
الدكتور الدرديري محمد احمد
قرأت مقالا رائعا للدكتور كرار التهامي استعرض فيه صمود لندن تحت قنابل القصف النازي في الحرب العالمية الثانية. وهي قصة جديرة بالوقوف عندها واستخلاص العبر منها. وقد عرفت البشرية قصص الصمود الاسطوري منذ امد بعيد. ومن أشهر ذلك صمود مدينة صور اللبنانية عام ٣٣٢ م في وجه الاسكندر الأكبر لمدة سبعة أشهر مستخدمة تحصيناتها البحرية. ولاتزال تلك القصة حية في وجدان أهل غزة.
وبالرغم من ان ملاحم الصمود تشبه بعضها في الكثير من الملامح، الا انه لكل منها شخصيتها المتميزة التي تجعلها تتفرد بجانب ما. لذا رأيت أن اضيف في هذا المقال ثلاث قصص لقصة لندن هي : معركة استالينغراد، وحصار سراييفو، ثم حصار غزة الراهن مستعرضا ما ميز كل ملحمة من هذه الملاحم.
وفي الختام يشير المقال للفرصة النادرة التي تأتت بسبب الاستهداف الاماراتي لتحويل معركة الكرامة الى ملحمة اسطورية من الصمود والبأس.
تعتبر معركة استالينغراد احدى أعنف المعارك في التاريخ البشري. ففي صيف 1942، أطلق الزعيم النازي أدولف هتلر حملة هجومية كبرى نحو الجنوب الشرقي للاتحاد السوفيتي، بهدف الاستيلاء على حقول النفط في القوقاز. لكن في طريقه إلى هناك، كانت تقف مدينة استالينغراد (فولغوغراد اليوم) عائقاً رمزياً واستراتيجياً. لم تكن المدينة مجرد هدف عسكري، فهي كانت تحمل اسم الزعيم السوفيتي “ستالين”، ولذلك تحولت إلى رمز لصراع الارادة بين هتلر وستالين. قرر هتلر أن يسحق المدينة بأي ثمن، بينما أصدر ستالين أوامره الشهيرة: “لا خطوة إلى الوراء”! استهلت المعركة، التي بدأت في أغسطس 1942 واستمرت حتى فبراير 1943، بقصف جوي عنيف دمّر المدينة بأكملها وحوّلها إلى ركام. لكن بين الأنقاض، تحصّن الجنود والمدنيون السوفييت. كل شارع، كل غرفة، وكل قبو أصبح ميدان معركة. فكان القتال وجهاً لوجه. ولعب القناصة دوراً محورياً، وكان أشهرهم القناص السوفيتي فاسيلي زايتسيف، الذي أصبح أسطورة تروى. لم يغادر المدنيون المدينة، بل شاركوا في القتال وعملوا في المصانع الحربية رغم القصف، وصمدوا في الشتاء دون مأوي في درجات حرارة وصلت إلى 30 درجة مئوية تحت الصفر. في نوفمبر 1942، نفذ الجيش الأحمر عملية “أورانوس” التي طوق بها الجيش السادس الألماني فأصبح أكثر من 300,000 جندي ألماني محاصرين وسط الشتاء القاسي، دون مؤن أو إمدادات. وبالرغم من أن هتلر أمرهم “بالصمود حتى الموت”، إلا أن الجوع والبرد والقصف أنهكهم. وفي 2 فبراير 1943، استسلم قائدهم باولوس، رغم ترقيته إلى رتبة مشير لمحاولة منعه من ذلك. فأصبح أول مارشال ألماني يُؤسر حيًّا. تشير تقديرات الضحايا الى انه سقط أكثر من مليوني شخص من الجانبين بين قتيل وجريح وأسير. وفي النهاية انتصرت استالينغراد في وجه التفوق العسكري النازي، وبدأ بعدها الجيش الألماني بالتقهقر لأول مرة.
ما يجعل صمود استالينغراد مميزا ليس فقط تحقيق النصر المستحيل، بل الطريقة التي تحقق بها. فالمدنيون قاتلوا جنباً إلى جنب مع الجنود. ولم يتراجع أحد رغم الجوع والبرد والقصف المتواصل. كما تميز صمود استالينغراد بالإرادة الجماعية التي جعلت من مدينة مدمّرة قلعة حية للمقاومة. أصبحت استالينغراد درساً في أن الحرب لا تُحسم فقط بالسلاح، بل بالصبر والعقيدة. اسقطت استالينغراد خرافة التفوق النازي، وفيها أثبت الإنسان انه قادر – رغم الضعف والدمار – على تحدي أقوى الآلات العسكرية، حين يمتلك الإيمان بالأرض والحق والكرامة. وإذا كان انتصار استالينغراد قد تحقق بسبب توقف كل اوجه الحياة الاخرى فان انتصار سراييفو – الذي نتناوبه ادناه – قد تأتى رغم الاصرار على ان تستمر الحياة.
في عام 1992، أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغوسلافيا، مما أشعل غضب القوميين الصرب الذين سعوا لضم أراضيها إلى “صربيا الكبرى”. وفي 5 أبريل من العام نفسه بدأت القوات الصربية فرض حصار شامل على سراييفو استمر لمدة 1,425 يوماً، وهو أطول حصار في التاريخ الحديث. طُوّقت سراييفو من جميع الجهات واتخذت القوات الصربية مواقعها على المرتفعات التي تحيط بالمدينة، لتحكم السيطرة عليها تماما بكثافة النيران. كانت القذائف تمطر شوارع سراييفو يومياً بمعدل وصل احيانا إلى أكثر من 3,700 قذيفة. إلى جانب القصف، نُصِب القناصة على أسطح المباني، يحصدون أرواح المدنيين العُزّل عندما يخرجون من بيوتهم لجلب الماء والغذاء والدواء. وباتت شوارع مثل “شارع القناص” رمزاً للرعب المستمر. ومع مرور الأيام وانقطاع الكهرباء والماء والغاز تحول البقاء على قيد الحياة إلى معركة يومية. استخرج الناس الماء من الآبار القديمة، وجمعوا الحطب من أنقاض المنازل، واقتاتوا على الأعشاب، بل حتى لحاء الأشجار. راح ضحية الحصار حوالي 11,000 مدني. جُرح عشرات الآلاف، وتعرض الآلاف لإعاقات دائمة. كانت المرافق الحيوية من مستشفيات ومدارس وأسواق هدفاً للقصف المتكرر، في خرق فاضح للقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية.
لم تستسلم سراييفو قط للصرب رغم حصارهم القاسي. لكن ما ميز حصار سراييفو وجعل منه ملحمة خالدة ليس الصمود على عظمته، وانما ان سراييفو رفضت الموت البطيء. ففي قلب المأساة لم تتوقف الحياة الثقافية. اذ قاوم السكان ببرنامج “إحياء الثقافة في وجه القذائف”. حيث أُقيمت حفلات موسيقية، وعُرضت مسرحيات، واحتُفل بالمهرجانات السينمائية، في الأقبية وتحت القصف. وقاوموا باستمرار المدارس تحت الأرض. اذ تابع الأطفال تعليمهم في الملاجئ، متحدّين الموت بقوة العلم. وقاوموا بأن حفروا نفق الأمل، الذي هو نفق سري بطول 800 متر تحت المطار، لربط المدينة بالعالم الخارجي. وكان شريان حياة لنقل الغذاء والسلاح والمصابين. وقاوموا بأن أقاموا شبكات التكافل، فتعاون السكان في تبادل الحاجات، وتقاسموا لقيمات العيش والماء وحطب الوقود. والأهم من ذلك كله كان برنامج “إيمان لا يُقصف”. اذ تمسّك الناس بإقامة الصلوات الخمس في وقتها في جماعة – رجالا ونساء – وبالتزام دعاء النوازل؛ القنوت. وهكذا أصبحت العبادة شكلاً من أشكال المقاومة. رغم فظاعة ما جرى في سراييفو وقفت المنظمات الدولية عاجزة وتُركت سراييفو وحدها. بل فشلت قوات الأمم المتحدة في حمايتها. لكن الصمود الاسطوري لم يكن لينتظر المجتمع الدولي وما يتفضل به، فاستمر حتى انتصرت سراييفو بتوقيع اتفاقية “دايتون” للسلام أواخر 1995. واضطر الصرب لرفع الحصار.
اما ملحمة تحدي الموت والدمار في غزة فهي الأسطورة التي لا تزال تتخلق. ولا نحتاج لكثير قول في بيان هذا الصمود المعجز. فمنذ عام 2007 يعيش قطاع غزة تحت حصار خانق فرضته إسرائيل، بأن جعلت من القطاع “سجن مفتوح” لأكثر من 2.3 مليون نسمة. وقد أدى الحصار إلى تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بشكل حاد، حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة، وانهارت البنية التحتية، وتدهورت الخدمات الأساسية. في 7 أكتوبر 2023، شنت إسرائيل عدوانًا واسع النطاق على غزة، لا يزال مستمرا. أسفر ذلك العدوان عن استشهاد ما لا يقل عن 50 ألف فلسطينيًا، بينهم 30 ألف طفل وامرأة، وإصابة أكثر من 100,000 آخرين. كما أدى إلى تسوية 70% من منازل غزة بالأرض. فتهجر أكثر من 85% من سكان القطاع، أي ما يزيد على 1.93 مليون مواطن، بعد ان دمرت منازلهم ولم يعد لهم مكان يعودون اليه.
رغم هذا الدمار الهائل والمعاناة المستمرة، صمد سكان غزة صمودًا أسطوريًا في وجه العدوان. فهم يصرون على البقاء في غزة مهما كلفهم ذلك ومهما كان البقاء فيها جحيما. واستمروا في حياتهم اليومية، ويعملون ما في وسعهم لبناء ما دمر. ولا يزالون يتمسكون بالأمل في مستقبل أفضل، ان لم يكن لهم فللجيل القادم. وهكذا جعلوا ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل اختبار لضمير العالم. خاصة في ظل استمرار الصمت الدولي والتقاعس عن اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف العدوان ورفع الحصار. وتظل غزة، رغم الجراح، شامخة، تروي للعالم قصة شعب لا يعرف الانكسار. وقديما قال محمود درويش في قصيدته بطاقة هوية التي تحوّلت إلى شعار للكرامة الفلسطينية: “سجّل! أنا عربي … ورقم بطاقتي خمسون ألف … وأطفالي ثمانية …. وتاسعهم… سيأتي بعد صيف”. وقال سميح القاسم في قصيدة ارهابي: “تقدّموا … تقدّموا …كل سماء فوقكم جهنمُ … وكل أرض تحتكم جهنمُ … تقدّموا”! وقد اوصاهم أمل دنقل من مصر: “لا تُصالِح! ولو منحوك الذهب … أترى حين أفقأ عينيك … ثم أثبت جوهرتين مكانهما… هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى”! وهي مجرد قصيدة …. لكنها صارت مرجعًا أخلاقيًا للثبات على المبادئ. هذه نماذج من الصمود الأسطوري في عالمنا المعاصر. فماذا نستفيد منها في التصدي للعدوان الإماراتي!
انني لا اقول ان الامارات قادرة على ان تُطبِق على بورتسودان وتدير فيها معركة في ضراوة معركة استالينغراد. فالنازي ما كان يقاتل من وراء جدر، فيرمي بالمسيرات من وراء الاف الكيلومترات. وانما يلتحم التحاماً، رجلا لرجل. ولن تجترئ الامارات على ذلك. فقد آتى ربنا فرعونها وملأه زينة واموالا في الحياة الدنيا ليضلوا عن سبيله. لكنه لم يؤتهم خيلا ورجِلا. ولا هي بقادرة على ان تُحكِم علينا حصارا كحصار سراييفو. ولا هي بقادرة على ان تدك بورتسودان – بله السودان – كما دكت اسرائيل غزة. لكنها اهدتنا احساسا جديدا وروحا جديدة. انه إحساس الملحمة وإنها روح التحدي. ولطالما افتقدنا ذلك الاحساس وتلك الروح. الآن عندما تلبسناهما سارعنا لقطع العلاقات مع الامارات. تصوروا اننا لم نقدم على ذلك والامارات تفعل بنا كل ما فعلت دعما للمليشيا، وما كان ذلك الا لأنه لم يواتينا ذلك الاحساس ولم توافينا تلك الروح. بل حتى ونحن نقاضي الامارات وننسب لها أكبر جريمة عرفتها البشرية لم نقطع معها العلاقات. ومن ثم فقطع العلاقات هو أول الغيث.
بل زالت منا غشاوة كانت تُعشي ابصارنا. فنحن ندرك الآن ان معركة الامارات ليست مع الحركة الاسلامية كما تقول الأبواق. وهي ليست مع جيش يسيطر عليه الاسلاميون. وانما هي معركة تستهدف كرامة السودان وقراره المستقل وسيادته الوطنية. اذ لن يشفي غليل الأمارات ان يستقيل البرهان … وان استقال ومعه ألف من قيادات الجيش. ولن يرضيها ان يُعدم كرتي … ولو أعدم ومعه من معه من قيادات الاسلاميين. وانما هي تود التحكم في قرار السودان وذهبه وموارده وارضه وبحره. فبعد ان انهزمت المليشيا واعوانها عسكريا – ودُكت قاعدتها الخلفية في نيالا دكاً دكا – فان الامارات تسعى اليوم لفرض ازلامها علينا بذراعها الطويلة. ومن ثم علم السودانيون ان الهدف هو السودان وليس “الكيزان”. ها هي الخديعة قد انكشفت … وما عادت لتنطلي على أحد … فماذا نصنع!
لا أود ان أقف واعظا بشأن ما ينبغي فعله بعد ان بعث اعتداء الامارات هذه الروح الجديدة. لكنه صار واضحا اننا اليوم لم نعد نأبه للأمارات او لما تحب او تكره. ولم نعد ننتظر من المجتمع الدولي – ان كان لا يزال هناك كائن بهذا المسمى – أي دور يكف به اذى الامارات عنا. إذا كان ذلك كذلك فما بالنا ننتظر! بل من ننتظر! لماذا لا نعلن تعيين رئيس وزراء أصيل ليشكل حكومة حرب او طوارئ تدير هذه الفترة! ولماذا لا نعلن انتقال حكومتنا للخرطوم فتباشر سلطتها من هناك مهما كانت ظروف الخرطوم ومخاطرها. ولماذا لا نعلن حالة الطوارئ ونعطي الحكومة سلطات الطوارئ. ولماذا لا نَجمع كافة القوى السياسية في هذا الظرف الدقيق في صعيد واحد فيتجاوزون المسميات القديمة والاحزاب والكيانات وينشئون تحالف الكرامة من كل الذين اصطفوا وراء الجيش. ولماذا لا نقطع اجلا قريبا للانتخابات، عامان او ثلاثة، فنجريها ولا نبالي. ولماذا لا نجعل لقضائنا دوائر ناجزة تحاكم من يخونون الوطن او يخالفون القانون فتصدر احكاما تعيد الثقة في القانون وسلطانه.
ولماذا لا نعلن التعبئة العامة فننشئ كتائب الاحتياط تحت راية الجيش بعشرات وربما مئات الالاف من المجندين، فيأمن الناس في بيوتهم وشوارعهم واحيائهم ومدنهم وقراهم … ضربتها الامارات او لم تضربها، استهدفتها المليشيا او عجزت عن ان تطالها. ولماذا لا نعلن فتح ابواب جامعاتنا ومدارسنا ومصانعنا ومصارفنا ومزارعنا ومتاجرنا في كل مكان. فنُطبِّع الحياة ونحرك الاقتصاد. ولماذا لا نعيد للحياة صُحُفنا، ورقية وإلكترونية، واذاعاتنا وقنواتنا فنقلل من تسقّط الاخبار من الواتساب والفيسبوك ونحد من قدرة الآخرين على تشكيل الرأي العام لدينا. ولماذا لا تكون لدُعاتِنا ندوات ولقاءات، ولمُقرئينا ليالي للقيام والدعاء والتضرع. ولماذا لا تنشط كرة القدم ودورياتها ومبارياتها، ولماذا لا تكون لشعرائنا ليالي ولمطربينا حفلات ولرسامينا معارض … كل هذا تحت القصف ورغما عنه. ولماذا، ولماذا، ولماذا! هذه هي روح ما بعد الضربة الاماراتية. روح ملحمة الصمود. وهذه هي الهدية التي قدمتها لنا الامارات وهي لا تدري. بل ان فَعلنا … يكون هذا هو الرد الأبلغ على الامارات.
7 مايو 2025