
قبل سنواتٍ خلت كُنتُ أستمع لإذاعة ذاكرة الأمة ردَّ الله غربتها ، وكان المتحدث الهرم الشرطى والإعلامى ( الضخم) الفريق أول شرطة إبراهيم أحمد عبدالكريم وهو يحكى ذكرياته ومسيرة حياته .. وتحدث عن العقيد شرطة محمد الأمين البُشرى ( اللواء الدكتور والأستاذ بجامعة نايف لاحقاً) الذى إبتعثته رئاسة الشرطة لليابان لدراسة الماجستير فى القانون بجامعة طوكيو التى منحته الفرصة للدكتوراه مجاناً لنبوغه وتفوقه وإجادته للغة اليابانية إجادة أهلها الأمر الذى مكنه من أن يُصبح المترجم الأول للبعثات الدبلوماسية العربية فى البلاط الإمبراطورى بلا منازع ومكث فترة طويلة بناء على توسلات ورجاءات رؤساء تلك البعثات لرئاسة الشرطة لتُبقى عليه ، فأصبح سفيراً (فوق العادة) بعلمه وحلمه وأنموذجاً للمهاجر السودانى الذى يعكس موروثنا القِيَمى والأخلاقى الذى تميَّزنا به عن غيرنا ويحرص على ذلك .. وطافت بذاكرتى هذه الخاطرة وأنا أرى بعض الكائنات وقد تَسَيَّدَت المشهد و عَلَتْ أصواتها وإنتفخت أوداجها وهى تستحضر كبرياءً زائفاً ونضالاً مصطنعاً ، ومعلنةً الحرب على هذا الوطن المكلوم فى الكثير من أبنائه الذين إختزلوه فى المواقف السياسية البائسة (هذا إن أحسنَّا بها وبهم الظن) .. وكل ذلك من وراء البحار والمحيطات بسلاح التحريض والتهريج والتّّعَرِّى..!!
ورغم المأساة الحقيقية التى يعيشها السودانيون منذ أعوام من قتلٍ وتهجيرٍ قسرى وتجويعٍ مُتَعَمَّد ورَهقٍ إنسانى إرتسم فى الوجوه المُتعَبَة كخطَوط الكنتور حتى كاد الأمل أن يضيع وتضيع معه بوصلة الدروب الشائكة و ( كُلَّ الخطاوى المُمكِنة) ، وكادت أن تختفى وتضيع مِنَّا معالم الطريق تحت جنح الخُذلان والعقوق ممن أرادوا تحويل بلادنا بِقَضِّها وقَضيضِها إلى خردة تُلقى فى قارعة الطريق الإقليمية والدولية لتُباع فى سوق دقلو بالكيلو ..!! بئس الشارى وبئس المُشترى ..!! ورغم كل ذلك لم نجد موقفاً عربياً أو إفريقياً قويَّاً ومُذلذلاً وواضحاً تجاه الدويلة المجرمة سوى الكلام المُرسل من البضاعة البائرة والتصريحات المُعَلَّبة التى خبرناها وسئمناها ..!!
وهاهى ذكرى إستقلال البلاد تمر علينا بعد أيامٍ قلائل مُحَمَّلة بمعانى السيادة والكرامة وإن لم تكتمل الفرحة وتزدان اللوحة بعودة الأراضى المغتصبة إلى حضن الوطن .. بعد غيابٍ قسرى لعامين متتابعين حتى كادت أن تُصبح ذكرى منسية ..!! ولذلك لانريد إحتفالاتٍ رسمية حتى نأخذ بثأرنا ونقطع رأس الأفعى المُجلجلة ونُنهى هذه الحرب اللعينة ونُطفئُ جذوتها ..!!
فالإحتفال الحقيقى بالإستقلال الذى نريده بعد الحرب يجب أن لايكون بتعليق الزينات وترديد الأهازيج والأناشيد واليوم نرفع راية إستقلالنا ..!! بل فى تحويله من مشاهد إحتفالية تقليدية إلى واقع يلمسه المواطن فى أمنه وحياته وصحته وتعليم أبنائه وفى رفاهيته ككل الشعوب من حولنا .. وفى ترميم ما أحدثته الحرب بل ما أحدثناه بأنفسنا لأنفسنا من تمزيقٍ لأستار القِيَم النبيلة التى كانت تُميزنا عن غيرنا وتُغطى جميع سوءاتنا .. فما أقدم عليه البعض مِنَّا من تسميمٍ لبيئة التآخى المجتمعى والبساطة والحميمية بنهبهم لممتلكات إخوتهم وجيرانهم ولم يُراعوا فى ذلك الصنيع جِواراً ولا إخاءً وكانوا عاراً على الوطن وعالةً على الإنسانية ..!! وسيظل الناس ينظرون إليهم بعين الريبة وإن وقفوا معهم فى الصف الأول للصلاة القدم مع القدم والكتف مع الكتف ..!! وإن إنتصبت قاماتهم عند السلام الجمهوري .. وإن هتفوا فليحيا الوطن ..!!
والتحدي الحقيقى للدولة أيضاً وللمواطنين لتحقيق معانى هذه المناسبة العظيمة هو الإرتقاء لمستوى المسؤولية كُلٌّ فيما يليه .. فالجميع قد دفع الفاتورة الأخلاقية لهذه الحرب سوءًا فى التقدير وفى التدبير .. فالإحتفال الحقيقي هو كيف أن نُبدِل هذا الدمار عماراً ، وهذا الموت حياةً ، وذاك الحزن فرحاً.. وأن نُبدِلَ ِذلَّة المهاجر والملاجئ بِعزَّة الوطن ودفء العشيرة .. ولنعلَم جميعاً ( حُكاماً ومحكومين) أنَّ مستقبل هذا الوطن العظيم أمانةً إرتضيناها وإرتضينا حملها ، فلنتعاهد أن لا نُفَرِّط ثانيةً فى الأمن.. فهذه المفردة ذات الدلالة العميقة صار البحث عنها والعثور عليها ضرباً من المستحيل أوان الحرب وإشتدادها عندما قضت عليها المليشيا الإرهابية وعلى بنت خالتها مفردة السلام ومنعتهما من التداول بقوة السلاح .
نسأل الله أن تعود بلادنا أماناً وملاذاً كما كانت ، وحفظها وأهلها من كل سوء .. وكل عام وهى بألف خير .
✍🏾 لواء شرطة (م) :
د . إدريس عبدالله ليمان
السبت 27 ديسمبر 2025م



