الرأي

ما بين السودان وسنغافورة: توفير مياه الشرب أنموذجا ..

✍️ د. أحمد عبد الباقى

تنعدم الحياة في شتي معانيها بانعدام الماء كما أن توفره هو حياة الناس و بقاء الجنس البشري لذلك يشتد أوار التنافس حول مصادر المياه في العالم وربما ستكون الحروب المقبلة حول المياه وقد بدأت إرهاصتها، السودان من ضمن الدول التي حباها الله بموارد مائية ضخمة تتمثل في المياه السطحية (نهر النيل وروافده، الوديان الموسمية) ،مياه الأمطار والمياه الجوفية في حوض أم روابة والحوض النوبي ويبلغ إحتياطي هذه المياه 7000 مليار متر مكعب (أكبر أحتياطي للمياه في العالم حسب تقرير نشرته صحيفة القدس العربي في مارس 2019م). و علي الرغم من توفر هذه الموارد الضخمة، إلا أن معاناة المواطن السوداني في صمت ظلت قائمة للحصول علي مياه الشرب ناهيك عن أنها صالحة أم لا. كما أن هذه المشكلة باتت تلازم السودان منذ عقود وتتفاقم كل عام بسبب سوء التخطيط والإهمال لإستيعاب الإزدياد السكاني المضطرد وتطور نمط الحياة والحاجة لإحداث التنمية الاقتصادية.

مشكلة المياه في السودان تتعلق بالدرجة الأولي بسياسات الدولة ومدي همة قياداتها لحل كل الأزمات ومنها أزمة المياه القديمة المتجددة رغم أن السودان يزخر بموارد مائية ضخمة. وفي المقابل دولة مثل سنغافورة التي حلت ثالث أغني دولة في العالم لعام 2021م حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي -(ما يتم إنتاجه داخل الدولة خلال فترة زمنية محددة، ويساعد في قياس مستوى معيشة الفرد، كما يعتبر المؤشر مقياساً لأداء الاقتصاد)- 107,677 الف دولار في ظل عدم توفر الموارد الطبيعية ومن ضمنها مصادر المياه. مثلا : تستأجر سنغافورة الفضاء من ماليزيا و إندونيسيا ليتكمن طيرانها من التحليق و تستورد الرمال من إندونيسيا لأعمال الإنشاءات والمباني و تردم مياه البحر ليصبح يابسة لزيادة رقعة مساحتها. و الشاهد في الأمر هنا لموضوع المياه، أن سنغافورة تستورد مياه الشرب الخام من ماليزيا و تكررها للاستخدام و جزء يعاد تصديره لماليزيا، ولتغطية العجز في مياه الشرب لجأت سنغافورة لعدة معالجات منها تحويل مياه الصرف الصحي لمياه صالحة للشرب، وتوفر المياه المعاد معالجتها نسبة 40 % من احتياجاتها حالياً، فيما يُتوقع أن تصل النسبة إلى 55 % من الاستهلاك بحلول عام 2060، وتم إنشاء بني تحتية لهذا الغرض بقرابة الـ 8 مليار دولار بحسب تقديرات وكالة المياه الوطنية. وبينما تُستخدم هذه المياه في معظمها للقطاع الصناعي، يُستعان بجزء منها أيضاً لمياه الشرب ولتغذية خزانات الجزيرة (سنغافورة) التي يبلغ عدد سكانها 5.7 مليون نسمة. أين ساساتنا وقادتنا من ذلك؟ واليكم شئ من التفصيل عن موقف المياه في السودان.

وفقا لدراسة أصدرها معهد جامعة الخرطوم لأبحاث المياه في عام 2018م بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي و بعض مراكز البحوث الإقليمية تحت عنون:
AU-NEPAD Networks of Centre of Excellence in Water Sciences and Technology
ACEWATER II Project
Sudan Desk Study
October,
جاء فيها أن سكان السودان بلغوا في تعداد 2008م (33) مليون نسمة بمعدل زيادة سنوية تبلغ 2.8%. و أكثر من نصف هذا العدد من السكان يسكن في 15% فقط من المناطق المحازية لنهر النيل وبقية السكان يعيشون في مناطق تبعد عنه. و وفقا لهذه الدراسة، أن المياه المتجددة المتوفرة للسودان تبلغ 30 بليون لتر مكعب وهذه الكمية كانت تاريخيا فائضة عن الإستهلاك ولكنها مؤخرا أصبحت تقريبا مساوية للطلب و حسب التوقعات بأن يزداد الطلب علي المياه بواقع 50 بليون لتر مكعب في عام 2025م أي بنسبة 66 % من اجمالي الإستهلاك الحالي وهي تعادل 20 بليون لتر مكعب خلال السنوات المقبلة، الأمر الذي سيكون له تداعيات خطيرة علي السودان أهمها توفير مياه شرب كافية لاستهلاك الإنسان، الحيوان والنبات و الأحياء الطبيعية الأخري والنشاطات الاقتصادية.

طالما أن الأمر كذلك كما هو مذكور عاليه، إذن ينبغي أن تتحرك السلطات الحكومية في السودان والجهات ذات الصلة لوضع خطط أسعافية و أخري آنية و طويلة الأمد لمجابهة هذه التحديات. و أري أن هنالك ثمة حاجة لاتخاذ عدة تدابير منها: (أ) تشجيع الاستثمار مجال توفير المياه عبر مفهوم الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPPs). و تهدف هذه الشراكة إلى تغيير نشاط الحكومة من تشغيل البنية الأساسية والخدمات العامة، إلى التركيز على وضع السياسات والاستراتيجيات لقطاع البني التحتية ومراقبة مقدّمي الخدمات بهدف الارتقاء بها. كما تهدف إلى الاستفادة من الكفاءات الإدارية والتقنية والقدرات التمويلية لدى القطاع الخاص، وإشراكه في تحمل المخاطر. تتخذ هذه الشراكة عدة أنواع من التعاقدات منها: البناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT) أو البناء والتملك والتشغيل ونقل الملكية (BOOT) أو البناء والتملك والتشغيل(BOO) أو البيع (البيع المباشر، أو من خلال بيع الأسهم في الأسواق المالية، أو البيع للعاملين والإدارة).
(ب) تشجيع الشركات التجارية الكبري مثل شركات الإتصالات و شركات النفط علي تخصيص جزء من ميزانيتها للمسؤولية المجتمعية بصورة أكبر للمساهمة في توفير أو صيانة محطات المياه علي أن تُقدم لها حوافز، مثلا بعض الإعفاءات الضريبية نظير ذلك الدعم.
(ج) تشجيع وقف السقيا إما للأفراد أو عبر التفكير في إنشاء شركة وقفية ( وقف النقود) للمساهمة العامة عبر الإكتتاب. تعمل هذه الشركة في مجال توفير مياه الشرب إما عن طريق حفر الآبار أو إنشاء المحطات (هنالك تجارب ممتازة حاليا مثل منظمة السقيا ومنظمة صدقات اللتان تعملان في مجال حفر الآبار وتوفير المياه في عدة مناطق من السودان). ولضمان ديمومة نفع هذه الأوقاف لابد من توفير مصادر مستدامة للتمويل المالي للصرف علي صيانة هذه الآبار أو المحطات و دفع مرتبات من يطلعون بالإشراف والمراقبة. وأفضل طريقة لتوفير هذه المصادر هو إنشاء استثمارات في مجال بيع المياه النقية للشركات أو إنشاء مصانع لانتاج المياه المعدنية أو تعبئة المياه النقية من هذه الآبار لتسويقها والاستفادة من ريعها، ويمكن أيضا إضافة خط تصنيع للعصائر الطبيعية مثل عصير الكركدي أو التبلدي الخ… أو الاستفادة من تصنيع الفواكه الموسمية وتحويلها إلي عصائر و تُعد هذه العصائر للصادر باعتبار انها طبيعية.
هذه مجرد أفكار وأكيد هنالك متسع للتفكير خارج إطار المألوف وهذا ما ينقصنا ولسان حالنا يشبه قول المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئا—كنقص القادرين علي التمام

اترك رد

error: Content is protected !!