فيما أرى / عادل الباز

صحافتنا في زمن الحرب

عادل الباز

1
منذ دخول الجنجويد إلى مدني، ولا أقول سقوطها، تأملت في حالة صحافتنا وتغطيتها للحادثة وهي حادثة بكل المعايير مؤلمة ولكنها عابرة ومفهومة في سياق الحرب، فمدني ستعود في أقرب مما تظنون. الحرب التي تشنها الآن دول وجيوش على السودان لم تحظ بتغطية مسئولة من قبلنا كصحفيين وتركنا الشعب كله نهباً للشائعات التي تبثها الأسافير ولم نحظ بأي مصادر موثوقة تقول لنا ما جرى على الأرض فعلاً، على الرغم من وجود عدد مقدر من الصحفيين في مدني المدينة التي دخلت إليها فيالق الجنجويد. ولذا بدت لنا أسئلة محيرة لم نجد لها تفسيراً يجعلنا في يقين عن ما جرى تحديداً.
2
السؤال الأول يتعلق بموقف الجيش والموقف منه. والثاني يتعلق بالحالة المجتمعية التي أعقبت انسحاب الجيش.
السؤال الذي لم يجد إجابة حتى اللحظة هو لماذا انسحب الجيش وكيف وإلى أين؟. إذا كانت هناك تغطية صحفية مسئولة كنا حصلنا على هذه المعلومات منذ اللحظات الأولى، ولكن الملاحظ أن الصحفيين الذين يفترض أن يتولوا هذه المهمة تحولوا هم أنفسهم إلى مروجي شائعات مصدرها فى الأغلب هي الأسافير، بل وبعضها مصدره غرف أخبار الجنجويد أنفسهم. وفي غياب مصادر موثوقة تضاربت الأخبار واختلطت مما أثار حالة من الخوف والذعر لدى كل قطاعات الشعب. كان متاحاً للصحفيين المتواجدين في الموقع بث صور وأخبار ولقاءات مع أفراد من الجيش المنسحب أو ما تبقى من الجيش والمستنفرين في مدني لسرد رواية حقيقية عما جرى ولكنهم يفعلوا.
3
أدى هذا الفراغ وهذه الزعزعة إلى تمدد حالة المخاوف التي انتابت الجميع إلى التشكيك في الجيش، وأدى ذلك إلى زعزعة الثقة التي حظي بها الجيش طيلة فترة الحرب. وهذا أخطر ما صاحب أحداث مدني، إذ أنه رغم كل شيء من سقوط لمدن ومواقع عسكرية، إلا أن الشعب ظل على ثقته بالجيش ومقدراته في النهاية على تحقيق النصر وإن طال الأمد. خط ضرب الثقة بين الشعب والجيش هو الخط الإعلامي الذي عزفت عليه غرف الجنجويد الاعلامية، وكان واضحاً أن هذا هو الهدف الأول من دخول مدني، وهو إظهار الجيش بأنه عاجز عن حماية المدن ولا يقاتل كما ينبغي، مما يشي بإمكانية استسلامه بالكامل في أي مدينة. وهذا بالطبع محض افتراء، ودخول الجنجويد مدينة لا يعني نهاية الحرب والاستسلام لهمجهم، انسحب الجيش من نيالا وذهب إلى بابنوسة ولا يزال يقاتل ويتصدى للجنجويد. الهدف هو زعزعة الثقة والأداة الأساسية في تلك الزعزعة هو غرف الأخبار المصممة لضرب ثقة الشعب فى الجيش.

4

أيضاً غابت التغطية عن ما جرى مجتمعياً في مدني… فالدخول المحدود لقوات من الجنجويد إلى المدينة صاحبته ضجة إعلامية أثارت هلع السكان رغم محدودية عدد قوات الجنجويد التي وصلت المدينة آنذاك وهي تعاني من الخوف ورغم أنه لم يجرِ قتال فعلي في المدينة، أدت هذه المخاوف إلى موجات من النزوح من المدينة وهذا شيء طبيعي، فسمعة الجنجويد أنهم ما إن دخلوا مدينة إلا دمروها وأفسدوا الحياة فيها. تهدئة مخاوف الناس من قبل الصحفيين حول حقيقة ما يجري غابت، وبالتالي غابت أي معلومات عن أوضاع النازحين، وسرد قصصهم المأساوية بما يبرز بشاعة ما يرتكبه الجنجويد في حق الأهالي الذين جاؤوا إلى مدني أصلاً كنازحين، فأغلب الذين سارعوا بالنزوح هم نازحين أصلاً.
والغريب أنه حين سقطت المدن البعيدة كانت معلوماتنا عن ما جرى في نيالا والجنينة أفضل بكثير مما جرى بمدني، وحظينا بتغطية صحفية محلية ودولية أقرب إلى الواقع. فشاهدنا صور وفيديوهات وتقارير محلية ودولية موثقة، ولفتت تغطية السي إن إن، والغارديان والنيويورك تايمز، النظر حين وضعوا صورة ما يجري من إبادة أمام العالم.
5
معلوم أن صحافتنا لم تكن لها خبرات كبيرة في تغطية الحروب التي امتدت منذ الخمسينيات إلى حرب الجنجويد الحالية، بسبب أن تلك الحروب كانت تدور في أماكن نائية وبعيداً عن مركز الصحافة التي تتمركز كلها في الخرطوم. ولذا حينما اندلعت الحرب في قلب الخرطوم كان كل الصحفيين بلا خبرات لكيفية تغطية هذه الحرب اللعينة فغابت الأخبار الموثوقة، وأصبح الشعب نهباً للشائعات المتضاربة ونهباً لما تثبه غرف الأخبار ذوات الأجندة. تلك علة تاريخية في عملنا الصحفي ويجب أن يحظى الصحفيين بعد ما جرى، بتدريب كثيف عن كيفية تغطية الصحفيين للحروب.
(هناك كتاب أصدره معهد الجزيرة عن الصحافة في زمن الحرب جدير بالقراءة مبذول في الإنترنت.).
6
الآن، يفترض أن تلعب الصحافة دورها ليس في فضح أكاذيب الجنجويد فحسب، بل النهوض لتعزيز الثقة في الجيش وإقالة عثراته واظهار تماسك الشعب خلف الجيش لأن الهزيمة ليس في سقوط مدينة ولكن في ضرب الثقة وفي مقدرة المقاتلين في استرداد كرامتهم وكرامة الوطن. حين يرى الجنود وقادة الجيش أن الشعب بجانبهم مواصلاً هتافه (شعب واحد جيش واحد) يجعلهم أكثر ثقة في النصر ويدفعهم لمواصلة تضحياتهم لنصرة الشعب وتحقيق غاياته رغم كل الانكسارات التي حدثت وستحدث هنا وهناك.
7
المطلوب من الإعلام المسئول هو هزيمة تكتيكات العدو ليس بدحض الشائعات فحسب، وبل بتثبيت المقاتلين بمدهم بمزيد من الثقة في إمكانياتهم، وبذا تتم أول ضربة لمخططات العدو. غاب هذا الدور عن الصحافة والصحفيين بغياب التغطية المسئولة والإجابة عن الأسئلة.. لماذا وكيف..؟ هذا الدور ليس ترفاً، بل هو جزء من المعركة التي تخاض في أرض الآن فى أرض الواقع كما تخاض على صفحات الصحف والأسافير.

اترك رد

error: Content is protected !!