”!
 
وربما لو تريث ابنه إبراهيم ، من غير اعتماد والذي بقي في الاندلس ولم يسارع لامتشاق الحسام في وجه المرابطين مطالبا بعرش أبيه، لترفق ابن تشفين بالمعتمد واحسن معاملته، نقول ربما!
أما الضيف الذي نزل في ضيافة هذين العظيمين فليس سوي كاتب هذه السطور! ساقه حظه و محاسن التزويج في لغة الجاحظ في ( المحاسن والأضداد) ،أن يحل ضيفاً علي العظيمين بعد ألف عام في أواخر غشت ، أغسطس من هذا العام ٢٠٢٢ وأوائل سبتمبر لتزويج ابنه الأكبر المهندس عاصم من مغربية فاضلة أصيلة، فحمله فضول ظل يلح عليه لزيارة الأرض التي شهدت تلك الوقائع يسبر بعبقها ما استخفي من أسرارها فحل بالقصبة في مراكش الحمراء التي أسسها يوسف بن تشفين وقريب منها ضريح المعتمد رحمهما الله.وزرنا القصبة الأخري في طنجة القديمة . ومن قصبة طنجة تري بالعين المجردة جزيرة إيبريا بقطريها اسبانيا والبرتغال لمسافة تقطعها السفينة في نحو ثلث الساعة فتكاد تصدق اساطير الأولين أن القارتين كانتا رتقا انفتق بضربة قوية من ساعد هرقل وهو حبيس في مغارته .ومع هذا القرب الجغرافي يبقي علي الخيال ملء الفجوات والفراغات التي جرت بين تلك الوقائع والأحداث عبر العصور حيث لم يبق بين الأحياء من شهدها فيرويها رؤية من رأي لكن بقيت قصورها الشامخات هذه صامدة كما كانت قبل ألف عام في المدينتين تحكي بلسان الصمت كيف كانت الأمكنة والشوارع والأزقة ولخيالك صنع السحنات واللباس وكيف يتصايح السعاة والباعة في السوق وكيف تنطلق ضحكات الأطفال البريئة وكيف يتردد صداها في الأنحاء وقد يحزنك قول القائل يقطع عليك حبل السياحة في الخيال يردك إلي الحقيقة المؤلمة بيت النابغة الذبياني:
امست خلاء وأمسي أهلها احتملوا
أخني عليها الذي أخني علي لبد!

وكلمة أخيرة في حق التلفزيون السوري الذي أحيا تلك الأزمنة العظيمة وحثنا علي تتبع ذلك المجد الذي طوي خيمته وارتحل : عبدالرحمن آل رشي، أيمن زيدان، جمال سليمان، سلاف فواخرجي والممثل الرائع الذي جسد شخصية المعتمد بن عباد أفضل تجسيد، تيم حسن وكان قد تألق في دور الحاجب المنصور بن عامر. التحية الخالصة لهم وقيمة الفن الأصيل أن يبعث موات الماضي للدروس والعبر. و حيا الله المغرب وأهلها الطيبين وأدام عليهم النعم .

•maqamaat@hotmail.com

اترك رد

error: Content is protected !!