الرأي

رسالة مفتوحة للفاعلين السياسيين والعسكريين والثوار : مستقبل السودان وصراع الإرادات

✍️ بروفسير محمد حسين أبوصالح

       I.          مقدمة
ونحن نقترب من الذكرى الثالثة لثورة ديسمبر، علينا أن نتساءل، هل حققت الثورة أهدافها ؟ وهل نسير في الطريق الصحيح ؟ الواقع يشير إلى إخفاق كبير . هل الاتفاق السياسي الأخير كافي لتصحيح المسار ؟ أم هناك حاجة لتفكير أعمق وأشمل، وهل السلوك والفعل السياسي الحالي مناسب لتحقيق التغيير وصناعة المستقبل الزاهي أم لا زلنا في حاجة لجوهر الحكم الراشد المتمثل في سلوك وفعل مختلف، راشد، ناضج وحكيم ..؟
ظلت الأحداث تتوالى وتتفاعل في السودان منذ الخمسينات إنتهاء بالسنوات والشهور وحتى الأيام الأخيرة، شهدت أنواع شتى من النضال المدني والعسكري والثورات الشعبية والإنقلابات العسكرية، سلسلة من البرلمانات والدساتير والحكومات إلخ، لكن المحصلة النهائية لحالنا هو دولة مترفة غنية جداً بالموارد المادية والبشرية لكنها في ذات الوقت فقيرة معدمة  تتلقى الإغاثات والمساعدات، يقطنها شعب مسامح طيب كريم لكنها في نفس الوقت تعاني من النزاع والاستقطاب والحروب.!!  ليبرز التساؤل الذي يتوجب علينا جميعاً الإجابة عليه، ماهي مشكلتننا ؟ ، ما الذي جعلنا  نفتقد للبوصلة طوال فترة العقود السبعة الماضية..
أنا أؤمن أن هناك خلل جوهري وقف خلف ذلك ويتوجب علينا معرفته، وهو الخلل الناجم عن الفراغ الفكري العميق المتعلق بإدارة الدولة وتشكيل مستقبلها، والذي خلفه غياب الرؤية الوطنية الاستراتيجية، وتسبب بشكل أساسي في عدم قدرة الفاعلين في الساحة السياسية طوال العقود الماضية على التعامل المناسب مع تعقيدات المشهد الذي تجسده الأوضاع والظروف في البيئة الاستراتيجية سواء المحلية أوالإقليمية أو الدولية.
 رجاءً :
إقرأوا هذا المقال بقلب وعقل مفتوحين، فما يجري هو تهيئة المسرح لابتزاز السودان، كما تجري محاولات حثيثة لاعادة هيكلة الدولة تتضمن إعادة هيكلة الخدمة والأجهزة النظامية وصياغة لسياسات وتشريعات أساسية تتعلق بمصالح استراتيجية، لكن وفق مرجعيات فكرية خارجية وأخرى محلية ضيقة وقناعات شخصية لبعض القيادات السياسية، تهدف لتحقيق تغيير أساسي في البنية الثقافية والاجتماعية والتوجه الاقتصادي، فضلاً عن استغلال الموارد الطبيعية والمزايا الجغرافية للدولة بما يخالف الإرادة الوطنية، وقد وصلنا مرحلة متقدمة بالغة الخطورة تهدد بقاء الدولة ومصالحها.
باعتبارنا جزء من المجتمع الدولي، نؤثر ونتأثر بما يجري في العالم، فإن الوضع الطبيعي ونحن نشهد استراتيجيات متعددة متعلقة بمصالج جهات خارجية تدور حول السودان، أن نفكر في كيفية تعزيز قدراتنا التفاوضية في هذا الحوار، بما يمكننا من تلافي المخاطر والمطامع وتحويل تناقض المصالح إلى تكامل، واستيفاء ترتيبات تؤسس للإرادة السودانية، لتكامل الإرادات بدلاً عن صراع وتخطي الإرادات، وهذا عمل يحتاج لتفكير ذكي عميق وعمل وطني مخلص، وإلا فينبغي علينا أن لا نتوقع الأفضل، لأن العالم لا تحكمه الملائكة.
     II.           القسم الأول -مظلة الفهم العميق المشترك:
إن الأزمة السودانية وصلت إلى مستوى من التعقيد يستدعي التعامل معه تشكيل فهم ووعي استراتيجي عميق مشترك بين الفاعلين في الساحة السياسية، بمافي ذلك الثوار، وعليه فقد رأيت ضرورة التمهيد لهذا المقال بتقديم تعريفات  لبعض المصطلحات الأساسية التي سترد فيه، وذلك كما يلي :
مفهوم الرؤية الوطنية:
الرؤية تشمل معاني متعددة، أولها انها تعبر عن فن وعلم تشكيل أو صناعة المستقبل وفق الإرادة الوطنية، وهذا من أهم تعريفات الاستراتيجية، وبالتالي فهي أقرب لللإطار الفكري الذي يعبر عن خطة الدولة وليس الحكومة أو الحزب، وهي تجيب على السؤال الرئيسي : من نحن ؟، وتشمل الفلسفة الوطنية ووثيقة المصالح والغايات والأهداف العليا ومنظومة القيم الوطنية، التي تعبر عن تطلعات الشعب بكل تنوعه وتعبر عن الوجدان، كما تشمل الترتيبات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والتقنية والإعلامية والخارجية، التي تحقق ذلك، والتي من خلالها يتم التعامل مع الظروف والأوضاع  والتعقيدات المحلية والإقليمية والدولية والمستقبلية، كما تجيب على كثير من الأسئلة والإشكالات مثل الرؤية في إدارة التنوع أو الرؤية لمنع الفساد.
هذا المفهوم يتجاوز ما ظل يتردد في الساحة السياسية بأن مشكلة السودان تتمثل في ماهية نظام الحكم وكيف يحكم السودان، فهذا السؤال يمثل جزئية صغيرة من الرؤية، لكنه لا يستطيع الإجابة على بعض الأسئلة المهمة مثل: رؤيتنا في عمليات الهندسة الإنسانية ( الهندسة النفسية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية والبناء المعرفي ومهارات التفكير ) وفكرتنا الاقتصادية التي تجيب على تساؤلات أساسية مثل كيف نحقق النهضة الاقتصادية والمزايا النسبية العالمية وكيف نزيد الدخل القومي مع عدالة توزيعه، إلخ، ورؤيتنا حول نظام الحكم المناسب لتحقيق النهضة وغايات الدولة والتعامل مع التعقيدات العصرية، وذلك من منظور المعرفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، إلخ، وليس فقط من وجهة نظر القانون الدستوري، وليس وفق أهواء ورؤى وقناعات شخصية…  وهي رؤى يطبيعة الحال تتطلب أن تتم من خلال مرجعية وطنية وليس حزبية أوقبلية، ومن النماذج للرؤية، سياسة السوق الحر وتأسيس الاتحاد الأوربي، فهي نتاج رؤى دول وليس حكومات.. مما يعني أولوية وشمولية الرؤية ثم يأتي الدستور ليحمي ويؤسس لهذه الرؤية وليس العكس، فتأسيس الرؤية الوطنية عمل سابق لصياغة الدستور.
 المسار الاستراتيجي :
بالمفهوم أعلاه تصبح الرؤية هي الوسيلة لبلورة المسار الاستراتيجي للدولة نحو المستقبل مهما تعاقبت الحكومات، حيث تجيب على السؤال من نحن ؟ وماذا نريد وكيف نصل لغاياتنا الوطنية،  ومن الترتيبات المهمة لتأمين هذا المسار هو تحقيق المشاركة الحقيقية للجميع وصولاً للتوافق الوطني والاتحاد الوجداني، كما تحتاج لنشر ثقافة الوطن والتمييز بين الدولة والحكومة، الدولة والحزب، فضلاً عن وجود نظام قضائي مستقل، ونظام مؤسسي،  ليقتصر  دور الأحزاب في الإبداع السياسي في التنفيذ والأولويات وما إلى ذلك .
مفهوم الإرادة الوطنية
إذا تدبرنا في مفهوم الرؤية أعلاه الخاص بتشكيل المستقبل نلاحظ تقييد ذلك  بأن يتم وفق الإرادة الوطنية، وهو ما يلقي بأهمية لمفهوم القوة المطلوبة لتحقيق الرؤية، فماذا يعني مصطلح الإرادة الوطنية؟ يعني قدرة الدولة في صناعة مستقبلها وفق رغبة وتطلعات شعبها، لا رغبة المفسدين وأصحاب الأجندة، ولا رغبة الدول الأجنبية، وهو ما يجعلني أربط بين هذا المفهوم والاستقلال الذي يمكن أن يعني القدرة الذاتية للدولة في بلورة وتحديد وتحقيق وتأمين مصالحها وغاياتها وأهدافها الاستراتيجية ومنظومة قيمها .
وإرادة وطنية، تعني أرادة وطن بكل تنوعه السياسي والثقافي والاجتماعي والإثني، لا إرادة حكومة أو إرادة حزب .. لينشأ السؤال : ماذا يريد الوطن ؟ فإذا قمنا بتحديد مصالح وغايات وقيم تعبر عن ما يرغب ويتطلع إليه الناس ويعبر عن وجدانهم تنشأ الإرادة، ( وهو ما يعبر بشكل أساسي عن جوهر الديمقراطية )، والإرادة نلخصها في جملة ( نحن نريد )، ( نحن ) وتعني كل الشعب بتنوعه المذكور أعلاه، ( نريد ).  وهذا يعني أنه لا إرادة دون وجود مصالح وأفكار متفق عليها تعبر عن الجميع، وهذا هو تحدي الفكر الاستراتيجي في التوصل إلى مصالح تعبر عن الجميع ..
كما أن هناك ارتباط بين الإرادة والقوة الشاملة، الاجتماعية الثقافية، العلمية، السياسية الاقتصادية ..إلخ، حيث بامتلاك ( القوة )  تصبح الدولة ( قادرة ) على تحديد وتحقيق ما تريد، ولعل وجود رؤية واحدة لشعب بأكمله هي أهم مؤشرات القوة التي يمكن الاعتماد عليها عند الانطلاق من حالة الضعف، وما قد يتطلبه ذلك من تجهيز المسرح الوطني وتهيئة المشاعر الوطنية وتحقيق الالتحام الوجداني خلف الغايات الوطنية. فلا إرادة دون وجود غايات وقيم مرغوب فيها وطنياً، ولا إرادة دون قدرة، ولا قدرة دون قوة، ولا قوة دون تخطيط استراتيجي وهذا من أهم ما تحققه الرؤية الوطنية.. لذلك فإن أي تدخلات أو تأثيرات خارجية أو محلية ضيقة تؤثر على هذا المفهوم يعني بالضرورة انتقاص من الإرادة الوطنية ومن الاستقلالية.
مفهوم الصراع الاستراتيجي:
هو من العلوم المهمة التي تدرس في أرقى الجامعات في العالم، ويعتبر من أهم العلوم الوجب معرفتها لمن يتبوأ مقاعد السلطة في كثير من الدول.. ويدور هذا الصراع حول مصالح ضخمة، وقد يستدعي تأسيس تكتلات أو تحالفات استراتيجية، كما تستخدم فيه ما يقارب من ال 32 أداة ( عدة شغل ) مثل التفتيت الوجداني عبر المدخل العرقي والديني والعقوبات ومصيدة الديون وعلم صناعة الأزمة ( Crisis Industry ) وفلسفة الحدود إلخ.. وهو من العلوم المهملة أو غير المعروفة من قبل كثير من السياسيين في السودان، وتكمن خطورة عدم إدراكه أنها كثيراً ما تجعل الجاهل به وسيلة لصالح الخصم.
ويتمثل  الصراع الاستراتيجي في الأوضاع التي تتشكل من خلال استراتيجيات الدول التي تسعى عبرها لتحقيق جانب من مصالحها الوطنية على الساحة الدولية والتي تتناقض فيها بدرجات متفاوتة مع المصالح الوطنية للدول الأخرى، وتشمل المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والثقافية العقدية، والسيطرة على المواقع والمزايا الجغرافية، وتتم إدارته عبر استراتيجيات شاملة متقنة وليس تكتيكات حكومية مشتتة فاقدة للرؤية.
 
مفهوم الاستقلال والاستعمار الحديث:
الاستقلال في مفهومه العلمي يعني قدرة الشعب على تحديد وتحقيق غاياته ومصالحه، بإرادته لا بإرادة أجنبية أو إرادة أي أجندة ضيقةـ بالتالي فإن ممارسة ضغوط أو فرض عقوبات لبلورة وتحقيق غايات وأهداف وسياسات ونظم وتشريعات تعبر عن إرادة ومصالح خارجية أو ضيقة، ينفي صفة الاستقلال أو ينتقص منها.
ولعل التدبر في مفهوم الرؤية والإرادة الوطنية يشير إلى أن غياب الرؤية يقود لضعف الإرادة الوطنية وينافي مفهوم الاستقلال، حيث لم يكن الاستقلال مجرد مغادرة للجيش البريطاني للسودان، وإنما المعنى الدقيق الذي يعبر عن ذلك هو أن الفكرة أو الرؤية البريطانية غادرت السودان، إلا أن الأمر الخطير في هذا المقام أن الفكرة الوطنية السودانية ( والتي تعبر في الأصل عن مفهوم الاستقلال)، لم تحل محلها، اكتفينا فقط بهدف الجلاء وتم الإجماع حوله، لكن وحتى هذه اللحظة لم نتوافق على فكرة وطنية تعبر عن حلم للسودانيين، فكرة تؤسس لنهضة السودان وتحقيق السلام المستدام..  فارتبك الأداء السياسي وصرنا دون مسار وطني، ودون إرادة، لاننا لم نتوافق ونجتمع على ماذا نريد طوال 66 سنة.
ولعل ظهور القوات الدولية وعولمة التشريعات ونظام العقوبات وكثير من الاتفاقيات التي تتجاوز السيادة مثل اتفاقية كوتونو وغيرها، هي من وسائل الاستعمار الحديث التي عقَّدت وانتقصت مفهوم الاستقلال، ومع اعترافنا بدخول العالم مرحلة تشهد كثير من مظاهر انتقاص السيادة الوطنية، إلا أن هناك فرق بين تخطي الإرادة الشعبية عبر ضعف الدولة من جهة، وانتقاص السيادة عبر إرادة حقيقية لتحقيق مصالح جماعية أكبر للدولة من جهة أخرى، كما جرى في كثير من الترتيبات الاستراتيجية على الساحة الدولية عقب الحرب العالمية الثانية.
مفهوم الحزب السياسي :
أبسط تعريف للحزب، هو جماعة من الناس انتظمت خلف أفكار ورؤى وفلسفة معينة لحكم الدولة بما يحقق أمن وسعادة الإنسان وأمن الدولة ومستقبلها،حيث يتم عرض هذه الأفكار على الشعب عبر الانتخابات أو الاستفتاء  للموافقة عليها ومن ثم الحصول على الشرعية لتطبيقها، مما يعني أن العلاقة بين الحزب والشعب علاقة أفكار ورؤى.
 وبحكم التعقيدات المتصلة بإدارة الدول، فإن الحزب السياسي أصبح مؤسسة تفكر استراتيجياً، ويكون الحزب على اتصال فاعل ومستدام بمستودعات المعرفة في  المجتمع، فضلاً عن قدرته على التواصل مع المجتمع.  ويؤسس التنظيم الداخلي للحزب السياسي للممارسة السياسية والديمقراطية والإبداع السياسي والحكم الراشد من شفافية ومساءلة ومحاسبة… ومن الواضح أن واقعنا يشير لضعف وأحيانا غياب لهذه المعاني. كما يشير واقعنا السياسي إلى تعقيدات ألقت بظلالها على كفاءة وفاعلية الأحزاب السودانية، تمثل أهمها في ظروف النشأة لأبرز الأحزاب السياسية، والتي سيطر عليها الاستقطاب الخارجي وتخلف البيئة السياسية التي أضرت باستدامة العمل الحزبي (كحظر النشاط الحزبي في فترات الحكم العسكري)، كما أضرت كذلك بالممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب، فضلاً عن مظاهر عسكرة الأحزاب في بعض المراحل  وتحديات التحول من تنظيم عسكري إلى سياسي في مراحل أخرى، وبالمحصلة فإن ذات الظروف والأوضاع التي أعاقت تطور الأحزاب السودانية أسهمت بعض الأحزاب السياسية في مفاقمتها وزيادة حدتها وأصبحت حلقة مفرغة.
مفهوم التخطيط الاستراتيجي للعلاقات الخارجية :
يقوم مفهوم التخطيط الاستراتيجي للعلاقات الخارجية على تقديم السند المطلوب لتحقيق الرؤية الوطنية وخدمة المصالح الوطنية على الساحة الدولية، ويتضمن تعزيز القدرات التفاوضية للدولة في حوار المصالح الدولية وتعزيز بناء شراكة دولية عادلة بين الدولة والأسرة الدولية وتعزيز السلام والأمن الدوليين والحفاظ على البيئة الدولية، وذلك من خلال تحقيق التوازن بين مقتضيات المصلحة الوطنية ومقتضيات المصلحة العالمية.
هذا يعني أن محور عملنا الخارجي هو (خدمة الرؤية والمصالح الوطنية)، فلكم أن تتصوروا حالة الارتباك لعملنا الخارجي  ونحن نعمل دون مرجعية نسعى لخدمتها لأننا لم نتفق على هذه الرؤية والمصالح حتى تخدمها الترتيبات على الساحة الدولية مثل عمليات التعاون الدولي، وهو ما يفسر عجزنا في تأسيس ترتيبات استراتيجية خارجية للتعاون الدولي أو للتكتل السياسي أو الاقتصادي طوال سبعة عقود من الزمان.
النضال السوداني منذ الاستقلال :
مارس السودانيون خلال العقود السبعة الماضية ثلاثة أنواع من النضال: وهي النضال السياسي التقليدي، كما مارسوا النضال العسكري عبر الإنقلابات العسكرية والتنظيمات المسلحة، بجانب النضال الشعبي والمدني عبر التظاهر والمواكب والعصيان المدني ونحو ذلك. مع الإقرار بوجود تداخل ما بين أنواع النضال، لكن النضال الذي أغفلناه بدرجة كبيرة هو النضال الفكري، نضال التخطيط المبني على المعرفة، نضال الإبداع الإداري، فالنضال الفكري هو النضال الأساسي لتحقيق النهضة والسلام المستدام، والذي يشكل الطريق الوحيد لبلورة وتحقيق الرؤية والإرادة الوطنية والمسار الاستراتيجي نحو المستقبل والتعاطي مع تعقيدات البيئة الداخلية والخارجية.
ليس كل النضال السوداني معيباً بل شهدت الساحة مواقف مشرفة تحتاج لأن تخلد، إلا أن كثير من نضالاتنا شابها بعض العيوب، من أهمها، هو أن كثير من المناضلين سواء من المدنيين أو العسكريين أغفلوا البناء الفكري المطلوب لحكم الدولة وصناعة المستقبل، ومارسوا نضالهم عبر سند ودعم خارجي من أجل توفير المال، الشئ الذي قاد في كثير من الأحيان  إلى حدوث تناقض ما بين الأجندة الوطنية والأجندة الأجنبية، مما أدى في كثير من الأوقات إلى الرضوخ وتبني خيارات تتناقض والإرادة الوطنية، مما انعكس سلباً على الساحة السياسية وفاقم من ارتباكها نتيجة تناقض الإرادات والأجندات.
ومن الأشياء المثيرة  للدهشة أن كثير من الأحزاب  بدلاً من  الاهتمام بالبناء السياسي والحزبي والفكري وتأهيل قياداتها ونظمها بما يناسب تعقيدات إدارة الدولة، فإنها على النقيض من ذلك اهتمت منذ وقت طويل بإدخال منسوبيها للجيش والأجهزة الأمنية، بل تطور الأمر إلى تأسيس وحدات عسكرية حزبية في بعض المراحل، وكل ذلك أدى لإقحام العسكر في السياسة، حيث بدأت التشوهات بتسليم السلطة إلى الفريق عبود  في  1958 ودخول البلاد في سلسلة لم تتوقف من الانقلابات  والعمليات العسكرية من معظم الأطراف .. مما فاقم من الأزمة الوطنية.
أيضاً من الملاحظات على النضال السوداني هو عمليات التفاوض ما بين المعارضين والحاكمين ( وكلاهما غير مفوض ولا منتخب ديمقراطياً ) ليصلوا إلى تفاهمات وإتفاقيات سلام تؤدي إلى تقاسم السلطة، فأعطت تلك الأطراف نفسها الحق في التفاوض حول قضايا كبيرة تتطلب تفويض من الشعب السوداني، رغماً عن أن تلك الأطراف غير مفوضة إلا في حالات نادرة جداً، مما يعني أن تخطي الإرادة الشعبية ظل سمة سائدة في المشهد السوداني، وكثيراً ما تقف خلف ذلك أجندات تعبر عن جهات خارجية تمددت عبر منصات النضال السوداني واحتضانه وتمويله.
أيضاً تجب الإشارة إلى ضعف الثقة التي أصبحت سمة للساحة الوطنية، والتي تم غرس بذرتها الأولى في الخمسينات عندما نكص أبناء الشمال عن وعدهم للجنوبيين بمنحهم حق الحكم الذاتي مقابل التصويت لصالح الاستقلال، إنتهاء بالنكوص عن الوثيقة الدستورية في 2019 بتشكيل حكومة محاصصات بدلاً عن حكومة كفاءات كما تشير الوثيقة، وغير ذلك من تجاوزات.
الخلاصة:
ظل السودان طوال سبعة عقود من الزمان  دون رؤية تعبر عن الدولة كبوصلة تعين في التعامل الحكيم الناضج مع الظروف والأوضاع الداخلية والخارجية من أجل صناعة المستقبل الزاهي الآمن، سبعة عقود دون وثيقة تحدد مصالحه الوطنية.. دون مسار  يفضي نحو المستقبل، سبعة عقود نسير بإرادة ضعيفة مرتبكة، وتخطي مستمر للإرادة الشعبية، مع ضعف مؤسسي وضعف في البنية السياسية وتباين في الرؤى واستقطاب حاد وتنامي للكراهية، والاستمرار في ارتكاب بعض الأخطاء والسلبيات في ممارسة النضال، الشئ الذي أسهم في  تنامي التدخلات الخارجية والأجندات الضيقة وارتباك الأداء الوطني وضعف مُخِل في الأداء التنموي مع نزاع وحروب وعدم استقرار وتهديد بقاء الدولة وكيانها.
القسم الثاني
إن مجريات الأحداث التي أكدت صحة ما توقعناه قبل أعوام تشجع للتعامل الجاد مع فرضياتنا، فهذه الأحداث التي جرت فيما مضى من زمن، هي نفسها تشير وبدقة أكبر لحجم الخطر والتحدي الماثل أمامنا، وهو وضع يحتاج إلى أصحاب الخبرة والمعرفة والتجرد، فما تبقى من فترة انتقالية يضعنا أمام لحظة مفصلية حاسمة، كما  يعزز من ضرورة الالتفات  بشكل أكثر جدية لتغيير طرق التفكير والتعامل مع الشأن الوطني .
ذكرت عدة مرات أن أزمة السودان بدأت في 19 ديسمبر 1955 عندما تم استلامنا لإدارة الدولة دون رؤية وطنية ذات عمق استراتيجي، نجم عن ذلك دخولنا في الدائرة الخبيثة ( حكم مدني بأداء ضعيف ناجم بشكل أساسي عن غياب الرؤية، فانقلاب عسكري فثورة شعبية تُحدِث “فراغ خطير ” نتيجة إسقاط النظام دون ترتيبات لما بعد السقوط، في ظل تعقيدات وأجندات تعبر عنها اللوبيات والاستخبارات الأجنبية وغيرها من الجهات التي تمتلك السلطة والمال والأدوات، فتختطف الثورة  وتنحرف الفترة الانتقالية عن الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، ثم انتخابات تتم وفق برامج حزبية محدودة لا تتناسب مع تعقيدات البيئة المحلية والخارجية، مما يؤدي لفشلها، فيحدث إنقلاب عسكري لا يُستبعد في كثير منها وجود تدخلات خارجية خلفه بشكل أو آخر.. وهكذا دائرة خبيثة مع استمرار تزايد التعقيدات على الصعيد المحلي والخارجي ) إلى أن سقط نظام الإنقاذ في أبريل 2019، لتدخل الدولة في حالة فراغ أدى لاختطاف الثورة  واستلاب بدرجات متفاوتة للإرادة السودانية، حيث جرى ويجري تحقيق كثير من الأجندات التي لا تمت بصلة للثورة، وإنما بمصالح الجهات التي تمددت في ذلك الفراغ واختطفت الثورة .. جرى تحقيق أجندات مخالفة حتى لشعارات الثورة الأساسية، حيث التشوهات في العدالة والحريات مع تمكين جديد ومحسوبية جديدة وفساد جديد وذات الممارسة السياسية التقليدية والمحاصصات ..
إن السبب في هذه الدائرة الخبيثة ومن ثم عدم قدرتنا على تحقيق النهضة والسلام المستدام رغم امتلاكنا للمورد البشري والمادي والمزايا الجغرافية والفرص الكبيرة، هو فقرنا في التفكير الاستراتيجي الجمعي والذي قاد لعدم وعينا بأهمية الإطار الفكري الذي يؤسس لصناعة المستقبل والسلام في إطار مفهوم الدولة، والذي تعبر عنه الرؤية الوطنية التي ظلت غائبة حتى تاريخنا هذا، وها نحن نكمل ثلاثة أعوام كاملة منذ اندلاع الثورة الثالثة دون توجه جاد تجاه هذا الموضوع..
إن النموذج الأمريكي القديم هو نسخة شبيهة إلى حد ( ما ) بحال السودان، فعندما غابت الرؤية في الولايات المتحدة ظلت هذه الدولة القارة الغنية، في حالة حروب أهلية ونزاعات وتخلف، بل ومستعمرة من قبل دولة تقع على بعد آلاف الأميال في أوربا، وعندما أنتجت رؤيتها صار لديها البوصلة والإرادة فنهضت وتسيدت العالم بمافي ذلك من كان مستعمراً لها.
السودان و الصراع الاستراتيجي الدولي :
بدأت الفترة الانتقالية في ظل فراغ خطير وضعف مخِل في إدراك طبيعة التعقيدات والظروف المحلية والإقليمية والدولية التي تحيط بالبلاد، وكنت قد تحدثت كثيراً عن موقع السودان من الصراع الاستراتيجي الذي يدور حول المخزون الضخم من المعادن الاستراتيجية الثمانية والنفط والاحتياطي الاستراتيجي من الغاز واليورانيوم فضلاً عن الاراضي الزراعية والمياه بجانب الصراع المحموم حول الموقع الاستراتيجي للدولة بين الاقليم العربي والافريقي مطلاً على البحر الاحمر حيث سيعبر الممر الافريقي وطريق الحرير في ظل تجارة دولية ستعبر المنطقة يسبقها عمليات إنتاجة ضخمة، سترتفع خلال عقدين من 2.5  الى ما قد يتجاوز الأربعة تريليون دولار.
يقع السودان في دائرة  هذا الصراع بجميع محاوره، نحن في قلب العاصفة، وإذا ما قرأنا هذه الحقيقة مع الظروف التي أحاطت بالدولة السودانية الحديثة بعد الاستقلال على مستوى التنمية والهوية ونظام الحكم نصل إلى أن (الخطر الوجودي) الذي يهدد كيان الدولة السودانية هو غياب الرؤية الجامعة وغياب العقل الاستراتيجي للدولة.
تخوض الدول هذا الصراع الإستراتيجي مرتكزة على قواعد معرفية ضخمة، ومسنودة بمؤسسات إستراتيجية وطنية في كافة المجالات ذات الصلة بالتخطيط القومي ودعم القرار والبحوث والدراسات الاستراتيجية، وبتشبيك وتنسيق متقن ما بين منابع المعرفة والخبرات من ناحية ومنظومة العقل الإستراتيجي للدولة من ناحية أخرى. وكل ذلك في سبيل تحقيق رؤى إستراتيجية واضحة، فضلاً عن تأمين توجهات الدولة من الاختراق المضاد.
صراع مصالح  أم  تآمر ؟
عندما أتحدث عن الصراع كثيراً ما  تقفز آراء رافضة لذلك باعتبار ذلك جزء من أوهام نظرية المؤامرة، وأقول لهؤلاء أن الصراع الاستراتيجي هو وضع طبيعي يمثل سمة أساسية للحياة على الأرض منذ هبوط الإنسان عليها، وهو ما يفسر لماذا دُمِرت إيطاليا وفيها الفاتيكان، ولماذا دُكت ألمانيا المسيحية في الحرب العالمية الثانية وقسمت لقسمين، ولماذا تكتل الأوربيون، ولماذا تأسست مجموعة البريكس، ولماذا يجري سباق التسلح، ولماذا تزداد ميزانيات التسلح في الدول الكبرى لتصل مئات المليارات من الدولارات، لماذا تقوم الأحلاف العسكرية الكبيرة، لمجابهة ماذا ؟ وضد من ؟ وخوفا ممن؟ إنها ليست مؤامرة وإنما صراع شرس ولا أخلاقي في كثير من جوانبه، صراع طبيعي حول الموارد الطبيعية والمواقع الجيوستراتيجية والثقافات والعقائدـ
أدوات الصراع الاستراتيجي
إن مصيدة الديون، العقوبات الأحادية، تصدير الأزمات، إشاعة الأحباط، التفتيت المجتمعي والوجداني، وغيرها، ما هي إلا ( أدوات ) تستخدم في هذا الصراع الاستراتيجي الدولي. ولقد تعرضت إفريقيا في تاريخها الحديث لأبشع عمليات النهب والاستغلال عبر أدوات شديدة القسوة، أما الآن فقد تغيرت الأدوات إلى أشكال أخرى ناعمة في مظهرها وأقل مباشرة، لكنها أشد فتكاً وقسوة من سابقاتها. إن الاستعمار الأوربي لم يكن نزهة، وإنما كان وسيلة لتحقيق مصالح محددة، وكل ما يحدث الآن هو تغيير للوسائل، أما الأهداف فلا زالت كما هي.
لقد ظللنا منذ الاستقلال نواجه منهج صناعة الأزمة (Crisis Industry)، مما جعلنا دولة مأزومة وفي حالة لهاث مستمر حتى فقدنا القدرة على إتخاذ القرارات الصحيحة ولملمة أطرافنا لصناعة المستقبل الذي نريد. ظللنا نواجه استراتيجيات أجنبية شاملة ومتقنة، برؤى تكتيكية مجزأة ضعيفة وغير مجمع عليها وفي ظل استقطاب سياسي مستمر. وانتهى بنا المشهد حاليا بالدخول في مرحلة الابتزاز السياسي.
إدارة التبادل الإستراتيجي
إن غياب الرؤية الوطنية يؤسس لإهدار الموارد الطبيعية والمزايا الجغرافية، فعلى سبيل المثال في الوقت الذي نلهث فيه ونجتهد للحفاظ على حصتنا المشروعة من مياه النيل البالغة ( 18.5 مليار متر مكعب ) فإننا في ذات الوقت وبسبب غياب الرؤية والنظام المؤسسي  والعقل الاستراتيجي، فإننا نمنح وبمنتهى البساطة ملايين الأفدنة ( أي مساحة دولة) لمستثمر أو دولة معينة، ولفترات طويلة قد تمتد لمائة عام تتعاقب خلالها 20 حكومة ربما، وهي مساحة تستهلك حال زراعتها بالكامل لأضعاف حصتنا من مياه النيل، كل ذلك يتم دون الحصول على مقابل مناسب لذلك..  
إن غياب الرؤية الوطنية يحرم الدولة من إدارة حوار استراتيجي دولي يؤسس لإدارة المزايا والموارد الطبيعة الاستراتيجية في إطار ما يسمى بالتبادل الاستراتيجي. بأن تستثمر الأرض والماء أو المعدن أو الغاز أو النفط أو الموقع مثل ساحل البحر الاحمر مقابل: التقانة الاستراتيجية (العسكرية أو المدنية)، أو الحصص الاستراتيجية في الاسواق العالمية أو السند الاستراتيجي السياسي أو الامني، لذلك فإن ما تشهده الساحة السياسية من ممارسة سياسية تفتقد لهذا المفهوم يعرض السودان وأمنه القومي للخطر. ويفسر لماذا يتم تعطيل النظام المؤسس والاستراتيجي للدولة.
الأوضاع على الساحة الدولية :  إفريقا الفتية وأوربا العجوز
إن دول الاتحاد الأوربي وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول تواجه إشكالات حقيقية، مثل نقص إمدادات الطاقة والمعادن الصناعية بجانب الأزمة الديمغرافية، فضلاً عن وجود تغيرات  أساسية في التوازنات الاستراتيجية على الساحة الدولية، كما أن الاقتصاد العالمي يشهد تطورات عميقة ومتسارعة، بجانب أزمة المناخ والنقص الحاد المتوقع للغذاء، بما في ذلك أوضاع الاقتصاد الأمريكي حيث تتسع الفجوة بين الناتج الإجمالي الذي تجاوز العشرين تريليون،  والدين العام الذي يقترب من حاجز ال 29 تريليون، وهو ما وقف خلف الاستراتيجية الأمريكية لزيادة الناتج الإجمالي إلى 30 تريليون دولار، مما استدعي التوجه إلى إفريقيا بقوة، لا زالت بعض دولها تعاني آثار الأزمة المالية، أعلنت بأن أراضيها الزراعية شاخت نتيجة لسياسة المونو كلشر، مما يعني حدوث تناقص كبير في إنتاجها الزراعي بدأً من 2022، هذا فضلاً عن التعقيدات التي أثرت على بريطانيا بخروجها من الاتحاد الأوربي. كل ذلك يؤهل إفريقيا بشكل عام والسودان بشكل خاص ليصبح مسرحاً  لشراكة إقليمية ودولية.
إذن نحن نعلم الاشكالات التي تواجه الدول الغربية وندرك بأن جانب كبير من الحل يكمن في إفريقيا، القارة الفتية، فإفريقيا ليست غنية فقط بمواردها الطبيعية والبشرية وإنما كذلك بثقافتها وتاريخها الكبير.  إن الوسائل والسياسات الغربية التي مورست في إفريقيا والتي قامت على تخطي الإرادة الإفريقية ونهب الثروات والاهتمام بالمنفعة الاستعمارية فقط وإهمال التنمية الشاملة و تحقيق الصناعات النهائية، أدى إلى تدهور البيئة وتنامي العنف والتطرف والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية.., ومع تنامي الوعي الافريقي والظروف الدولية المشار إليها سابقا لا مجال  لاستمرار ذات السياسات والوسائل القديمة في استغلال الموارد الافريقية على المدى الطويل، ومن النماذج لتجدد الصراع القديم واستمرار العقلية الاستعمارية للدول الكبرى تجاه الدول النامية  ما يجري في بعض الدول الإفريقية في مجال البذور المحورة وراثياً في مجال القمح وغيره حيث تجري عمليات استبدال واسعة للتقاوي والبذور المحلية القابلة للزراعة بأخرى محورة وراثياً تصلح لموسم واحد فقط، وفي هذا إخضاع الدول الإفريقية وتهديد لأمنها على المدى البعيد عبر عبر التقنية المتقدمة، حيث السيطرة الأجنبية عبر الملكية الفكرية للتقاوى، إن  الشراكة الدولية العادلة هي المعادلة الوحيدة القابلة للنجاح  وتحقيق مصالح كل الأطراف بل وضمان لأمن الإقليم والعالم.
إن تأسيس هذه الشراكة الدولية على أسس جديدة عادلة تؤسس لمصالح الطرفين ولإرادة الشعب السوداني، يمكن أن تشكل المدخل الأساس لتحقيق السلام المستدام والاستقرار على الصعيد المحلي والإقليمي، وتمنع العنف والتطرف والجريمة المنظمة والهجرة وتحافظ على البيئة، لكننا نؤمن بتعذر تحقيق ذلك دون رؤية استراتيجية تؤسس لحوار استراتيجي على الساحة الدولية، مما يعني حاجتنا لفكرة سودانية حول الاستراتيجيات والسياسات الخارجية لتحقيق مصالحنا الوطنية بما يشمله ذلك من إدارة عمليات للتبادل الاستراتيجي للمصالح.
السودان والممر الإفريقي الكبير
إن من أهم مزايا السودان الموقع الجغرافي بين الفضاء العربي والإفريقي وقريباً من الأسواق العالمية، مجاوراً لعدد من الدول الحبيسة مع إطلالة متميزة على البحر الأحمر الذي تمر عبره حولي 14% من حجم التجارة الدولية بتوقعات في النمو تصل إلى 20% أو أكثر.
إن إدارة هذا الموقع الجغرافي المميز يؤهل السودان ليكون قلب الحركة التجارية مع إفريقيا  (Hub)وذلك عبر نظام النقل متعدد الوسائط الذي يشمل الموانئ البحرية المطلة على البحر الأحمر والطرق البرية وشبكات السكك الحديدة وأنابيب النفط والغازالعابرة وبعض البنيات الأساسية الداعمة. إذاً للسودان مصالح كبيرة في ساحل البحر الأحمر، ومن أهمها المصلحة الأمنية المتمثلة في استغلال الساحل في ربط المصالح الاستراتيجية لدول الجوار المغلقة (الدول الحبيسة) مع السودان ومنعها من التحول لمنصات للأعداء. لذلك فإن التصرف في الساحل السوداني هو شأن يتعلق بالأمن القومي وليس مجرد عملية تنموية. فمن حق الدولة بطبيعة الحال إستخدام نظام البوت مثلا لتأسيس وتطوير وتشغيل البنى الأساسية كالموانئ، لكن إن تم هذا فيحب أن يتم في إطار شراكة دولية تقوم على أسس سليمة، شراكة تقوم على المصالح المتبادلة في ظل ظروف طبيعية وفي إطار القانون وبشفافية، يجب أن لا يتم هذا ونحن في موطن الضعف والإبتزاز.
أجندة الفترة الانتقالية والتفويض الانتخابي والمبدأ المرفوض لدى الفاعلين السياسيين
قامت ثورة ديسمبر من أجل أهداف محددة، فإذا بالحكومة تتبنى أهدافاً أخرى دون تفويض من الشعب، ومن ذلك اللجوء لحلول خارجية عبر تدخل بعثة الأمم المتحدة والتطبيع مع إسرائيل ونحو ذلك من توجهات بدلاً عن انخراط حكومة الثورة (المعززة بإرادة شعبية غير مسبوقة والتحام وطني عميق)، في السير لتأسيس المنصة الوطنية التي يتم عبرها تعزيز الإرادة السودانية وإنتاج الرؤية السودانية للعبور نحو المستقبل، إذا بها تتخطى كل ذلك نحو المنصات الخارجية، وبدلا من أن تصبح الفترة الانتقالية وسيلة لبلورة الإرادة الوطنية، أصبحت في كثير من الأحوال منصة لتمرير أجندة خارجية، وما بين التنازل عن أرض عزيزة في شمال السودان وتدمير أكبر أرث حضاري قبل عقود، مروراً بفصل جنوب السودان، يستمر مسلسل السير دون رؤية ودون إرادة.. من الواضح أن كثير من الفاعلين السياسيين عبر تاريخ السودان الحديث يتجنبون ويرفضون استخدام الاستفتاء الشعبي كأحد أهم وأبسط آليات المشورة الشعبية للتقرير في الشأن العام.
إعداد المسرح :
في إطار ما يسمى ب ( سايكس بيكو 2 ) وعبر استخدام السياسة الأمريكية التي أطلقتها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، تجري منذ فترة محاولات لإعادة ترتيب المنطقة الإقليمية برؤية جديدة، قد تتضمن إعادة تقسم جديد وبمنهج جديد. وفي هذا السياق جرت الأحداث في الصومال والعراق واليمن وسوريا وليبيا وغيرها من خلال إضعاف الجيش وشيطنته ونسف وحدته من جهة، وصناعة بيئة سياسية يسودها الاستقطاب الحاد والتفرقة والكراهية وعدم الثقة من جهة أخرى، مع تفتيت واستقطاب الكتلة الحرجة وهي الثوار وتخوين بعضهم ومنعهم من التوحد خلف رؤية واحدة، من جهة أخرى.  وبذات الطريقة تتم تهيئة المسرح السوداني حالياً.. حيث يتم التخطيط لهيكلة الخدمة العامة عبر تمكين جديد  يضرب بعرض الحائط كل معاني التنافس الشفاف للوظيفة العامة، في تخطي آخر لارادة الشعب وخيانة لأهداف الثورة ومبادئ الحكم الرشيد.. كما جرت عمليات لتغيير القوانين ومحاولات لتغيير المناهج من أجل انجاز عمليات هندسة إنساية جديدة، وبناء ثقافي  واجتماعي ومعرفي وفق مرجعيات غير وطنية، أو على الاقل وفق مرجعية جهات لا تعبر عن الإرادة الشعبية، إن هذه الترتيبات تمثل ذات الشروط التي ظلت تفرضها الدول الغربية على السودان منذ عقود.
تم كل ذلك في ظل صمت دولي وتعليقات خجولة أحياناً على غياب البرلمان والمحكمة الدستورية وانتقاص سلطة القضاء، لتظل السلطة الانتقالية محصنة من الرقابة القضائية والبرلمانية، في تناقض مع مبادئ الديمقراطية .
إن إضعاف الجيش ونسف وحدته وتقليم أظافره وتقييد تمويله وهيكلته وتغيير عقيدته، هو الركيزة الأساسية لاستباحة السودان، ودونكم الجيوش في العراق واليمن وسوريا وليبيا. لذا بدل الانسياق وراء المسوقات العديدة التي يبدو في ظاهرها الخير بينما يكمن الشر في باطنها،  عينا إدراك أن قيام أي حكم راشد بمؤسسات مكتملة بمافي ذلك البرلمان المنتخب، قادر تماماً على ضبط أداء الجيش، وهو ليس بمعضلة. بالتالي فإنما يجري حالياً هو ترتيب لصالح أجندات خارجية وليس كما يدعي الكثيرون. فإذا كان الجيش في حاجة لإعادة هيكلة وتطوير، شأنه شأن المؤسسات التي تضررت خلال فترة الإنقاذ، فإن  ذلك يجب أن يتم وفق الإرادة السودانية.
لي الذراع :
لقد ظل السودان يعاني من استخدام كثير من أدوات الصراع الاستراتيجي كالتفتيت الوجداني واختراق الإرادة عبر احتضان المعارضة والعقوبات ومصيدة الديون وصناعة الأزمات وغيرها.
يتوجب علينا أن نستوعب أن العالم ليس مدينة فاضلة، يكفي دليلاً على ذلك استمرار العقوبات على الشعب السوداني طوال أكثر من عقدين من الزمان، أضرت بالأطفال والتعليم والصحة والاقتصاد وأفقرت الكثيرين وأضرت بالبيئة، بالأمن الإنساني بشكل عام، كل ذلك بسبب  ( عدد من الأشخاص ) متهمين بارتكاب جريمة، فتتم معاقبة شعب بأكمله لربع قرن، يتكرر ذات المنهج الذي يتدثر بالإنسانية والديمقراطية عندما يهدد بمنع (المساعدات الإنسانية ) ووقف إجراءات هيكلة الديون ووقف يرنامج ثمرات وغير ذلك،  بسبب قرارات لقائد الجيش، كيف نفهم معاقبة الشعب ومنع المساعدة عنه لأن قائد الجيش، اتخذ قرارات أو توجهات معينة. علينا أن نستوعب حقيقة ما يجري بعمق، علينا أن نفهم  بأن سر اهتمام الكثير من دول العالم بالسودان ناجم عن وجود مصالح استراتيجية ضخمة لهذه الدول في السودان، وليس حباً فينا أو إيماناً بالديمقراطية، فجوهر الديمقراطية يقوم على بلورة وتحقيق إرادة الشعوب وهو ما يجافي واقع التدخلات الخارجية، مما يتوجب علينا أن نبلور مصالحنا ونسعى لخدمتها بدلاً من هذا الأداء المرتبك والهرولة  المتعجلة دون رؤية للاستجابة للأجندات الخارجية، لأن نهاية المطاف لهذا السلوك هو ضياع الدولة ومصالحها.
علينا بدلاً من هذا التخوف من تهديد الخارج، أن نتوقف لاستيعاب سبب ضعفنا وعجزنا والعمل لعلاجه، بإدراك مكامن قوتنا وإدراك الفرصة المتاحة والمهددات التي تعترضها، علينا التعرف على نقاط ضعف خصومنا، علينا الخروج من وهم تهديد الخارج  وإدراك موقعنا من التنافس الدولي،  وأن نعي بأن السبيل لمواجهة ذلك هو اتحادنا خلف رؤية وطنية واحدة، وعقل استراتيجي ونظام مؤسسي،  تحت مظلة وعي وطني واسع يميز بين الوطن والحزب، والوطن والقبيلة، عندها يمكن أن ندير حوارات لتبادل المصالح بإرادتنا لا عبر لي الذراع . لا يمكن صناعة المستقبل عبر توجيه الخارج واستلاب الإرادة الوطنية فهذا يعني استلاب الاستقلال ووصمة عار للممارسة والنضال السياسي.
فتح صفحة جديدة :
الكل متفق على ضرورة  تأسيس دولة القانون والعلم والمؤسسات، إلا أن العبور نحو ذلك يتطلب تجاوز حكيم للمرارات والأخطاء التي مورست منذ الاستقلال، والذي غالباً ما يجعل كثير من الفاعلين في الساحة السياسية غير جادين في تحقيق ذلك لارتباط بعضهم بتلك الأخطاء والمرارات…
إن التجربة الإنسانية في جنوب إفريقيا ورواندا وغيرهما تجسد مثال حي للحكمة في شراء المستقبل، للحكمة في شراء السلام والنهضة والكرامة والحرية، الحكمة في الانعتاق من مرارات  وأخطاء الماضي، وذلك من خلال ترتيبات حكيمة.
غابت الحكمة في سوريا وعلت أصوات الاتهام بالعمالة وخيانة الشهداء للحكماء الذين سعوا لتجاوز الأزمة، فكانت النتيجة بدلاً عن عدة آلاف من الشهداء، أن سقط ما يقترب من 600.000 شهيد وعشرات الآلاف من الأرامل واليتامى وملايين المهاجرين، ودمار تفسي هائل ودمار مادي غير مسبوق يحتاج لمليارات الدولارات مع ضياع عمر عزيز,
لقد سقط حوالي مليون قتيل في رواندا، بينما سقط في جنوب إفريقيا ما يفوق العشرين  ألفاً ومليوني مهاجر، ورغماً عن ذلك فقد انعقدت المصالحة وتم الانعتاق من أخطاء الماضي، علينا الاستعداد لطي صفحة الماضي وشراء المستقبل.
الخلاصة :
1.     خلاصة هذا المقال هو أننا دولة غنية بالموارد البشرية والمادية والمزايا، تقف أمامها فرص ضخمة تؤهلها لأن تكون دولة عظيمة، لكنها ظلت طوال 66 عاماً دون رؤية استراتيجية تصنع المستقبل دون وثيقة تحدد مصالحنا الوطنية وتعبر عن الدولة وعن تطلعات شعبها بكل تنوعه، تحافظ على الاتحاد الجغرافي والوجداني تحددد فلسفتنا ومصالحنا وغاياتنا وقيمنا ونظام حكمنا وترتيباتنا لإدارة التعقيدات والمخاطر، مع ضعف في التفكير الاستراتيجي الجمعي والنظام المؤسسي.
2.     نجم عن هذا دولة ظلت منذ الاستقلال دون مسار وطني يفضي نحو المستقبل، دون إرادة، وتعاني من ضعف يتمثل في  ارتباك استمر لنحو سبعة عقود، ضعف مؤسسي وضعف في البنية السياسية، استمرار النزاعات والتشظي وكثرة الخلافات والجدل، الاستمرار في ممارسة صيغة سياسية تقليدية ونضال تقليدي مدني أو عسكري، في عصر أصبحت سمته الأساسية هي التطور المعرفي  والتقني والمنهجي والإبداع، الشئ الذي أدخلنا في دائرة خبيثة عطلت الفرص الكبيرة والمتعددة لإحداث إختراق استراتيجي في تحقيق النهضة والسلام المستدام، وألقت بظلال كثيفة على الإرادة  الوطنية وسمحت بتنامي التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي، مع إصرار في تخطي الإرادة الشعبية وتفادي استفتاء الشعب، بتمرير أجندات تعبر عن مصالح شخصية أو تنظيمية أو خارجية، نواجه صراع دولي في الإقليم، تتم إدارته من خلال استراتيجيات أجنبية متقنة بعيدة المدى مسنودة بخطط قصيرة  وتكتيكات متعاونة متكاملة، مقابل غياب للرؤية الوطنية الاستراتيجية التي تدرك هذا الصراع  وتدرك تعقيدات البيئة الاستراتيجية سواء الداخلية أو الخارجية، مع غياب العقل الاستراتيجي الذي يحشد المعرفة والتفكير الاستراتيجي، مقروناً بضعف في التنمية السياسية وثقافة الديمقراطية والوعي الاستراتيجي وضعف مفهوم الأمن القومي وعدم التمييز بين الدولة والحكومة والحزب.
3.     الاحتلال الأجنبي لم يكن نزهة  وإنما كان وسيلة لتحقيق مصالح محددة ، وكل ما يحدث الآن هو تغيير الوسائل فقط، أما الأهداف فلا زالت كما هي .
4.     آن الأوان لنستوعب ان صناعة المستقبل لا تتم الإ بسلوك كبير ومعاني وأفكار كبيرة، وأن تحقيق أهداف الثورة التي من أجلها سقط الشهداء والجرجى،  وتحويل شعاراتها إلى واقع لا يمكن أن يتم إلا عبر رؤية سودانية عميقة، عبر ممارسة النضال الفكري.. نضال التخطيط والمعرفة وتطبيق مبادئ الحوكمة والإدارة الاستراتيجية الراشدة.
5.     يجري تهيئة المسرح لابتزاز السودان، بما في ذلك نسف الشراكة بين الجيش والثوار، بهيكلة الجيش وشيطنته وتفتيت الثوار وزرع الخلافات بينهم  ومنع توحدهم.
6.     نجح الثوار في إسقاط النظام، لا أن عدم إنتظامهم خلف أفكار مشتركة ومن خلال آليات محددة للتعامل لما بعد الإسقاط، فاقم من خطورة الفراغ الذي أدى لاختطاف الثورة والتأثير على الإرادة السودانية. 
7.     ما يجري الآن هو عكس الاستقلال تماماً حيث  يتم السعي الحثيث لتشكيل مستقبل جديد للسودان بإرادة خارجية أكثر منها إرادة وطنية، لذا نحن أمام لحظة مفصلية للإنعتاق والعبور، أمام مفترق طرق: إما أن تدار الدولة بارادة السودانيين أو بإرادة جهات خارجية.
8.     تحقيق الاستقلال الثالث يتطلب ترتيب أنفسنا حتى تصبح رؤيتنا ومصالحنا الوطنية هي مرجعيتنا لصناعة المستقبل السوداني .
9.     السلام المستدام لا يتحقق عبر اتفاقيات السلام فقط، فهي بمثابة ( المسكن ) وإنما بجراحة ومضادات حيوية وعلاجات تتمثل في الترتيبات الاستراتيجية التي تنظر خلف البندقية وخلف الحدود. أولاً خلف البندقية لا أمامها، حيث الإحساس بالظلم وعدم الإنصاف وتدني الخدمات من تعليم وصحة ومياه وفرص عمل إلخ حيث يتم التعامل مع ذلك عبر رؤية تحقق التنمية المتوازنة المستدامة.  وثانياً النظر خلف الحدود حيث الاستراتيجيات والمصالح الخارجية، ويتم التعامل معه عبر عمليات التعاون الدولي والترتيبات الخارجية.

  1. النهضة الطموحة التي تجعلنا دولة محترمة متقدمة لا يمكن أن تتم بذات المنهج والممارسة التقليدية وإنما برؤية كبيرة وسلوك وكبير وقيادات كبيرة ..
  2. الحفاظ على الارادة السودانية يستلزم الانخراط الفوري في حوار سوداني للتوافق حول الرؤية الوطنية.
  3. أن اقامة نظام ديمقراطي مستدام لا يعني فقط التصويت في الصندوق، وإنما يتطلب وجود عناصر أساسية يتمثل أهمها في التوافق على رؤية وطنية، تعزيز ثقافة الديمقراطية، بناء أحزاب وفق أسس علمية وعصرية سليمة، وجود سلطة قضائية مستقلة، تهيئة المناخ الملائم المتمثل في وحدة المشاعر الوطنية وقبول الآخر ومنع خطاب الكراهية. الشئ الذي يستلزم خطاب وسلوك وفعل سياسي راشد وحكيم من السلطة الانتقالية، يقوم على الهوية الوطنية وأسس العدالة، يمنع التمكين والمحسوبية والفساد، يؤسس للحقوق وفق المواطنة.
  4. لن يفيدنا النضال الذي يفتقد للاخلاص للوطن والفكر والمعرفة المطلوبة لتحقيق النهضة والسلام المستدام، النضال الذي يؤسس لتمدد التدخلات الخارجية، سواء النضال السياسي التقليدي أو العسكري  أو التظاهرات التي تنتهي بالاسقاط فقط.
  5. لا يمكن تحقيق النهضة في ظل التشظي وغياب دولة المؤسسات والعقل الاستراتيجي ووجود الفساد،  وفي ظل محاولات تخطي الإرادة الشعبية .
  6. إن  السودان بحسب الظروف الدولية وطبيعة التحولات في التوازنات الاستراتيجية على الساحة الدولية، تؤهله  ليصبح مسرحاً  لشراكة إقليمية ودولية يمكن أن تشكل المدخل الأساس لتحقيق السلام المستدام والاستقرار على الصعيد المحلي والإقليمي، وتمنع العنف والتطرف والجريمة المنظمة والهجرة وتحافظ على البيئة، إلا أن ذلك يتعذر تحقيقه ذلك دون رؤية استراتيجية تعزز الإرادة،  تؤسس  لحوار استراتيجي على الساحة الدولية، يجب أن نعمل بجد كي تتكامل فيه المصالح والإرادات بدلاً صراع الإرادات وتخطيها.
    الحلول :
    1.     إن تحقيق النهضة الطموحة والسلام المستدام وما يقابل ذلك من تحديات داخلية وأخرى خارجية بما في ذلك إدارة عمليات التنافس الدولي، يتمثل في تحقيق الحالة العكسية والتحول من الضعف إلى القوة، وتعزيز قدراتنا التفاوضية، عبر عدد من الترتيبات يتم استيفاؤها من خلال هذه الفترة التأسيسية الانتقالية، أهمها:
    ▪️بلورة رؤية واحدة لكل الشعب السوداني تحمل غايات وأهداف وقيم مشتركة، ستكون هي الركيزة الأساسية والمصدر الأساسي لقوة السودان، نبلور عبرها الإرادة والتحدي والحلم الوطني والمسار الاستراتيجي نحو المستقبل، تتضمن كافة الترتيبات للتعامل مع البيئة الاستراتيجية.
    ▪️ تحصين الدولة من خطورة القرارات والتوجهات الفردية وتأمين مركز صناعة القرارات الاستراتيجية، من خلال تأسيس نظام محوكم لصناعة الاستراتيجيات والسياسات والقرارات، بتأسيس المنصة الآمنة للتفكير الوطني الاستراتيجي والحشد المعرفي المتمثلة في منظومة العقل الاستراتيجي  وتعزيز العمل المؤسسي وإعمال الحوكمة، وحماية ذلك بالدستور والنظم والقوانين خاصةً قانون الرؤية الوطنية الحاكم للمسار الاستراتيجي.
    ▪️استكمال وتفعيل الآليات الأساسية اللازمة، وعلى رأسها البرلمان والسلطة القضائية المستقلة ومنظومة العقل الاستراتيجي للدولة، والآليات المهنية في مجالات مكافحة الفساد،، سلطة الحوكمة. المواصفات، المراجع العام.
    ▪️ تطوير الصيغة السياسية وتحقيق التنمية السياسية وتعزيز وتطوير البنية والممارسة السياسية ومفهوم النضال الوطني .
    ▪️ترقية الوعي الوطني وتشكيل الثقافة الوطنية التي تؤسس للهوية السودانية ولمفهوم الوطن، ولممارسة الحكم الراشد والديمقراطية، والتسامح وقيمة الإخلاص والعمل والإنتاج.
    ▪️طالما أن شرعية الفترة الانتقالية مُستمدة من الثورة، فينبغي تعزيز إرادة الشارع بدلاً من تخطيه،  وذلك بتحقيق الانتقال النوعي للثوار من نضال المواكب إلى نضال التخطيط والإنتاج والمعرفة والمشاركة في صناعة القرار والنهضة، عبر استيعاب ( الثوار الحقيقيين ) في آليات تسمح بذلك، بجانب تعزيز الإرادة المعرفية المتمثلة في خبراء السودان، من خلال وجودهم مع الثوار في البرلمان وغير ذلك من آليات تحقيق النهضة وصناعة القرار.
    2.      تنظيم الحوار السوداني السوداني الشامل، الشفاف والحر حول كل قضايا الدولة وقضايا الأقاليم كافة، حوار يتناول جذور المشكلات، وعمل تحليل استراتيجي عميق، واستكتاب الخبراء ودراسة تجارب الآخرين، وإتمام عمليات مشورة  وطنية للشعب السوداني عبر الدراسات الميدانية والاستفتاء، وإجراء مشورات علمية مع خبراء  وعلماء السودان، حتى نتوصل لرؤية سودانية كخطة للدولة السودانية بكل ما فيها من تنوع وثراء، رؤية تعبر عن الوجدان الوطني وعن تطلعات كل ولايات السودان وتراعي حقوق الأجيال القادمة، على أن تجاز عبر البرلمان المنتخب والاستفتاء العام للشعب السوداني تعزيزاً للإرادة السودانية.
    3.     هذا الحوار وما سيفرزه من رؤية مسنودة بمشورة شعبية ومشورة علمية، مجازة  من الشعب السوداني، سيلغي بشكل تلقائي كل الترتيبات السابقة لتحقيق السلام، ويؤسس لمسار سوداني سوي نحو المستقبل.
    4.     عقد مؤتمر للتسامح الوطني يتم خلاله الاعتراف بأخطائنا تجاه بعضنا البعض والاعتذار لبعضنا البعض ومن ثم فتح صفحة جديدة والانطلاق نحو المستقبل بما يفتح الباب واسعاً أمام تأسيس دولة القانون والعلم والإبداع ويقفل الباب أم التدخلات الخارجية للابتزاز الوطني.
    5.     تعزيز الإرادة الثورية والإرادة المعرفية من خلال تأسيس برلمان إنتقالي من غرفتين، الأولى تضم ممثلي الثوار والقوى الشعبية والشبابية، وتعبر عن الإرادة الثورية، والثانية تضم المهنيين والخبراء وتعبر عن القوى المهنية والإرادة المعرفية، مما يحث نقلة نوعية في العمل البرلماني ويسهم في إنجاح هذه الفترة الإنتقالية الصعبة.
    6.     بما أن الظروف الأمنية والتعقيدات الجيوبوليتيكية المحيطة بالدولة تجعل من غير الممكن إدارة الفترة الانتقالية دون شراكة بين القوى المدنية والعسكرية، وحتى نغلق الباب أمام المحاولات المتعددة لنسف الشراكة المدنية العسكرية وإحداث فراغ دستوري، وحتى لا نترك ثغرة لتمدد الأجندات التي تحاول النفاذ عبر هذا الجانب، ومن ثم إفشال الفترة الانتقالية،  وبما أن التأسيس للدولة المدنية يحتاح لعقل استراتيجي شامل، يجب تشكيل مجلس سيادي من أحد عشر عضواً برئاسة مدنية، من خبراء ومهنيين وطنيين مشهود لهم بالكفاءة والخلق الكريم، في مجالات قوى الدولة الشاملة السبعة (بحسب نظريات الاستراتيجبة). و يضم خمسة من العسكريين والأمنيين بجانب ستة من المدنيين يمثلون أقاليم السودان المختلفة ويمثلون في ذات الوقت المجالات السياسية، العلاقات الخارجية، الاقتصادية، الاجتماعية الثقافية، العسكرية، العلوم والتقانة، الاعلام والاتصالات وتقانة المعلومات.. مع تشكيل حكومة كفاءات مستقلة .
    7.     طالما أن استقرار السودان هو مدخل لاستقرار إقليمي يمهد لشراكة دولية واسعة، وطالما أن تحقيق ذلك يتطلب احترام إرادة الشعوب والانطلاق على قاعدة مشاعر موحدة، وطالما أن العالم بات على قناعة أن تنامي الهجرة والعنف والتطرف، كان بسبب التخلف التنموي والظلم وتخطي إرادة الشعوب، فيتوجب علينا بموجب ذلك، وفي إطار التحولات في التوازنات الاستراتيجية على الساحة الدولية والإقليمية، السعي الجاد لتأسيس شراكة إقليمية ودولية وفق هذه الفلسفة مع .تبني مبدأ تكامل الإرادات بدلاً عن صراعها، بما يؤسس لتحويل السودان ليصبح القلب النابض لهذه الشراكة الإقليمية ومنبعاً للسلام المستدام والاستقرار.
    8.     بناء وتطوير أوعية وتنظيمات سياسية عصرية  تقوم على أسس المعرفة والإبداع والمؤسسية والممارسة السياسية  والديمقراطية الراشدة،حتى  نستطيع التعامل مع التطورات والتعقيدات العصرية المتسارعة المتعلقة بإدارة الدولة داخلياً وخارجياًً، وحتى نستطيع  كذلك مواكبة الوعي المتنامي للشباب والشعب السوداني.
    9.     عدم اقحام أي أجندات تحتاج للتفويض الشعبي خلال الفترة الانتقالية منعاً لتوتر المسرح الوطني وحفظاً للإرادة الوطنية ولاستقرار القترة الانتقالية، على أن يجيب الحوار السوداني على كافة القضايا الاستراتيجية لتجاز لاحقا من الشعب.
  7. تنظيم إنتخابات حرة نزيهة لنقل السلطة في نهاية الفترة الانتقالية وتنظيم الاستفتاء على الرؤية السودانية.
  8. ونحن نعيش في عصر المعرفة والابتكار والذكاء الصناعي والتنافس الدولي المستمر، فإنه يتوجب علينا بذات المنهج الذي يعطي الطبيب الحق في فتح بطن المريض لللجراحة بموجب رخصة الطب، والمهندس في البناء بموجب رخصة الهندسة، إلخ، أن نستحدث الرخصة المهنية لقيادة الدولة لمن يتولى الوظائف العليا فيها، لتشمل المهارات والمعارف المطلوبة لإدارة الدولة، مثل علوم الاستراتيجية والإدارة  والأمن القومي والعلوم السياسية وعلم الاجتماع  والعلاقات الدولية والجيوبوليتيكس والاقتصاد والقانون وإدارة الأزمة والإدارة بالأزمة ..
    التضحية المطلوبة من الفاعلين السياسيين :
    إذا كان هناك من ضحى بروحه من أجل الوطن، فإن ( مجرد التوقف ) عن تمرير الأجندات الشخصية والحزبية والمحاصصات واللهث خلف كراسي السلطة، والسماح  للعبور بتفكير ومنهج جديد نحو المستقبل، سيكون هو (التضحية المطلوبة) الآن من الفاعلين في الساحة السياسية.
     
     
    أستاذ التخطيط الاستراتيجي والأمن القومي  ..
      30 نوفمبر 2021“`

اترك رد

error: Content is protected !!