الرأي

كيف قاد الإطاري و “قحت” البلاد للحرب ؟


✍️ عبد الله عبيد الله

يجادل البعض بأنه ليس هناك علاقة سببية مباشرة بين توقيع الاتفاق الإطاري في ٥ ديسمبر٢٠٢٢ واندلاع الحرب الحالية في ١٥ أبريل الماضي، بعد الهجوم المتزامن لقوات الدعم السريع على القيادة العامة للقوات المسلحة ومقر إقامة رئيس مجلس السيادة ومطار الخرطوم والقصر الجمهوري ومطار مروى ومعظم الوحدات العسكرية الرئيسية في الولايات.
وعلى ذات المنوال، يقلل هؤلاء من مسؤولية “قحت” في اندلاع الحرب، وأن الحرب ليست من مصلحتها لأنها تحول بينها بين العودة للسلطة في ضوء توقيع الاتفاق الإطاري وفي وقت كانت تتطلع فيه لتوقيع الاتفاق النهائي قريبا، بعد أن تعذر ذلك في الموعد المضروب :١ أبريل الماضي بسبب الخلافات حول مسألة دمج الدعم السريع في القوات المسلحة. ويتأولون التصريحات الصادرة من قيادات في قحت او محسوبين عليها مثل بابكر فيصل ومريم الصادق وشوقي عبدالعظيم ، والتي تضمنت ما فهم أنه تهديد بالحرب إذ لم يوقع الاتفاق النهائي، بأنها من باب التنبؤ بالمآلات المحتملة إذا لم يوقع الاتفاق النهائي.

ورقة د. الواثق كمير

ونجد صدى لهذه الحجة في ورقة د. الواثق كمير ” حرب أبريل: محطة مفصلية في سيرورة بناء الدولة السودانية” والتي اتسمت بالموضوعية والتحليل الرصين. ففي رأيه أن “الاشتباك المسلح بين الجيش والدعم السريع لم يكُن مُحتاجاً للاتفاق الإطاري حتى يقع” . وان قحت (المجلس المركزي) لم يكن بيدها سلاح تشعل به الحرب، مع إقراره بأن ورشة الإصلاح الأمني كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير. ورغم الاتفاق مع السياق العام للورقة ، إلا أن مسألة علاقة الاتفاق الإطاري باندلاع الحرب ومسؤولية قحت عن ذلك تحتاج لاستجلاء اكثر، خاصة أن هناك من السياسيين والمعلقين، خلافا لدكتور الواثق كمير، من ينكر تماما وجود أي صلة للاتفاق الإطاري بالحرب أو أن تكون لقحت أدنى مسؤولية في حريق الخرطوم ودارفور الراهن. بل بالعكس، يزعم هؤلاء ان كل خطوات وجهود قحت كانت تتوجه لتجنب واستبعاد الحرب. وأن الاتهامات التي توجه لها هي من باب الكيد السياسي. إذن ما هي حقيقة الأمر؟ وما هي الشواهد والبراهين على مسؤولية قحت والاتفاق الإطاري، الذي هو الوليد (الشرعي ام غير الشرعي؟) لعلاقة قحت بأطراف عسكرية ودولية معنية بالشأن السوداني، عن إيقاد نار الحرب؟

حميدتي : الخلاف مع البرهان بدأ بعد الإطاري

في أول حديث مسجل لحميدتي بعد اندلاع الحرب قال إن علاقته مع الفريق البرهان كانت جيدة حتى توقيع الاتفاق الإطاري. هذا يدل ، من وجهة نظر حميدتي، على أن هناك صلة للاتفاق الإطاري باندلاع الحرب. لاحظ أنه ذكر الاتفاق الإطاري نفسه، وليس ما برز مؤخرا من خلاف حول مسألة علاقة الدعم السريع بالجيش. لم تخضع إشارة حميدتي هذه للتحليل، ويتجاهلها القائلون بألا علاقة للحرب بالاتفاق الإطاري. وهذه الإشارة تعين كثيرا على فهم دور قحت في التغير الذي طرأ على العلاقة بين الفريق البرهان وحميدتي من حليفين وثيقين إلى عدوين لدودين…وبعد أن كان البرهان بالنسبة لحميدتي على مدى سنوات عديدة بمثابة قائدا وراعيا، بما له خبرة في العسكرية تقارب كل سنوات عمر حميدتي ، صار الأخير يصفه بأوصاف لا يصح ان يتضمنها مقال صحفي.

حميدتي وقحت العامل الخارجي :

من الواضح أن الجهات الخارجية التي سعت، وبنجاح كبير، للتحكم في التغيير السياسي في السودان منذ عام ٢٠١٨ وحتى الآن، عملت على نسج علاقات تعاون متين بين حميدتي وأعضاء مؤثرين في قحت، التي أريد لها أن تكون المعبر الوحيد عن الثورة. وكما اتضح لاحقا فإن أبوظبي كانت، قبيل وأثناء وبعد الثورة، محطة رئيسية لتحركات وزيارات العديد من قيادات قحت ممن اضطلعت فيما بعد بأدوار سياسية وتنفيذية مهمة. في ذات الوقت الذي كانت فيه علاقات أبوظبي بالدعم السريع، صاحب الحضور الأكبر في قوات التحالف العربي باليمن، تزداد وثوقا، بينما ينشط وكلاء محليون لها في الترتيب لمرحلة ما بعد حكم البشير.

لذا عندما أعلن الفريق ابن عوف في ١١ابريل ٢٠١٩ اقتلاع البشير من الحكم وتوليه رئاسة المجلس العسكري الذي أعلن، اتخذت كل من قحت وحميدتي موقفنا موحدا في رفض ابن عوف ونائبه الفريق كمال عبد المعروف. ونشطت الوسائط الاجتماعية المحسوبة على قحت وقتها في الترويج لموقف حميدتي وصورته منقذا للثورة والقادر على مواجهة الفلول الذين يريدون الالتفاف على إرادة الثوار. ومع إعلان التشكيل الجديد للمجلس العسكري برئاسة الفريق أول البرهان وحميدتي نائبا له، رفعت صور حميدتي وشعارات تمجد شجاعته في مواجهة “الكيزان” عالية بساحة الاعتصام. ولوحظ ان البرهان الذي تولى إبلاغ البشير بقرار خلعه وتحمل مسؤولية القيادة في ذاك الوقت الحرج لم ينل اي حظ من الإشادة

إشهار زواج المنفعة :

وعلى الرغم من الشواهد القوية على تورط الدعم السريع في عملية فض الاعتصام في ٣ يونيو٢٠١٩ بالطريقة الدامية التي مثلت صدمة للرأي العام السوداني وما ارتكبته قوات الدعم السريع من فظاعات في مواجهة الاحتجاجات التي اعقبت ذلك، وافقت قحت، إن لم تكن رتبت، أن يكون حميدتي هو من يوقع الوثيقة الدستورية في ١٧ أغسطس ٢٠١٩ إنابة عن المكون العسكري إلى جانب احمد الربيع، ممثل تجمع المهنيين، إنابة عن قحت.
لم يكن ذلك المشهد فقط استكمالا لعملية إعادة إنتاج صورة حميدتي وإنما أيضا إشهارا شرعيا للتحالف الخفي حتى تلك اللحظة بين الدعم السريع وقحت.

وعليه وافقت قحت على تسمية حميدتي نائبا لرئيس مجلس السيادة، رغم أن الوثيقة الدستورية لم تنص على مثل هذا المنصب. وقد كان المنطق ان يكون نائب الرئيس من المكون المدني (قحت) باعتبار ان هناك شراكة عسكرية مدنية واتفاق على ان يتداول الطرفان رئاسة المجلس. وإذا تذكرنا الضجة الكبرى التي أحدثتها قحت حول مسألة انتقال رئاسة مجلس السيادة لها، وفقا تفسيرها النصوص الوثيقة الدستورية حتى بعد تعديلها بموجب اتفاقية سلام جوبا، يبدو غريبا سكوتها عن المطالبة بمنصب نائب الرئيس.

بل إن قحت رفعت حميدتي لرئاسة اللجنة الاقتصادية العليا التي من أعضائها د. حمدوك رئيس الوزراء الذي كان يصور أنه الخبير الاقتصادي الدولي الذي سيوقف الانهيار الاقتصادي في السودان، ووزير المالية د. ابراهيم البدوي الخبير السابق بالبنك الدولي. لكن الرئاسة منحت لمن لم يكمل حتى تعليمه الابتدائي.

ومضت قحت خطوة أخرى في تعظيم دور حميدتي باسناد رئاسة لجنة السلام مع الحركات المسلحة له ووقع بالإنابة عن الحكومة الانتقالية على اتفاقية جوبا للسلام.


الصمت عن الكلام المباح :

في ذات الوقت صمتت قحت عن الكلام المباح وغير المباح بخصوص إكمال التحقيق في فض اعتصام القيادة و تحديد المسؤولين منه في ظل القناعة السائدة بالمسؤولية المباشرة للدعم السريع عنه. ليس ذلك فقط، بل كانت هناك تصريحات موثقة لقيادات في قحت تدافع عن الدعم السريع وتثني على دوره في الثورة. من أشهرها حديث المحامي وجدي صالح في هذا الصدد.

ومع أن ما بات يعرف ب”امبراطورية آل دقلو” برزت كأوضح نموذج للتمكين الاقتصادي خلال آخر سنوات الإنقاذ، من حيث سيطرتها على مناجم الذهب في دارفور (جبل عامر وغيره) وعدد آخر من المناجم في شمال السودان، وامتلاكها للشركات القابضة وغالبية الأسهم في عدد من البنوك، فإن لجنة تفكيك التمكين، التي كانت قحت تسيطر عليها وكانت دولة داخل الدولة بعد أن جمعت في أيديها سلطات الأمن والشرطة والنيابة والقضاء والجهاز التنفيذي بأكمله، غضت عنها الطرف تماما. ذلك في الوقت الذي نشطت فيه الدولة في مصادرة قطع سكنية يملكها مواطنون عاديون استفادوا مما كان يعرف بالتحسين أي تحويل المزارع إلى قطع سكنية، وبموجبها تتقاسم الدولة ومالك المزرعة القطع السكنية الناتجة بنسبة معينة، ويكون نصيب المالك عدد كبير من تلك القطع لأن مساحة المزارع عادة ما تكون بضعة فدانات.
وكانت النتيجة أن حميدتي ودعمه السريع أصبح خلال عامين من حكم قحت ( أغسطس ٢٠١٩- أغسطس ٢٠٢١) أقوى إمبراطورية سياسية عسكرية اقتصادية في البلاد. ووضح ان قحت صارت تراهن عليه باعتباره الحصان الرابح. ولم تكن مفاجأة ان العديد من رموزها وأيقونات الثورة التي لمعتها قحت صاروا مساعدين ومستشارين لحميدتي في العلن أو الخفاء.
وحتى بعد أن أزاح المكون العسكري قحت من السلطة في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، بدت الأخيرة حريصة على الحفاظ على شعرة معاوية مع حميدتي. ولم تبد حماسا يذكر للجزء الثاني من شعارات المظاهرات التي نادت ب ” العسكر للثكنات.. و الجنجويد ينحل” “يا برهان ثكناتك أولى.. ما في مليشيا بتحكم دولة”. بل انبرى قادة منها، مثل خالد سلك، لتبرير استمرار الدعم السريع بحجة أن حجمه يبلغ مائة ألف جندي ولا يمكن حله بجرة قلم. ثم طورت قحت موقفها من الدعم السريع بأنه يمكن أن يكون نواة للجيش المهني القومي، لأن القوات المسلحة تعرضت للتسييس والأدلجة على مدى ٣٠ عاما، ويصعب إصلاحه. وصدر هذا الرأي تلميحا وتصريحا من قيادات معروفة بقحت.

صاحب الوقت :

ورد حميدتي التحية بأحسن منها، إذ أعلن في أغسطس ٢٠٢٢ فشل إجراءات ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ وتماهي مع خطاب قحت بأن تلك الإجراءات أتاحت الفرصة للفلول للعودة للمشهد. وصار مستشاره السياسي يوسف عزت يشارك علنا في اجتماعات المجلس المركزي لقحت، دون توضيح الصفة التي يشارك بها، لأن الافتراض ان قحت (المجلس المركزي) تحالف لقوى سياسية مدنية محددة لا قوي عسكرية او مليشيات. وتحدثت تقارير إعلامية متواترة عن أن ياسر عرمان القيادي بالمجلس المركزي أصبح أحد كبار مستشاري حميدتي، ومهندسي تحركاته السياسية باعتبار أن الأخير هو “صاحب الوقت” في رفع راية المهمشين والسودان الجديد، بعد غياب قرنق والانقسامات المتتالية في الحركة الشعبية في الجنوب والشمال. ولم تعد قيادات قحت ترى حرجا في الدفاع عن الدعم السريع وانحيازه للتحول الديمقراطي وصار الاخوان دقلو حضورا وضيفي شرف في مناسبات التحالف السياسي.
وعندما تمخضت المفاوضات بين المكون العسكري وقحت، والتي بدأت سرية ومحصورة، عن الاتفاق ألإطاري الذي أعلن في ٥ ديسمبر ٢٠٢٢، وقع عليه كل من الفريق البرهان عن القوات المسلحة وحميدتي عن الدعم السريع كل على حدة، خلافا لما حدث في ١٧ أغسطس ٢٠١٩ عندما وقع حميدتي إنابة عن كل المكون العسكري. كانت دلالة ذلك أن الدعم السريع أصبح مستقلا عن القوات المسلحة، وبدعم كامل من قحت التي غدت حاضنة سياسية له، وعبرت مواقف قحت خلال ورشة الإصلاح الأمني والعسكري مارس ٢٠٢٣ عن هذا التوجه . ولم يتبق إلا أن يطلق الدعم السريع الرصاصة الأولى ضد القوات المسلحة ليفرض ذلك الاستقلال واقعا عسكريا ويستكمل استحواذ على كامل مؤسسات الدولة.

كيف قاد الإطاري للحرب؟

لقد أسهم الاتفاق الإطاري في خلق الأجواء المؤدية لاندلاع الحرب حتى قبل بروز الخلاف حول مسألة دمج الدعم السريع في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري. وذلك للآتي:
إن المفاوضات السرية التي قادت للاتفاق الإطاري جاءت بديلا وإجهاضا للعملية السياسية الشاملة التي أطلقتها الآلية الثلاثية في ٨ يونيو ٢٠٢٢ بفندق السلام بمشاركة كل القوي السياسية عدا المؤتمر الوطني،. ولكنها وئدت بنكوص قحت عن المشاركة، بعد أن منحت نفسها حق الفيتو في تحديد من تحق او لا تحق له المشاركة. وأشاع ذلك حالة من اليأس في إمكانية الوصول لتوافق وطني، وأعلا من شأن الخيارات الصفرية.. وجعل الجميع يتوقعون الأسوأ، رأسهم في التهيأة النفسية للحرب.

السرية التي لازمت اللقاءات بين المكون العسكري وأطراف بعينها من قحت، دون تحديد للأسس التي اختير المشاركون وفقا لها، مع الإنكار في البداية لوجود مثل هذه الاجتماعات، ثم الإقرار بها بعد التوصل لتفاهمات واتفاقيات لا تزال قيد الكتمان، حسب تصريح مشهور لحميدتي، كل ذلك كرس لحالة عدم الثقة المتبادل بين الأطراف السياسية فيما بينها ومع الأطراف العسكرية. كما خلق اجواء ملغومة لم يكن ينقصها سوي الطلقة الأولى
لم تتم المحادثات السرية التي نتج عنها الإتفاق الإطاري والإصرار على إقصاء أطراف رئيسية منها، مبادرة وطنية بل أجنبية عبر ما عرف بـ “الرباعية” ، مما رهن البلاد لأجندة القوى الخارجية صاحبة المبادرة، وعلى الأقل فإن احد أطراف هذه الرباعية متورط في الحرب الراهنة، وفيما يبدو أنها كانت احد خياراته التي استعد لها منذ فترة.
كانت قاصمة الظهر ورشة عمل الإصلاح الأمني والعسكري والتي تأكد أن هدفها كان هو اعتماد و تقوية الدعم السريع كجيش موازي للقوات المسلحة وتوفير غطاء سياسي محلي وخارجي له في سياق تفكيك القوات المسلحة، مما نقل الجميع عمليا المربع الحرب. وما حدث صبيحة منتصف أبريل كان ترجمة عسكرية لما سعت ورشة الإصلاح الأمني فعله بوسائل سياسية.

لكل هذه الأسباب عجزت قحت ان تحدد موقفا واضحا من الحرب التي اشعلتها مليشيا الدعم السريع او الفظائع والجرائم التي ترتكبها حاليا ضد المدنيين..ومن في فمه َماء لا يستطيع الحديث. َ

اترك رد

error: Content is protected !!