الرأي

فتح وحماس و”المعادلة الصفرية”… هل ثمة فسحة لتفكير من خارج الصندوق؟!


عريب الرنتاوي

مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية


هي “أُم المفارقات” المؤسفة والمحزنة… الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يبلغ ذروة غير مسبوقة، منذ انتفاضة الأقصى على أقل تقدير، بينما الصدام بين قطبي الانقسام الفلسطيني يبلغ بدوره ضفافاً غير مسبوقة. جهود الأطراف الإقليمية تعجز عن خفض وتائر العدوان والاستيطان والعنصرية، وتفشل في إطفاء جذوة مقاومة الشعب الفلسطيني، وجهود “الخيّرين” لرأب الصدع الفلسطيني، تخفق في إقناع الأطراف المنقسمة، بالالتقاء على كلمة سواء فيما بينها.
هنا نفتح قوسين لنسجل: إن “المعادلة الصفرية – Zero Sum Game” التي حكمت وتحكم العلاقة بين فتح وحماس، ما زالت هي القانون الناظم للعلاقات البينية بين “عمودين فقريين” للحركة والمقاومة الفلسطينيتين، فكل ربح تسجله فتح أو “سلطتها”، هو خسارة صافية لحماس و”مقاومتها”، وكل إنجاز للأخيرة، يسجل في خانة الخسائر الصافية للأولى. حتى إننا، ونحن في ذروة انفجار “غضب الضفة”، نرى حرباً أهلية “افتراضية” تكاد تندلع بين الطرفين، ولولا الاحتلال الجاثم على صدور أهلنا في الضفة، والانقسام الجغرافي بين شطري الوطن المحتل عام 1967، لتحولت “حرب الكلمات” إلى قتال في الساحات والشوارع والميادين، والحروب، كما هو معروف، بدايتها كلمات.
أخطر ما ترتّب على “المعادلة الصفرية” أنها تحولت إلى “ثقب أسود” يبتلع منجزات الشعب الفلسطيني وكفاحاته البطولية، ويحول دون تمكينه من إنجاز التراكم الضروري في معادلة تغيير موازين القوى، يحدث ذلك تقريباً في كل معركة ومواجهة، كبيرة كانت أو صغيرة، إذ حتى الإنجاز الأكبر للشعب الفلسطيني ومقاومته في “سيف القدس”، سرعان ما تبدد، وسرعان ما تبددت معه معادلات الربط بين القدس والقطاع والضفة وغزة… سرعان ما خبا بريق صحوة الشعب الفلسطيني في مختلف أمكان وجوده، وبالذات داخل المناطق المحتلة عام 1948، بدلالة أن أول انتخابات لحقت بهبّة فلسطينيي الداخل أخرجت التجمع الوطني من الكنيست، ومكّنت الحركة الإسلامية الجنوبية من تعزيز مواقعها وتحصين نتائجها، وهي المتهَمة بالتساوق مع مشاريع “الأسرلة” والتخلي عن الشعار الوطني – القومي، لمصلحة مكاسب ثبت أنها نوع من الفتات الذي يقتات به “اليتيم إلى مأدبة اللئام”.
في مشاريع السلم والحلول والتسويات، كما في مشاريع المقاومة والمواجهة والصمود والتصدي: الانقسام يقف سدّاً منيعاً في وجه تحقيق أي منجز، وتلكم واحدة من المفارقات الإضافية كذلك. فالذين يعوّلون على خيار “المفاوضات حياة”، ولا بديل من “المفاوضات العبثية” سوى المزيد منهم، يكتشفون، المرة تلو الأخرى، أن الانقسام يُبعدهم عن “سراب الدولة” بدلاً من أن يقربهم منها. وسواءٌ أكانت الجهود المبذولة لاستيلاد كيان فلسطيني (دولة) مخلصة أم خديعة تستهدف ذر الرماد في العيون، فإن الانقسام لطالما استُخدم سبباً أو ذريعة في تفسير الفشل أو تبريره، فكيف لسلطة لا مطرح لها ولا سيادة على ما يزيد على 40 في المئة من شعبها المفترض، أن تصبح دولة؟ وكيف لرئاسة، لم تصل إلى القطاع منذ أكثر من 16 عاماً، أن تنطق باسم الفلسطينيين جميعاً؟!
والمقاومة، التي ترفض “نهج المفاوضات والتنسيق الأمني”، تكتشف، يوماً في إثر آخر، أن مكتسباتها سرعان ما تضيع وتتبدد تخت ضغط الهاجس الذي تمثله لفريق وازن آخر من الفلسطينيين، فتنخرط السلطة في مشاريع وائتلافات ومسارات، لا وظيفة لها سوى تبديد مكاسب المقاومة وقطع الطريق على تحول “غضب الضفة” إلى انتفاضة ثالثة، بذريعة “حقن دماء الفلسطينيين وحماية أرواحهم”. وتلكم قصة لم نكتشفها ولم يكتشفها الفلسطينيون اليوم، فلقد رافقتنا ورافقتهم قرابة عشريتين من السنين، في أقل تقدير.
على أن أخطر ما في أمر الانقسام، هو ما يوفره للعدو من حجج وذرائع، لرفض أي مسعى جدي للانصياع لفكرة “الدولة الفلسطينية”، والمضي في سياساته الاستعمارية – الاستيطانية، وتكريس “الأبارتهايد” كنظام مفروض على شعب فلسطين، المقيم منه بأرض وطنه، واللاجئ في ساحات المنافي والشتات، حتى بات يصدق القول إن الانقسام صناعة إسرائيلية بامتياز، تورطت فيها مختلف الأطراف الفلسطينية، عن وعي أو من دونه، عن قصد أو من دونه. وثمة في أوساط المؤسستين الأمنية والسياسية الصهيونيتين، من يرى الانقسام هدية هبطت عليه من السماء، وأن أخبث قادة الاحتلال ما كان ليظن أن صناعة الانقسام ستكون مستدامة ومتجذرة إلى هذا الحد.
ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُلّه
ليست وظيفة هذا المقال إعادة إنتاج سردية الانقسام ومشاريع المصالحة وتجارب الحوارات الوطنية المتنقلة من عاصمة إلى أخرى، ولسنا في صدد إعادة إطلاق المناشدات بشأن رأب الصدع وتغليب “الوطني” على “الفئوي”، فتلكم بضاعة كسدت سوقها، من فرط ما عُرضت على المستهلك الفلسطيني، والأخير ملّ، إلى حد “القرف”، الصور المبثوثة بالأيدي المتشابكة لرموز الانقسام وابتساماتهم العريضة، والمؤكد أنه لم يعد يصغي إلى خطابات النيّات التي تخرج من أفواههم، ذلك بأن هذا “الفيلم” تكرر عرضه مراراً وتكراراً في القاهرة والدوحة ومكة، وقبلها في صنعاء، وبعدها في بيروت وموسكو، من دون أن نغفل عن جهود كازاخستان وجنوب أفريقيا وماليزيا وغيرها.
ليست وظيفة هذا المقال ترويج رزمة الأفكار التي تكدست في الأدراج، من دون أن ترى النور، أو تخرج إلى حيز التنفيذ. فعلى جذع الانقسام، تراكمت الخلافات القديمة المتجددة، والأهم، تراكبت المصالح، ونشأت فئات ومؤسسات، تقتات عليه، وهي مَدينة له بشأن منظومة مصالحها وامتيازاتها. وما لم ينشأ قطب/أقطاب ثالثة، أو تندلع هبّات جماهيرية في الضفة والقطاع، لاقتلاع الانقسام وجرف المُعتاشين على جذعه، فلن تنفع لا تدخلات شقيقة ولا صديقة، وستظل الحال على حالها إلى أمد غير منظور. فمن لم يقتنع بجدوى الوحدة، بعد كل ما مرّت وتمر فيه قضيته الوطنية، شعباً وأرضاً ومقدسات، لن تنفع معه المناشدات والنداءات، عن أيّ جهة صدرت. فهل يمكننا البحث عن “مخارج” وليس حلولاً، وفق قاعدة “ما لا يُدرَك كُلّه لا يُترَك جُلّه”؟ وهل ثمة متسع لـ”تفكير من خارج الصندوق”؟
في ظني أن الفلسطينيين في حاجة ماسّة إلى “التهدئة”، والتهدئة هنا ليست مع الاحتلال وقطعان المستوطنين الفاشيين، أنصار الإبادة الجماعية والترانسفير والتطهير العرقي. “التهدئة” بين فصائلهم وأقطابهم، بين فتحهم وحماسهم على وجه التحديد. والتهدئة، بحكم طبيعتها، لا تعالج الخلافات ولا تحلها، بل تنظمها وتحتوي مفاعليها. إدارة الانقسام فكرة كانت منبوذة قبل 10 أعوام، لكن في ظني أنها باتت مطلوبة اليوم، ومن باب “ما لا يُدرَك كُله…”.
وهي مهمة تنطوي، فيما تنطوي، على وقف حروب الكلمات، وتوخّي الفطنة والمسؤولية عند اعتلاء المنابر والظهور عبر الشاشات الفضيّة، وضبط العناصر والرموز المتفلّتة من كِلا الجانبين. التهدئة تحتاج إلى “آلية” يرجع إليها الطرفان المتخاصمان؛ “آلية” تشتمل على ممثلين عنهما، وعلى عناصر ومرجعيات من خارجهما، وموثوقة لدى كل منهما؛ “آلية” تعمل في المستويات المحلية والقطاعية والوطنية، ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.
و”التهدئة” قد تصير توطئة ضرورية لإجراءات بناء الثقة المتبادلة بين الجانبين، وثمة سيل من الأفكار، التي يمكن أن تُطرح في هذا السياق، وأهل الانقسام أدرى بما يمكنهم تقديمه إلى الطرف الآخر، وما الذي ينتظرونه منه في المقابل. خطوات قد تبدو صغيرة، بيد أن ديمومتها وتراكمها قد يُحدثان أثراً كبيراً، أو يعبّدان الطريق أمامه، وهذا أضعف الإيمان.
و”التفكير من خارج الصندوق”، إن اقترن بقليل من حسن النيّات (وليس الكثير منها بالضرورة)، وإن احتكم إلى الحد الأدنى من المصلحة الوطنية، يقترح مقاربة لملف العلاقة بين قطبي الانقسام، تنطلق من “القاعدة إلى القمة”، وليس من “الأعلى إلى الأسفل”، كما كانت الحال في جولات المصالحة ومبادرات إنهاء الانقسام المتكررة. هنا، يمكن التفكير في روابط الدفاع عن المدن والقرى والمخيمات. هنا، يمكننا الحديث عن “الوحدة في الميدان”. هنا، يمكننا البناء على معطى مؤكد، وهو أن مناضلي مختلف التنظيمات والفصائل هم فلسطينيون غيورون على شعبهم وقضيتهم، وليسوا المسؤولين عن الانقسام وتبعاته. وعلى الفصائل توخي الحذر في مخاطبة هذه القواعد، والحرص قولاً وفعلاً على التمييز بينها وبين أطرها القيادية، وخصوصاً حين ينهمر سيل الاتهامات لفتح والسلطة. ففتح ما زالت قوة حاسمة في أوساط الشعب الفلسطيني، وأقاليمها تنخرط في عمل كفاحي، لا يروق لقيادتها، وأحياناً (وربما غالباً) بالضد من إرادة هذه القيادة. هنا، يمكن أن نتفق على قضية “بديهية”: أن نلف جثامين الشهداء براية فلسطين، وليس بأعلام الفصائل التي تعيش اندلاع مشاحنات ومواجهات واحتقان. هنا، يمكن أن نتفق على تسيير قوافل من الحجيج الفلسطيني إلى المسجد الأقصى بمئات الآلاف طوال أيام الجُمَع في شهر رمضان المبارك، ومن مختلف مدن الضفة الغربية المحتلة وبلداتها ومخيماتها، وبإسناد قوي من فلسطينيي المناطق المحتلة عام 48، “مُصلين بالملايين وليس بالضرورة شهداء بالملايين”. هنا، يمكن للعقل الفلسطيني أن يجترح عشرات المبادرات، التي لا تستوجب الاتفاق على رُزم المصالحة وحزمها الشاملة، ولا تجبر أي فريق على التخلي عمّا يراه مزايا ومكتسبات.
الكلّ متفقون على شعار المقاومة الشعبية السلمية، وثمة خلاف على المقاومة المسلحة. لندع أمر الأخيرة جانباً، ولننسق أقله في جعل “المقاومة الشعبية” ممكنة، وبما يليق بتسميتها: شعبية وليست رمزية، ولنجعل رمضان المبارك مناسبة لاختبار هذا الشعار المُجمَع عليه، ولا سيما أن المقاومة المسلحة لم تعد قراراً فصائلياً حصرياً، بعد أن تنامت مقاومة “جيل الألفية” وانتشرت ظاهرة “المقاومة الفردية” من خارج “الهندسات الفصائلية”. وفي ظني أن ترك المقاومة المسلّحة لهذا الجيل ولهذه الأشكال والأطر العفوية الناشئة، والاكتفاء بدعمها وتشجيعها من خارجها، والكفّ عن محاولة امتطائها وتجييرها، والتسابق على ادعاء تمثيلها والنطق باسمها، فيها خدمة جليلة للمقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية، سواء بسواء.
الوقت الفلسطيني من دمٍ وأرضٍ وحقوقٍ ومقدسات. الوقت الفلسطيني للمقاومة، عبر كل أشكالها. الوقت الفلسطيني ليس لتصفية الحسابات الفصائلية و”التنابز بالاتهامات”. الوقت الآن للتهدئة وآلياتها الناظمة وإجراءات بناء الثقة، والانطلاق من القاعدة إلى القمة بدلاً من الاكتفاء بتكرار فقرات من “فولكلور الحوار والمصالحة” الممجوج، علّنا ننتقل ذات يوم، ونرجو ألّا يكون بعيداً، من “المعادلة الصفرية”، إلى معادلة “رابح – رابح”.

اترك رد

error: Content is protected !!