الرأي

دارفور  جُرْح السودان الغائر: ثم ماذا بعد إتفاقية جوبا للسلام

د. أحمد عبدالباقي

مفجع أن تكتسي بعض أرجاء الوطن بلون الدم القاني ويستحر  القتل في وطن خزله الساسة  حتي أضحي الموت  ظلما سمة لأهله، فمن لم يمت بالصراعات القبلية مات بالمظاهرات أو مات بطيئا بسوء الأحوال المعيشية و رداءة الخدمات الطبية.حتي متي تندمل جِراح الوطن الغائرة التي ظل علاجها عصي علي النخب السياسية بفشلها منذ الإستقلال وحتي تاريخه الذي أشتد فيه نزيف صراع دارفور ممتدا  لأكثر من أربعة عقود فشلت جهود السلام في علاجه بصورة جذرية.

*الصراع في دارفور:*
الصراع نوعان أحدهما صراع سلمي وهو الذي تتحقق فيه المصالح والمطالب المتعارضة باستخدام آليات الدستور والقوانين ونظام التحاكم والأحكام الدينية والأعراف والتقاليد، أما النوع الآخر فهو الصراع العنيف و يقع عندما تتخلي الأطراف عن الوسائل السلمية وتحاول السيطرة أو تدمير قدرات المخالف لها من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الخاصة. هذا النوع الأخير يمثله صراع دارفور الذي بدأ في ثمانينات القرن الماضي مرورا بأول صراع قبلي بين الفور والعرب في 1987م ثم ازداد العنف  بعد أن أعلنت حركتا “تحرير السودان” و”العدل والمساواة” تمردهما على حكومة الإنقاذ في عام 2003م  واتهمتاها بتهميش الإقليم الذي أصبح مسرحا لحرب دامية قُتل فيها –حسب تقارير  الأمم المتحدة في عام 2008م -نحو 300 ألف قتيل ونزح  2.5 مليون شخص ليظل عدم الأستقرار سمة ملازمة للإقليم حتي تاريخ يومنا هذا.

*إتفاقية سلام جوبا في الفترة الإنتقالية:*
سبق اتفاق جوبا (2000م) اتفاقيتي ابوجا (2006م) و الدوحة (2011م) للسلام في عهد حكومة الإنقاذ ولم تفلح ثلاثتها في تحقيق سلام دائم، رغم مشاركة منظمات إقليمة مثل الاتحاد الإفريقي، منظمة الإيقاد وجامعة الدول العربية وبحراسة من قوات حفظ سلام من البعثة المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) التي أنشأها مجلس الأمن الدولي بالقرار رقم 1769 في عام 2007م تحت الفصل السابع (تتكون البعثة بأكثر من 26 ألف شخص: عسكريين، شرطة ومدنيين ومستشارين) وبلغت ميزانيتها بلايين الدولارات، ففي عام 2016-2017 وحده بلغت ميزانيها أكثر من بليون دولار. أنتهي تفويض اليوناميد في 31 ديسمبر 2020م لتحل محلها حاليا بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للدعم الانتقالي في السودان (يونيتامس) التي كُونت بموجب الفصل السادس  من ميثاق الأمم المتحدة.

لم يتعظ من وقعوا علي سلام جوبا من عِبر المفاوضات السابقة ودروسها وجلسوا للتفاوض في عجالة و نسوا أنهم في حكومة واحدة و تفاوضوا علي أساس حكومة ومعارضة ثم خرجوا باتفاقية مليئة بالثقوب، منها علي سبيل المثال فيما يتعلق بدارفور:
(أ)التحديات المالية التي تغطي نفقات دمج وتسريح قوات حركات الكفاح المسلح وتكوين قوة حفظ أمن جديدة في دارفور قوامها 12 ألف فرد (6 آلاف من القوات المسلحة، الدعم السريع والمخابرات العامة و 6 آلاف من قوات حركات الكفاح)، علاوة علي إلتزام الحكومة بدفع 750 مليون دولار سنويا لمدة عشر سنوات لصندوق دعم السلام والتنمية المستدامة في دارفور ،المادة 29.6 ، الفصل 2). أين للحكومة بهذه المبالغ وهي تعجز عن توفير  الاحتياجات الضرورية (غذاء ودواء) و خدمات حيوية (كهرباء وماء) للبلاد، ورغم وعود المجتمع الدولي والإقليمي و دول الترويكا إلا أن الأيام أثبتت أن المتغطي بهؤلاء عُريان.
(ب) نص اتفاق القضايا القومية في المادة 1.7 ( تحت عنوان المبادئ العامة على:”الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع  الأديان وكريم المعتقدات على أن يُضمن ذلك في  دستور البلاد وقوانينها”. هذا النص قنبلة مؤقتة فكيف يمكن تطبيقه في دارفور أرض القرآن التي كانت ترسل كسوة الكعبة و تُطعم قوافل الحجيج وهي مهد لسلطنة إسلامية استمرت حوالي 430 عاما حتي ضمها الإستخراب الإنجليزي للسودان في عام 1916م بعد أن أعلن سلطانها تعاطفة مع الدولة العثمانية ضد الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية. كيف يُطبق هذا النص علي مجتمع مسلم مقارنة مع مطالب جنوب كردفان والنيل الأزرق التي تنادي بفصل الدين عن الدولة.
(ج) رفضت حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور العملية برمتها ودعت بدلا من ذلك إلى عقد مؤتمر وطنى جامع. تمتلك هذه الحركة قوة على الأرض فى دارفور، وتسيطر على بعض مناطق جبل مرة. كما يعارض الاتفاق بعض الحركات المسلحة الأقل قوة و بعض منظمات المجتمع المدنى مما يجعل هذه المجموعات خميرة عكننة في طريق تنفيذ الإتفاق.

*مقترحات يمكن أن تخفف من وطأة الأزمة:*
تشجيع ونشر ثقافة السلم الاجتماعي في دارفور و تطبيق مفهوم الأمن المجتمعي (ظهر المصطلح عقب فترة الحرب الباردة  1945-1989م وتبنته مدرسة كوبنهاجن في 1991م). الأمن المجتمعي ليس موضوعه الدولة (الأمن القومي) فقط، ولا  الفرد (الأمن الإنساني) فقط، لكنه یركز بشكل أساسي على المجتمع كركیزة للأمن من حيث التعاطي مع قضايا *غير عسكرية* بحلول *غير عسكرية*.  بإسقاط مفهوم الأمن المجتمعي علي الصراع القبلي في دارفور ، نجد مثلا أن بعض جذور  الصراعات في الإقليم لم تكن عسكرية المنشأ بل كانت حول الماء والزراعة والمرعي و هجرة بعض أفراد القبائل المشتركة من دول الجوار مثل تشاد  إلي الإقليم، ليزداد  التنافس حول هذه المورد التي تأثرت بالتغيرات المناخية و الجفاف والتحصر فضاقت المواعين.، لكن المسالة لم تجد حظها من الحلول سوي العسكرية إلي أن تحول التدافع  إلي صراع مسلح بفعل عوامل أخري منها تبني شعارات  قضايا التهميش والتنمية التي رفعتها الحركات المسلحة حينها علي الرغم من أن الوقائع علي الأرض تدل أن تلك الشعارات تشابه “قميص عثمان” ، فما أن توقع تلك الحركات اتفاق مع الحكومة و إلا يصبح همها الكسب الشخصي والإمتيازات ولا تهتم كثيرا بقضايا أصحاب المصلحة الذين هم معنيين  بهذه الشعارات. وعلي ذات المنوال تري نظرية الأمن المجتمعي ضرورة البعد عن الأمنَنَة (securitization)  التي تعني تحويل المشاكل إلى قضايا أمنية من خلال إضفاء الطابع الأمني عليها، و بالتالي أستخدام إجراءات استثنائية  (مثل حالة الطوارئ) للتعاطي مع حل تلك المشكلة.
لابد من أن يتبني مخططي البرامج والمسؤولين عن تنفيذ السلام  تشخيصا سليما  لبيئة “ما بعد الصراع” (post conflict strategy) المناسبة مع اتخاذ طريقة  التنفيذ المرن والاستباقي، والرصد والتقييم لتحقيق نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج “الناجح”.هنالك الكثير من الممارسات والمؤلفات تُعني ببيئة “ما بعد الصراع “ظهرت في الـ 20 عاما الماضية والتي يمكن اختيار انسبها للاستعانة به، لكن “يا ساعي أوين الراعي” كما يسير المثل السوداني.

*همسة*
تحتاج دارفور لسلام دائم مبني علي التعاون والاتصال بين أصحاب المصلحة  وبإدارك عالي لتحقيق مصالحهم المتعارضة في ظل إعطاء قيمة أكبر لعلاقاتهم العامة أكثر من التركيز علي مصالحهم الخاصة، علي أن يسعي كل طرف لتحقيق مصالحه من خلال آليات سلمية ومؤسسية دون اللجوء إلي العنف. مثل هذا السلام يستوجب تعاون حركات الكفاح المسلحة مع بعضها بعضا و دعم الحكومة المركزية التي طالت غيابها.

اترك رد

error: Content is protected !!