إستنارة / العبيد أحمد مروح الرأي

حال الإعلام في السودان .. تقدم إلى الخلف !!

    ✍️ العبيد أحمد مروح 

 

         -1- 

    في الثالث من مايو الماضي، احتفل العالم بمناسبة مرور ثلاثين عاما على إعلان ويندهوك (عاصمة ناميبيا) الذي وضعه الصحفيون الأفارقة واعتمدوه في ذات التاريخ عام 1991م وضمنوه مبادئ حرية الصحافة، والذي صار فيما بعد مناسبة دولية هي “اليوم العالمي لحرية الصحافة”، وكان شعار هذا العام هو “المعلومات كمنفعة عامة”، تعزيزا لمبدأ (حق الناس في المعرفة) والذي منه تولد حق الصحفيين في الحصول على المعلومات، باعتبارهم أداة الناس في الحصول على حقهم في تلقي وتداول المعلومات. 

   وعلى الرغم من أن السودان شهد تغييرا ضخما في أبريل 2019م كان محل إشادة العالم واحتفائه، وكانت “الحرية” أحد أبرز شعاراته، إلا أن ترتيب السودان في مجال حرية الصحافة، بعد مضي نحو عامين من ذلك التغيير، وبحسب التقرير السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود للعام 2021، لم يشهد تقدما ذا بال، إذ جاء في الدرجة رقم (159) عالميا والدرجة رقم (13) على مستوى العالم العربي، وقد تقدمت عليه في الترتيب عدد من الأنظمة العربية ذات الحكم الوراثي وأخرى مصنفة شمولية. الأمر الذي يطرح علامة استفهام كبيرة حول مدى جدية السلطة الانتقالية في تعزيز الحريات العامة وحرية التعبير، وذلك بين يدي التحول الديمقراطي المنشود والذي كان من المفترض أن يشكل عماد الجهد السياسي المبذول خلال الفترة الانتقالية وسداته.

     -2- 

    لقد كان بإمكان السلطة الحاكمة اليوم أن تنطلق من ذلك الاحتفاء، ومن توق الشعب السوداني لممارسة حقه في الحريات الكاملة، فتشرع فورا في مسيرة التحول الديقراطي والإصلاح الدستوري والقانوني، لكل المؤسسات التي تعمل في مجال الحقوق والحريات العامة وعلى رأسها أجهزة ومؤسسات الإعلام، وتقدم لها الدعم الذي يمكنها من النهوض بدورها، لكنها – ربما مكايدة للنظام السابق – رأت أن تتبع نهج “التغيير الثوري”، وكانت أولى ضحايا هذا الفعل غير الراشد هي مؤسسات الإعلام، العامة منها أو الخاصة، ففضلا عما لحق بها من ضرر مباشر لبنياتها ولمنسوبيها في “عهد الثورة”، ضاقت إلى حد التلاشي فرصة وجود بيئة سياسية تتسع فيها دائرة الحوار والحريات، وأضحى المناخ العام مشحونا بشعارات التطهير الثوري والفصل التعسفي والعزل السياسي، وانعدمت منابر الحوار الجدي حول قضايا الوطن الكبرى والتي كان من شأنها أن تمكن أجهزة الإعلام من القيام بدورها في إتاحة حق المعرفة والمشاركة للناس.

  وأفرغت تلك الشعارات والأفعال “الثورية” الجوفاء، الجهد الإصلاحي الذي ابتدرته وزارة الثقافة والإعلام في عهد وزيرها السابق، فيصل محمد صالح، متمثلا في تقرير “مؤشرات أوضاع الإعلام في السودان” والذي أعده مكتب اليونسكو في السودان، وكذلك عمل اللجنة التي شكلها الوزير لوضع سياسات جديدة للإعلام وإصلاح شأنه على ضوء ذلك التقرير. فعلى الرغم من الملاحظات الجوهرية على تشكيل تلك اللجنة، من حيث شمولها لكل أهل الشأن في الطيف الإعلامي والسياسي الواسع، إلا أنها شكلت فرصة لعمل يمكن البناء عليه أفسدته تلك “الفورة الثورية” وأفرغته من محتواه، فبقيت أوضاع مؤسسات الإعلام العمومي في تراجع مستمر، وإن شئنا الدقة فهي الآن تنتظر الموت الرحيم، وتركت الإعلام الخاص وشأنه يواجه مصيره المحتوم، بلا مؤسسات ناظمة تدافع عن حقوق منسوبيه، ولا رعاية مستبصرة من الدولة لشؤونه. 

      -3- 

   أن تكون “المعلومات منفعة عامة” ليست شعارا يرفع للاحتفال به وكفى، وإنما هي شعار ينبغي تكريسه للعمل طوال عام كامل، تتم خلاله مراجعة قدرة مؤسسات الإعلام للوفاء بواجبها في تمكين الناس من حقهم في معرفة الأفعال والقرارات التي تقوم بها السلطة التنفيذية وخاصة كل ما يتصل منها بحياتهم ويؤثر فيها. وبطبيعة الحال ليس بوسع الإعلام أن ينهض بهذا الواجب تجاه الناس على الوجه المطلوب ما لم تنهض الدولة بواجبها نحوه، سواء على مستوى المؤسسات أو العاملين فيها.

  سيكون الحديث عن “حرية الإعلام” في ظل وجود مؤسسات عمومية تتم إدارة وإنتاج المحتوى فيها بعقلية السبعينيات (عقلية زمن الدعاية السوفيتية، وأنظمة القومية العربية الشمولية) ضربا من الهزل في موضع الجد. فمؤسسات مثل الإذاعة والتلفزيون ووكالة السودان للأنباء كانت بحاجة ملحة إلى حوكمتها وهيكلتها وأتمتتها، في إطار خطة إسعافية تعالج مشكلاتها الراهنة وتعينها على التقدم في أداء دورها المهني، وتلحقها بركب إعلام القرن الحادي والعشرين، وتعتني بالكوادر البشرية العاملة فيها لجهة حسن توظيف ذوي القدرات منهم تطوير قدرات الكوادر الشبابية فيها، والإحسان إلى من أفنوا زهرة شبابهم في دهاليزها وحفظ حقوقهم وكرامتهم.

   أما مؤسسات الإعلام الخاص، صحفا كانت أو إذاعات أو تلفزيونات، فهي ليست بأحسن حال من رفيقاتها. فقد تعرضت مؤسسات صحفية نشأت قبل أن ينال السودان استقلاله بعشر سنوات إلى الإغلاق والمصادرة، وتعرضت أخرى للتعطيل، وحرمت غالبية الصحف التي كانت تصدر في عهد النظام السابق من الإعلان الحكومي ومن مشاركة ناشريها ورؤساء تحريرها في الشأن العام وأنشطة الحكومة بما في ذلك المؤتمرات الصحفية. ولم تجد الإذاعات والتلفزيونات الخاصة الدعم المتوقع من الدولة خاصة فيما يتصل باشتراكاتها في أقمار البث وتسهيل دفع التزاماتها بالعملة الحرة، وعانت – مثل الصحف – من مصادرة بعضها وحرمان البعض الآخرمن المشاركة الفاعلة في الشأن العام. ولم تعجز الحكومة من العثور على تبريرات لذلك، فكان وباء الكرونا جاهزا. 

  لقد زاد من بلة الطين فشل منظومة الحكم الانتقالي، بمكوناتها المختلفة – حتى الآن – في الاتفاق على تعيين أعضاء البرلمان، والسماح بتشكيل المجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للنيابة والمحكمة الدستورية. وفشلت كذلك في الاعتراف بخطئها في حل الأجسام النقابية التي تمثل الصحفيين والمعترف بها دوليا ؟ فكيف، والحال هكذا، يمكننا القول أننا ننعم بمناخ من الحرية والعدالة، بل كيف نستطيع الجزم بأن حكامنا اليوم هم من المؤمنين قولا وعملا بتجسيد أحد أبرز الشعارات التي رفعتها الجماهيرالتي خرجت على النظام السابق. إن أي حديث عن الإيمان بالحرية والعدالة من دون مؤسسات تحرسها – حتى لو كانت مؤسسات معينة – يكون ضربا من تغبيش الوعي !!

    -4- 

  والحقيقة أن مناصري السلطة القائمة من السياسيين وممثلي القوى المدنية، ومن الإعلاميين أيضا، وفي غمرة حماسهم للدفاع عن سلوك ومواقف السلطة بجناحيها المدني والعسكري من قضية تمكين مؤسسات الإعلام من النهوض بواجبها، يقعون في خطأ كبير حين يقارنون الانتهاكات التي حدثت وتحدث الآن في مجال الحريات العامة وحرية الصحافة وحق الصحفيين في الحصول على المعلومات ونشرها، والتراجع الذي تشهده أوضاع مؤسسات الإعلام العامة والخاصة، حين يقارنون ذلك بما كان عليه الوضع أيام حكم النظام السابق، وهي مقارنة – بغض النظر أنها لصالح من – تنسى أو تتناسى أن القياس لا يجب أن يكون بالوضع الذي خرج الناس إلى الشوارع لتغييره، وإنما بما يتطلع إليه الناس وأهل الإعلام ويرغبون في أن يروه واقعا يعيشونه.

   يختلف الناس أو يتفقوا مع تجربة النظام السابق، لكنها بالقطع لم تكن كلها إيجابية في مجال الحريات الصحفية، كما أنها لم تكن كلها سلبية كما يحاول أن يصورها خصومها، وبقدر ما كانت فيها من إخفاقات فقد حملت أيضا إشراقات أكثر لا يسمح المجال هنا لسردها، ولمن أراد أن يختبر هذا القول فدونه أرشيف الصحف في دار الوثائق القومية والتي كانت تصدر حتى أيام النظام الأخيرة، كما له أيضا أن يطلع على أرشيف أعمال المجلس القومي للصحافة، وعلى أن يشاهد ويستمع إلى محتوى “مخدمات” التلفزيون والاذاعة ، وأن يراجع الجريدة الرسمية لجمهورية السودان فيطلع على القوانين التي كانت تنظم عمل الصحافة والاعلام، وعلى الدستور الانتقالي للعام 2005، آخر دستور كان يحكم السودان، وعلى وثيقة الحريات الأساسية التي تضمنها، والتي كان يمكن أن تشكل أساسا لأي تطور تشريعي محترم لولا اللوثة الثورية التي عانت منها سلطات الانتقال وما تزال !!

   -5- 

  إن إحدى القضايا شديدة الارتباط بقضية الحرية وحق المعرفة في سودان اليوم هي قضية الحوار بين الفرقاء السياسيين، أي الذين يحملون وجهات نظر مختلفة وربما متعارضة حول القضايا الوطنية الكبرى. ولعله لا يختلف مراقبان لوضعنا الحالي حول انعدام فرص الحوار بين شركاء الفترة الانتقالية وبين الآخرين المخالفين لهم في الرأي، بمن في ذلك أنصار النظام السابق، بل لعله يجوز القطع بأن الحوار حتى داخل هذه المنظومة نفسها (المكون العسكري والمكون المدني والحاضنة السياسية وشركاء السلام) يكاد يكون معدوما أو هو يدور في العتمة، ولعل أبرز الدلائل على ذلك هو خروج كل طرف من هذه الأطراف إلى الرأي العام، بين الفينة والأخرى، بإفادة مقتضبة حول قضية رئيسية ما، كلما تأزم الوضع بينه وبين شركائه الآخرين بشأن تلك القضية (الترتيبات الأمنية نموذجا)، في حين يظل الرأي العام، ومؤسسات الإعلام، مغيبين تماما عن خلفيات ذلك الخلاف وحيثيات كل طرف من أطرافه.

  صحيح أن البيئة السياسية العامة في السودان الآن لم تعد تصلح لحوار بناء في أي مجال كان، لكن ذلك لا ينبغي أن يقف أمام المجتمع الصحفي والإعلامي في السودان أن يخرج من عباءة التشرذم والتحزب السياسي ومن ظل السلطة التنفيذية العاجزة ويتصدى لشأنه ويتولى زمام أمره، فيطرح مبادراته الذاتية ويعبد الطريق للإسهام في مسيرة التغيير والتحول الديمقراطي والبناء الوطني، ويضع بذلك السلطة الحاكمة أمام مسؤوليتها التاريخية. وهذا بتقديري هو الخيار الذي بقي، والسبيل الوحيد المتاح في ظل التراجع الكبير لدور السلطة السياسية والوزارة المعنية، وتغييب المجلس القومي للصحافة ووغلأجسام النقابية وعلى رأسها اتحاد الصحفيين المنتخب. 

• كاتب صحفي ودبلوماسي سابق

اترك رد

error: Content is protected !!