الرأي

من القصر إلى توتي إلى المقرن النصر تلو النصر …


مرتضى شطة

كأن الأديب الكبير عباس محمود العقاد يعني أيامنا هذه في زيارته للسودان عام ١٩٤٩م حين يقول :
تفسير حلمي بالجزيرة ..وقفتي في المقرن ..
حلمان حظهما خيال دون حظ الأعين ..
ما دمت بينهما فما أنا سائل عن مسكني…
فهاهي مساحات سيطرة الشعب عبر قواته المسلحة تغطي ما فسر بين جزيرة توتي والمقرن ..ذلك الشاطيء الآخذ للألباب بجمال بستانه وزهر جنانه في سالف أوانه يشع نوراً وتتلامع كثبانه لمعان السيوف القواطع لتحتفل في لمع البهارج بانتصار غال وعزيز ابتدره زمرة من شباب القوات المسلحة والقوات المساندة لها فجر العبور في السادس والعشرين من سبتمبر ٢٠٢٤ م ،شباب وثاب وطأ بكل إيمان وعزيمة جمرة المعركة فتقدم والمدافع والراجمات تغطي الأرض كأنما تبحث عن أجسادهم في كل شبر لتسقي بها تراب الوطن العزيز لم يمنعهم تمركز العدو وانتشاره ولا قناصته المتخفيون في الغابات الأسمنتية من التقدم حاملين أرواحهم على أكفهم رداً للعدوان وفداء للدين والعرض والوطن .
كأن هؤلاء الشباب هم الذين عناهم شاعرنا الهادي آدم حين يقول :
قل لهم إنني رأيت شباباً ملأوا مسمع الحياة رنينا..
عندهم حكمة الشيوخ وفيهم صنو أبقراط أو رصيف إبن سينا ..
هم دروع البلاد إن مسها الروع وأشبال غيلها الزائرونا ..
المحامون دونها المستثارون لها الذائدون عنها الخؤونا ..
إن دعوا للنضال خلت شياطين توالوا من عبقر يهرعونا ..
أو دعوا للنضال خلت أسوداً غاضبات يحمينا منها العرينا..
فشباب السودان اليوم قد ترك جلهم كل حلال ومباح وهتفوا حي على الجهاد حي على الكفاح ،يذكرك وقوف الأمهات وهن يودعن أبناءهن إلى مناطق العمليات في عزيمة وتحمل أو يستقبلن أخبار استشهادهم في صبر وتكبير وتهليل ،يذكرك بشعر أم سودانية حثت ابنها (حسين ) على ترك دراسة وحفظ القرآن ليشارك في الحرب ويصبح من فرسانها :
يا حسين أنا ماني أمك وأنت ماك ولدي ..
بطنك كرشت وغي البنات ناسي ..
دقنك حمست جلدك حرش مو (في)..
ولاك مضرب بالسيف نكمد (في)..
متين يا حسين أشوف لوحك معلق ..
لا حسين كتل لا حسين مفلق. .
لم يتساءل هؤلاء الشباب البواسل مثلما تساءل توفيق صالح جبريل عقب فيضان سنة ١٩٤٦م حين قال :
يا ملتقى النيلين أين مضى السمار أين أغبر المسلك ..
ما للحدائق فيك موحشة فزوت زهورك وانطوى الأيك ..
والورق أسكنها الأسى فسهت وكأنها تشكو ولا تشكو ..
لم يتساءلوا لأنهم عرفوا حقيقة عدوهم الذي هو عدو نفسه والإنسانية والمواطن قبل أن يكون عدو الوطن ،فهو آلة خراب أينما حلت نعق البوم وحط طائر الشؤم ،فلا يسلم من بربريته حجر ولا شجر ولا مدر ،فحتى المومياء التي رقدت آلاف السنين محنطة في المتحف القومي لم تسلم من تنكيلهم ووصفوها بأنها (جثث لأشخاص قتلهم الكيزان )
حرر هؤلاء الكماة من قواتنا المسلحة جزيرة توتي من حصار مطبق ومجازر بشعة وإتاوات مجحفة كادت تخنق ذلك الجمال الذي تسابق في وصفه الشعراء بطوق الفتك والبطش بالأبرياء والمواطنين .لكنها لم تختنق لأنها كما يقول توفيق صالح جبريل :
حاطها النيل ذو الندى بذراعيه فصان الحياة كل ذراع ..
حاطها والسماء ترنو إليه بعيون من الضياء المشاع ..
كالمحب اللهيف مد يديه لعناق الحبيب يوم وداع ..
كأنما يناجون توتي من أعلى جسرها المتسامي بصوت التجاني يوسف بشير :يا درة حفها النيل واحتواها البر ..
محا الدجى وتغشاك في الأسرة فجر ..
يفاخر القادة البواسل وكل مقاتل بنصر يعيد رسم الابتسامة على الوجوه ليمحو دمعة حزن جفت وتحولت إلى أخدود من المآسي على خدود أهلها ،فيملأوا أشرعة النفس أملا يتمثلون قول توفيق صالح جبريل :
وطف حول هاتيك الجزيرة وانحدر إلى الشاطئ الساجي إلى حيث نشعر ..
بأنا تعالينا تسلمت نفوسنا ورقت فلا نأسى ولا نتكدر ..

حاشية :
ما أصعب أن تختلط مظاهر جمال الطبيعة وسحرها الفتان بلحظات عصيبة فيها الابتلاء والصبر والثبات والتحلق حول حمى الشهادة فمن حام حول الحمى وقع فيه ،مع ذلك تأتي إرادة الحياة غالبة في كل نصر .فالتحية للقوات المسلحة والقوات المساندة لها بكل تشكيلاتها وتخصصاتها ،والتهنئة للشعب بهذا النصر المبين حين تلتقي الجيوش والمتحركات والجحافل عند ملتقى النيلين كما التقى النهران في مجرى (تبارك ذلك المجرى ) لتكون وحدة السودان وتكامل وسلامة أراضيه هي الهدف والغاية وفي سبيلها يهون كل غالي .الله أكبر ولا نامت أعين الجبناء .

اترك رد

error: Content is protected !!