الرأي

مكايدات الشيوخراطية الحزبية ومبادرة اهل السودان

بروفيسور صلاح محمد إبراهيم

منذ مؤتمر الخريجين امسكت الشيوخراطية الحزبية برقاب اهل السودان وتنكبت الطريق وفشلت في تحقيق حلم الحرية والديمقراطية والتنمية، إذ لا يذكر لها انجاز واحد أو مشروع تنموي واحد يذكرها به الناس ، واليوم يسخر بعض قادة الشيوخراطية الحزبية القديمة  من مبادرة اهل السودان التي يقودها الشيخ الطيب الجد ، بعضهم يصفها بضياع وقت ، وأخرون يقولون ان الذين يروجون لها غير مؤهلين ، ويتعجب المرء من مثل هذا القول ، مع العلم أن  اصل العمل السياسي في السودان واحد ، منذ مملكة الفونج والعبدلاب .

كتبنا عدة مقالات في الصحف حتى مللنا الكتابة قبل تشكيل حكومة حمدوك الأولى أن الفترة الانتقالية لا يجب أن تتجاوز العام ، وأن القوى السياسية الحالية بعد فترة ثلاثين عاماً من التفتت والتراجع  في حالة توهان  بغض النظر عن الأسباب  التي أدت إلى هذا الانتكاس في العمل الحزبي  والذي يعود في جوانب منه  إلى خلل في بنية ومصالح داخلية داخل الأحزاب نفسها التي تعاونت بعض قياداتها مع النظام السابق، وبالطبع يعود جانب اخر إلى ممارسات النظام السابق،  قلنا أن الكثير  من العوامل لا تؤهل الناشطين السياسيين الجدد للتعامل مع الكثير من الملفات المعقدة في الساحة السياسية ، غير أن الفاعلين والنشطاء السياسيين لم يستبينوا النصح حتى يومنا هذا ، وظلوا يتلاومون ويتشاكسون ويمترسون حول مواقف ليس فيها منطق أو شعور بالمسؤولية تجاه مستقبل الوطن وأهله وحالة ضيق العيش  وشظف الحياة وقسوتها على قطاعات واسعة من الناس.

حالة التمترس السياسي والشعور بالخوف دفعت رئيس الوزراء عبدالله حمدوك إلى التقدم بطلب إلى الأمم المتحدة للتدخل لحماية ثورة التغيير ، وهي سابقة حدثت  لأول مرة  في السودان ،وكانت تدل على عدم الثقة بالنفس  والقدرة على إدارة الفترة الانتقالية  التي سبق أن أدارتها حكومات وقدرات وخبرات سياسية ونقابية واكاديمية سودانية  ثلاثة مرات منذ ثورة أكتوبر 1964، وهو طلب زاد من تعقيد المشهد السياسي والتدخل الأممي في شأن داخلي بحت ، و مع الخبرة السياسية  المتواضعة تطاول الناشطين الجدد دون رصيد أو خبرة في محاولة أو مغامرة لحل قضية السلام الشائكة مع الحركات المسلحة ، فجاءت اتفاقية سلام جوبا دون أن تتمكن الحكومة من الوفاء بكل التزاماتها نحوها ، وهي كانت قفزة في الظلام لم تكن إمكانيات الدولة تسمج بها ، وكان من الممكن أن تصبح عملية السلام أكثر نجاحاً إذا ما قامت بها حكومة منتخبة بعد عام من الانتقال ، لأتها كانت سوف تجد دعماً  وترحيباً أكثر وتمويلاً يساهم في الوفاء بالتزاماتها ، وتواصل التعقيد في المشهد السياسي بزيادة حركة الشارع وهي ليست بعيدة عن نشاط بعض الأحزاب العقائدية الرافضة لكل شيىء ولكل مبادرة ولكل تدخل من الأصدقاء، ومن البنك وصندوق النقد الدوليين.

تمدد  الفترة الانتقالية تسبب في حالة عدم الاستقرار السياسي والتلفت الأمني والتدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد الان، وكان دافعه أن بعض القوى السياسية الجديدة أو الأيديولوجية  تريد تمديد الفترة الانتقالية لهندسة الساحة السياسية بما يتلاءم وأهدافها وكتابة نهاية  التاريخ ، والتاريخ ليس له نهاية  ، وهو طموح ما كان يمكن أن يكتب له مستقبل بسبب صغر وزنها الجماهيري، على الرغم من اعتمادها على الدعم الذي وجدته من احد الحزبيين  الرئيسيين في البلاد، وفي اعتقادي أن هذا الأمر ارتكز على قراءاه خاطئة للتطور السياسي في البلاد، والتحولات السياسية التي حدثت خاصة في بعض الأقاليم التي كانت حاضنة لذلك الحزب ، وكان ذلك في تقديري من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الانقسام الذي حدث في قوى الحرية والتغيير، وابتعاد الحركات المسلحة ومؤيديها عن الولاءات  القديمة ، ثم جاءت قرارات القائد العام المختلف حول توصيفها لتزيد الأمر تعقيداً على الرغم من أن  هناك الكثير من المبررات التي تسندها بسبب الخلافات التي ضربت تحالف قوى الحرية والتغيير وعدم قدرة رئيس الوزراء على العمل بتعاون وسلاسة مع حاضنته السياسية وفقاً للتوضيح الذي ذكره في خطاب استقالته ، وكعادة السياسيين( الناشطين)  السودانيين لم يتوقفوا  لمعالجة الواقع السياسي بموضوعية ومكاشفة مع النفس و ادخلوا البلاد في مساجلات سياسية اهدرت الوقت وشغلت البلاد والعباد حول امر كان يمكن معالجته بالجلوس والحوار وظهرت ثلاثية لا تفاوض لا شراكة لا شرعية ، وهي شعار لم يكن  يسنده أي منطق او فقه سياسي أو خبرة سياسية وانساق وراء الشعار ( الهتيفة ) وهكذا اهدر الزمن بلا منطق او تفكير عقلاني أو حكمة ، وحتى الأمس القريب ما زال البعض في الفضائيات يتحدثون عن الانقلاب واسقاطه مع العلم أن العالم كله يتواصل مع قادة الإنقلاب المزعوم ، بل رؤساء الدول وزراء ارجية يتحدثون مع قادة الانقلاب ، فما الذي يضير أن يتحاور معه الأخرون في الداخل ، وحتي عندما أشار البعض إلى قادة أوكرانيا الذين دكت القنابل الروسية بلادهم وهم يتحاورون مع اعدائهم تحت هدير المدافع والطائرات الروسية لم تتم مراجعة المواقف ، الم اقل ان حالة الانسداد السياسي لا يسندها منطق.

الان تقدم شيخ جليل هو الطيب الجد بمبادرة اطلق عليها اسم مبادرة (اهل السودان ) ، وصفها قيادي حزبي طائفي بأنها ضياع وقت ، واخر من قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي قال انها سوف تعيد العجلة إلى الوراء وعودة النظام السابق ، واحدهم قال ان الذين وراء المبادرة غير مؤهلين ، وان لديهم مبادرة من نقابة المحامين ، ولا شك أن كل من يتقدم بمبادرة يشكر في ظل حالة العجز التي اوصلتنا اليها قوى الحرية والتغيير بجناحيها واصبحنا في مشهد فكاهي تسيطر عليه الاتهامات وتضربه الخلافات وكل ذلك على حساب وقت الشعب السوداني الذي يتحدثون باسمه دون تفويض.

في اعتقادي أن الوقت قد ازف لاتخاذ بعض القرارات الحاسمة، وفقاً لتصريحات رئيس البعثة الأممية ، هذا العبث بالوقت واهدار الزمن واللامبالاة من الطرفيين العسكري والمدني لابد أن يصل إلى نهايته، لقد انتظر الناس طويلاً انتظاراً للحل ، ولابد أن يأتي الحل سريعاً بتعيين رئيس وزراء يدير الفترة الانتقالية ويختار حكومته وتذهب الأحزاب للاستعداد  للانتخابات والخروج من  مأزق الجدل حول قضايا غير منتجة ، واظن أن اقصر طريق هو العودة لترتيبات الفترة الانتقالية بعد انتفاضة 1985، وفي ظل ضبابية الأوضاع النقابية والحزبية  المرتبكة اعتقد أن القوى المجتمعية غير الحزبية أو النقابية المسيسة هي افضل من يؤسس للفترة القادمة ، ومن هنا يأتي دور المبادرة التي يقودها الشيخ الطيب الجد  ( والعمل السياسي في السودان كله مشايخ) ومن كان منكم بلا شيوخراطية فليرمي  نفسه بحجر ، ومبادرات الشيوخ ليست جديدة وهي ليست بأمر غريب في السودان ، فالحياة السياسية اصلاً قامت على المشايخ والطوائف وما زال هذا هو الواقع المائل مهما تدثر البعض بثياب الحرية والتغيير  ، اما تخويف الناس بحكاية النظام السابق فامر لا جدوى منه ، فالعديد من الأفراد والقيادات في الحزبيين الرئيسيين والأحزاب الأيديولوجية  تعاونت وتقلدت مناصب قيادية في النظام السابق ، ومعاقبتها أو التنصل منها  من قبل البعض دون تفويض مؤسسات حزبية  هي اصلاً منقسمة على نفسها ولم تعقد جمعياتها العمومية امر يدخل في نطاق الفوضى  وتوزيع الاتهامات، فلا احد يملك صكوك الغفران ليوزعها على الناس.           

اترك رد

error: Content is protected !!