على شط النيل / مكي المغربي

الحوار الثاني مع “تل أبيب”

مكي المغربي

بخصوص الحوار مع إسرائيل، أنا مقتنع أن الحوار أصلا لا يكون مع (المرايا) التي تشبهك وتردد كلامك، سيكون مع من تختلف معه أو تخاصمه، ولذلك فالمعيار الموضوعي الوحيد هو هل ستقول رأيك بوضوح أم لا؟ إذا توفر هذا، أنا أقبل النقاش في أي محفل، بقية ذلك معايير إجرائية حول الزمن والمدة وطريقة إدارة الحوار.
تقييمي الآن، خرج (السودان الرسمي) من معاداة (إسرائيل الرسمية) ولكنها لم تخرج، وهذا وضع مؤسف للغاية ويهدد فكرة المحادثات ذاتها، وأنا لا أحبذ هذا، ولكنه للأسف هو وارد بسبب ضلوع إسرائيل وعلى وجه التحديد الشق الأمني في المخطط ضد السودان.
تنبيه، إسرائيل غير الرسمية والسودان غير الرسمي، وأقصد بذلك المجتمع المدني والمنظمات والكيانات الشعبية، اليمين واليسار والوسط، الإسلاميين هنا والمحافظين هناك، هذا المجال حدثت فيه تغيرات متفاوتة لكنها لن تكون مؤثرة في حالة استمرار العداوة من طرف إسرائيل ضد السودان.
هنالك سؤال مكرر وممل يأتيني فورا “وما هو الدليل على الضلوع في المخطط”؟ وأقول نحن في التحليل السياسي وربط القرائن ووصل النقاط لا نستخدم الأدلة المادية ولا نحتاج للمعلومات الخاصة، ولا ننتظرها حتى نفكر.
نموذج، عندما تقول الطريق من النقطة (أ) إلى (ب) إما يمر بالمسار الأول أو الثاني أو الثالث، فإذا انتفى الأول والثاني لأسباب عقلية ومنطقية، فالصحيح (وبدون دليل مادي) أن الحركة تمت عبر المسار الثالث.
حول جلسة الحوار السابقة في مركز موشي ديان في مايو عبر تطبيق زووم، كتبت عمودي “حوار مع تل أبيب” وأهم ما فيه:
(فيما يلي أحداث السودان، أعتقد أن الدور الإقليمي بات واضحا، ولم تعد هنالك مغالطة البتة أن حلفاء الدعم السريع من الدول (الصديقة!) كانوا جزئا مما حدث.
نعم، صحيح ربما يكون هنالك عبث في التنفيذ السوداني على يد قيادة الدعم السريع، في تحريك ساعة الصفر أو إضافة أجزاء للمخطط، لكن لا يمكن أن تقدم هذه المليشيا على هكذا خطوة دون الإئتمار بحلفائها.
إضافتي هنا، أنه لا يمكن للإستخبارات الإسرائيلية المتنفذة في المنطقة والتي تتعاون معها “الدول العربية” بالذات التي دخلت مؤخرا في التطبيع الساخن وليس التطبيع البارد مثل مصر، لا يعقل ألا يكون هناك تبادل استخباري معلوماتي حول الأمر، إذن إسرائيل تعلم الأمر تماما، ولو على مستوى استخباري. وها هنا إجابتي على السؤال حول أثر ما حدث في السودان على محادثات التطبيع؟ وأقول رغم أنني مؤيد لهذه المحادثات ولا أزال، أن ما حدث تأثيره سلبي، ويحتاج إلى تصحيح عاجل جدا، إذ كيف أتصور أن قائد جيش السودان، وجيش السودان يتعرض لهذا الغدر الشنيع، وهنالك من تواطأ بالفعل أو بالإخفاء.)
انتهى حديثي في الملتقى السابق بمركز موشي ديان.
الخلاصة، أن الشق الاستخباري من إسرائيل ضالع أو عالم بالمخطط، وأضيف هنا حسب تقييمي وليس بمعلومات رسمية (لا يزال ضالعا).
في هذه الجلسة الجديدة من الحوار في سبتمبر، شكرت المنظمين وعلى رأسهم نير بومس رئيس منبر سياسة الخليج وإسرائيل بالمركز في جامعة تل أبيب على تجديد استضافتي والاستماع لآرائي، وما شاركت فيه هذه المرة لم يكن عن السودان إنما عن التطبيع العربي الإسرائيلي عموما، فالحلقة تكاد أن تكون مخصصة عن السعودية ويتزامن هذا مع وجود أخبار عن مفاوضات متعثرة تقودها أمريكا.
أعجبني للغاية مداخلة الكاتب والصحفي السعودي، رئيس تحرير صحيفة العرب اللندنية عبد العزيز الخميس حيث أشار إلى نقطة هامة، وهي أن العالم العربي والإسلامي يبتعد حاليا من الراديكالية والآيدلوجيا بينما إسرائيل تعود إليها بقوة. يعتبر الخميس من الداعمين لسلام الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل، ولكنه سجل هذا الانتقاد.
وهذا مؤشر منطقي يضاف إلى ما ذكرته في حالة السودان، أن الرغبة من طرف السودان لم يقابلها ذات الأمر من طرف إسرائيل، وبالذات الشق الأمني الذي يمتلك (علاقات ساخنة) مع أجهزة عربية تعمل حتى الآن ضد السودان.
ما ذكرته في الحلقة ان فلسفة التعاون الإقليمي من خلال تجربتي في أفريقيا أنها تقوم على مفهوم “الأخ الأكبر Big Brother” الذي يقود التعاون وتقف معه بقية الأسرة، وهو مفهوم يختلف تماما عن “السيد الاستعماري Colonial Master” لأن فيه مقدارا من الندية مع تفاوت الأوزان الإقتصادية. نيجريا مثلا هي الأخ الأكبر في كتلة غرب أفريقيا (إكواس) وجنوب أفريقيا هي الأخ الأكبر في كتلة إقليم الجنوب الأفريقي (سادك)، وللأسف لا يوجد أخ أكبر في القرن الأفريقي بسبب أنه لا توجد أسرة حقيقية، بينما تعتبر كينيا هي الأخ الأكبر في كتلة مجتمع شرق أفريقيا، وهكذا.
ولو طبقنا هذا المفهوم على العرب في الشرق الأوسط فإن الأخ الأكبر أمنيا هو مصر والأخ الأكبر إقتصاديا هو السعودية ولذلك لن يكون هنالك تطبيع عربي إسرائيلي مكتمل بدون هاتين الدولتين، وما يحدث حاليا علاقات ثنائية متقلبة، ونموذج ذلك في السودان، يزور الخرطوم وزير خارجية إسرائيل إيلي كوهين في فبراير ويلتقي البرهان ثم ينفجر المخطط في أبريل وأيادي إسرائيل فيه واضحة ومن بنوده أعتقال أو قتل البرهان، وينتهي الأمر إلى تخريب الخرطوم.
ما يحدث حاليا بين مصر وإسرائيل هو تطبيع بارد ولا يرقى لكونه أساسا للعرب لتطبيع ساخن حتى وإن دخلت الإمارات في التطبيع الساخن، لأن مصر هي الأخ الأكبر أمنيا.
في حالة السعودية من المؤكد وجود محادثات لكن من المستبعد أي تطبيع اقتصادي ساخن ولا بارد حاليا، وحديث عبد العزيز الخميس عن الراديكالية في إسرائيل أكثر من حقيقي.
انا بخصوص السودان أصلا مقتنع بالحد الأدني وهو المحادثات المباشرة بين السودان وإسرائيل، وأرى استمرارها بالرغم من الضلوع الاستخباري لإسرائيل في “حرب أم قرون” هذه.
لماذا؟! لأن المحادثات المباشرة تلغي أو تقلص دور الدول “السمسارة” وهو أمر مطلوب لأقصى حد، بل من مشكلاتنا التي أدت بكل أسف للعودة لحالة العداء هو وجود أطراف عابثة في الملف، ولا يتم إخراجها بإغلاق الملف إنما بتنشيطه ووضعه في الأيدي الأمينة دون عبث سياسي، ثم إدارة الملف بطريقة مختلفة عن السابق وهذا أمر يطول شرحه.
هي أصلا محادثات مباشرة وليست أكثر من ذلك، وللعلم كل الدول العربية باستثناء الجزائر فقط دخلت فيها بنسب متفاوتة، منها ما اكتفى بها، ومنها ما وصل للتطبيع الفاتر البارد، ومنها ما وصل للتطبيع الساخن التآمري.

اترك رد

error: Content is protected !!