على منصات التواصل الاجتماعي، يدور مقطع لشاب سوداني ثلاثيني، يصب جام غضبه على من أسماهم فئة العجائز وكبار السن في السودان. الذين، حسب وصفه، يقفون حجر عثرة أمام الشباب. ويقول إنهم لم ينجزوا شيئاً، ويمنعون الشباب من الإنجاز، وقال انه يتمنى موتهم أجمعين، وتمنى لو أن جائحة كورونا قتلتهم كلهم!
المقطع على ما فيه من قسوة، يحوي جانباً من الحقيقة، وربما عبر عما يحسه هذا الشاب، في وقت سابق، المفكر السوداني المرحوم منصور خالد، الذي أسهب في انتقاد جيل الاستقلال في العديد من كتاباته مثل (النخبة السودانية وادمان الفشل) أو مذكراته الموسومة (شذرات من، وهوامش على، سيرة ذاتية) حيث يقول منصور:
البلاء الأعظم هو النواقص الذاتية في الشخصية السودانية ومنها :نكوص جيل الآباء وجيلنا الذي لحق به عن الاعتراف بكل الأخطاء التي أرتكب وارتكبنا، وقادت السودان إلى تهلكة ، رغم أن الاعتراف بالخطأ هو أول الطريق لمعالجته.
ومن النواقص حسب منصور خالد: تناسل أجيال من المعلقين والمؤرخين الهواة المفتونين بالماضي، وهو افتتان مشبوه. فلو فتشت في قلوب المتظاهرين بالحنين إلى الماضي الذي يسمونه ” الزمن الجميل ” لوجدتهم قد لهجوا بالثناء على كل العهود التي أطلت على السودان بعد ذلك ” الزمن الجميل “. هؤلاء يضفون على بعض رجالات الماضي ما هم ليسوا أحفياء به من تكريم، وينعتون كل خيبات أولئك ب “الانجازات”، وينسبون لهم صموداً مزعوماً أمام التحديات، وما التحديات المزعومة إلا أداء الواجب المفروض عليهم.
ويضيف منصور للنواقص: تضخيم الذات للحد الذي قاد إلى طموح غير مشروع ثم إلى خيلاء فكرية. تلك الخيلاء جعلت أغلب هؤلاء، لاسيما العقائديين منهم؛ يتظنى عن يقين باطل بأنه مالك الحقيقـــــــة الأوحد.
ويضيف منصور ما سماه الغيرة الجيلية، وتلك عاهة، حسب منصور، ليست بجديدة، فأول من فطن لها في نهايات الحرب العالمية الثانية مؤرخنا العظيم مكي شبيكة، وعبر عن ذلك في وثيقة وزعها علي أعضاء المؤتمر بوصفه سكرتيراً لمؤتمر الخريجين. قال عالمنا المؤرخ ” أرى اليوم بينكم تباغضاً شخصياً وتحاسداً لا أدرى له سبباً، مما يمنعكم من التوجه إلى أداء واجباتكم، وما واجباتكم إلا التعاضد من أجل الوطن “.
ومن النواقص في جيل الاستقلال حسب منصور: فقدان التسامح الذي لا يميط اللثام عن الجهل بماهية الديمقراطية فحسب، بل يكشف أيضاً عن جهل مريع بمقوماتها حتى من جانب أكثر الناس ترداداً لهذه الكلمة الطنانة، كراهية الآخر في السودان، خاصة بين نخبه لم تقف فقط عند الانفعالات العاطفية العابرة، بل صارت سلوكاً.
وهكذا نلاحظ أن ما عبر عنه هذا الشاب صاحب المقطع هو أمر متصل ومتوارث ما بين الأجيال السودانية، وأجزم أنه بعد عشرين أو ثلاثين عاما سيأتي شاب ليلعن الشاب الذي سجل هذا المقطع ربما بطريقة أشد قسوة.
ليس من سبيل أمامنا لإيقاف لعنة الأجيال المتوارثة الا بالاتفاق بيننا كسودانيين على الإجابة على سؤالين فقط: من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ وهذا هو أساس رسم استراتيجية الأمة. والله الموفق.