الرأي

حكومة إنتاج وعقل استراتيجي



                         
بعد عقود طويلة من الزمان يبدو جلياً أن العالم بات أخيراً في حاجة لأراضي السودان الزراعية، فالتطورات على الساحة الدولية المتمثل أهمها في خروج مساحات واسعة من أراضي الاتحاد الأوربي بسبب الشيخوخة الناجمة عن تطبيق السياسة المعرفة بالـ ( monoculture )، وبالتالي حدوث نقص كبير في الإنتاج الغذائي، يضاف لذلك الجفاف الذي ضرب 12 دولة من الدول الرئيسية في إنتاج الغذاء، وأخيراً الحرب الأوكرانية، كل ذلك في ظل زيادة كبيرة لسكان الكوكب، الشئ الذي خلق أزمة عالمية حقيقية بدأت مؤشراتها تظهر في إعلان كثير من الدول لوقف صادراتها من الغذاء وتطبيق استراتجيات لتخزين الغذاء، ودعوة الرئيس الأمريكي بايدن للمؤتمر العالمي حول الأمن الغذائي، ليصبح الغذاء قوة من قوى الدولة وسلاح رئيس لها وسيشهد العالم قريباً جداً دبلوماسية الغذاء .
على هذه الخلفية سبق وكتبت مقال وقدمت عدة محاضرات ذكرت فيها أن السودان بموارده الطبيعية ومزاياه الجغرافية مقروناً مع الفرص الضخمة التي تلوح في الافق القريب والتوازن الاستراتيجي الدولي الذي بدأ يتشكل، يمكن أن يعطي السودان وضع جيوسياسي اقتصادي استراتيجي ويجعل منه قوة غذائية عالمية، ويؤسس لفرصة كبيرة جداً للقفز بالزانة وتعويض سنوات الفشل وإحداث اختراق كبير للخروج من الأزمة الوطنية نحو المستقبل الزاهي.
نشهد كل هذه التطورات والفرص التاريخية ونرى تسارع الدول لتطوير استراتيجياتها حول هذا الأمر، بينما لا زال السودان دون رؤية حول هذا الموضوع ولا زال الهم السياسي في وادي آخر حيث لا زالت الساحة السياسية تشهد ذلك الضجيج وإهدار الزمن في الخلافات البيزنطية والتخوين والتشاكس غير المجدي، ولا زال البعض يطمع في سرقة الثورة والحديث باسمها، ولا زال الهم السياسي في ذات الاهتمامات التقليدية والمصالح الضيقة دون فكر عملي يخرج السودان من كبوته  في وقت يعيش فيه المواطن حالات صعبة من ارتفاع غير مسبوق للأسعار وتردي للخدمات والمعيشة.
الأمر لا يحتاج لكل هذا الضجيج، نحن فقط في حاجة لتغيير طريقة التفكير، لا  نحتاج أكثر من تشكيل حكومة إنتاج تلتزم ببرنامج  وطني محايد خالي من الميول الحزبية، تتشكل من خبراء وطنيين يرأسها رئيس وزراء عملي جداً يرتدي بنطلون حينز وقميص نص كم، يكون له مكاتب في مناطق الإنتاج في القضارف والدالي والمزمزم وأم روابة ونيالا ومؤسسة جبال النوبة الزراعية وبركات ومناطق التعدين في جبل عامر وأبوحمد وجنوب كردفان وفي الغرفة الصناعية وغرفة الصادرات وهيئة الموانئ البحرية ببورتسوان، يساعده بذات المواصفات وزراء مبدعين منتجين تتم محاسبتهم بالإنتاج لا بالخطب الرنانة والتقارير الفضفاضة، كذا طن حبوب وكذا ميقاوات كهرباء وكذا متر مكعب مياه إلخ، مع تأسيس فريق عمل استراتيجي يعمل تحت مظلة صلاحيات رئيس الوزراء، يتسم بالديناميكية والحيوية تكون مهمته إنجاز الأهداف المحددة في الوقت المحدد بالجودة المحددة، ومن ثم تلافي كل سلبيات وعقبات البيروقراطية وسد ثغرات الفساد العديدة، يسند ذلك بحشد خبراء السودان وتفعيل وتطوير العقل الاستراتيجي للدولة وتأمين مركز صناعة القرار الاستراتيجي مع تعزيز النظام المؤسسي وتطبيق الحوكمة وتأسيس آلية النزاهة ومكافحة الفساد، حتى نقغل ثغرات تمدد المصالح الضيقة التي عطلت السودان كثيراً وألحقت به الضرر البليغ.
تعمل الحكومة لتحقيق الأهداف الأساسية التالية ولا تحيد عنها :
الهدف الأول: يتمثل في حشد طاقة البلد وتوجيهها لإنتاج كميات استراتيجية ضخمة من القمح والذرة والدخن والبذور الزيتية واللحوم والخضروات ومنتجات الألبان، تتبع هذا الهدف بعض المهام الفرعية، أهمها:
§       توفير التمويل وتنويع وتوسيع مواعينه، والتقاوي والسماد والمبيدات والتركتورات والحاصدات والغرابيل وصوامع الغلال والوقود والخيش، مع توجيه كل مال التدريب للمنتجين وتأهيل الموانئ وقرى الصادرات في مطار الخرطوم وبورتسودان ونيالا والابيض بما يضمن عبور الصادرات نحو الأسواق العالمية والإقليمية.
§        توفير المناخ والسياسات والتشريعات المحفزة للإنتاح والصادر بما في ذلك تبني فلسفة مالية  تعالج الوضع المختل حالياً الناجم عن غياب الرؤية والمتمثل في ارتفاع وازدواجية وتكرار الرسوم في كل مستويات الحكم المختلفة، وإحلال سياسة متوازنة تشجع الإنتاج وتحقق المزايا التنافسية وتؤسس في ذات الوقت لزيادة دخل الحكومة وتوفير فرص العمل، وذلك من خلال العمل بمبدأ زيادة الدخل وتوفير فرص العمل عبر زيادة الإنتاج وخقض النسبة المئوية والتي تقوم على فرضية أن ( 5 ) % أفضل من ( 50 ) % ، علماً بأن الفجوة الغذائية العالمية تضع فرصة سانحة للسودان لتبني هذه الفرضية باستهداف كميات كبيرة من السلع، وكسر الدائرة الخبيثة وتوفير ملايين من فرص العمل نتيجة الإنتاج الزراعي الضخم،( 5% من 20 مليار أفضل من 50% من مليار ) وهو عكس السياسة الحالية التي تزيد الرسوم فتؤدي زيادة مؤقتة للإيرادات مع خفض الإنتاج ومن ثم تشريد عمال.
§       حشد وتشجيع وتوجيه المال السوداني وغيره، نحو برامج إنتاجية متكاملة من خلال تأسيس الصناديق وشركات المساهمة العامة والجمعيات الإنتاجية.
§       صيانة البنى التحتية المتعلقة بالإنتاج من طرق وسكة حديد ونظم ري، وخطوط أنابيب ومخازن.
§       زيادة الطاقة الاستيعابية لأوعية الصادر وتشجيع الاستثمار في توليد الكهرباء.
§       يتزامن مع ذلك إدارة موراد السودان في للذهب والطاقة والمعادن الصناعية بجانب الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر،وفقاً لرؤية استراتيجية تتيح للسودان استخدامها في إدارة تبادل استراتيجي دولي للمصالح.
§       كما أن التوجه الاستراتيحي الجاد نحو إنتاج الغذاء في ظل الأوضاع الدولية التي اشرت لها، ستعزز من القدرات التفاوضية للدولة في حوارها الخارجي، وتمكِن من تلافي كل الملفات التي يحاول أن يستخدمها البعض لابتزاز السودان، نحو حوار استراتيجي دولي لتبادل المصالح بإرادتنا يؤسي لتعاون دولي يحول السودان لمنصة شراكة دولية لإدارة تبادل استراتيجي مع العالم أساسه الموارد الطبيعية والموقع الجيوستراتيجي تكون قضية الديون والعقوبات جزء منه، فضلاً عن توفير التقانة والتمويل والسند السياسي، بدلاً عن هذا الاستسلام الناجم عن غياب الرؤية وتردي الأوضاع الداخلية.
الهدف الثاني : 
§       ضبط المسرح وتهيئة المشاعر الوطنية وإعادة الأمل للنفوس وزراعة التحدي بممارسة سلوم وفعل سياسي راشد يعلي الوطن ومصالحه، يعزز كرامة الإنسان، يمارس الحكم الراشد من نزاهة وشفافية ومساءلة ومنح الحقوق وفق الهوية والكفاءة دون اعتبار لأي إنتماءات اخرى سياسية او قبلية او جهوية ( سوداني مؤهل وبس)، ممارسة سياسية تُعلى المهنية بدل هذا التمدد غير الموزون للسياسة، فالمواطن لا يفرز إن كانت محطة الكهرباء أو مصفى النفط أو مصنع السكر أو صوامع الغلال، هي مشروعات اتحادي ديمقراطي أم كيزانية أم حزب أمة أم يسارية ولا يهمه قبيلة من نفذها، هل دنقلاوي أم رزيقي، أسود أم أبيض .
§       ضبط المال العام والسيطرة على الإيرادات.
§       معالجة الاختلالات في خدمات التعليم والصحة وتحقيق الاستقرار للعملية التعليمية.
§       تحسين وتحقيق الاستقرار للخدمات العامة
§       تحسين وتحقيق الاستقرار للخدمات العامة (الكهرباء، مياه الشرب، المواصلات)
الهدف الثالث : تنظيم مؤتمر التلاقي الوطني:
 وهو مؤتمر معنى فقط بالترتيبات الانتقالية. والتي تشمل مهام الفترة الانتقالية وأجهزة الحكم خلالها، وتهيئة وضبط المسرح الوطني تمهيداً للانتقال الديمقراطي.
الهدف الرابع: تنظيم  الحوار السوداني:
وهوحوار يمكن أن يمتد طوال الفترة الإتتقالية، ويُعنى بترتيبات التأسيس لصناعة المستقبل السوداني الذي يعبر عن إرادة كل السودانين بتنوعهم، وكسر الحلقة الخبيثة التي ظلت تدور منذ الاستقلال( حكم مدني، عسكري، انتقالية ..)، وذلك من خلال إنتاج الرؤية الاستراتيجية الوطنية التي تشمل الفلسفة والمصالح والغايات ومنظومة القيم الوطنية ونظام الحكم، والتي سيجيزها البرلمان المنتخب.
الهدف الرابع : مؤتمر التسامح والمصالحة الوطنية والإنصاف:
وُيعنى بالتطبيع بين السودانيين من خلال تحقيق المصالحة الوطنية، فمن المعروف أن السودان كشأن كثير من الدول التي عانت من إشكالات ما بعدالاستقلال مثل جنوب إفريقيا ورواند، يحتاج في إنطلاقه نحو المستقبل إلى فتح صفحة جديدة توجه الاهتمام نحو المستقبل.
الهدف الخامس : المؤتمر القومي الدستوري:
 ويعنى بإنتاج مسودة الدستور الذي يؤسس ويحمي الرؤية الوطنية التي يتوصل إليها عبر مؤتمر الحوار السوداني، ويؤسس المسار الوطني نحو المستقبل، فضلاً عن التأسيس لمخرجات مؤتمر المصالحة الوطنية والإنصاف .
الهدف الخامس : تنظيم الانتخابات
إدارة عملية الانتقال الديمقراطي من خلال عمل المسح الإحصائي وتهيئة المناخ للانتخابات .
هذه روشتة غاية في البساطة لا تحتاج لكل هذا الضجيج والزمن الضائع، هي روشتة لا تحتاج لتضحيات ولا بذل أرواح بريئة ولا دماء، تحتاج فقط لأن نتوقف عن النفاق السياسي لنُعلي الوطن فوق الأجندات الضيقة ونرتفع لمستوى المسئولية، وليذهب الجميع للاستعداد للحصول على تفويض الشعب السوداني عبر الانتخابات الحرة النزيهة.
 
أستاذ التخطيط الاستراتيجي

اترك رد

error: Content is protected !!