العبيد أحمد مروح
(١)
الوصف الأبرز للأوضاع السياسية في السودان على أيامنا هذه، هو أنها شديدة التعقيد وأن البلاد تعيش صراعاً مكتوماً بين النخب السياسية، وأوضاعها مفتوحة على كل الاحتمالات، ويمكن أن تنفجر في أية لحظة.
والحقيقة أن هذا الوصف هو السمة الغالبة لهذه الأوضاع منذ الإطاحة بالنظام السابق قبل نحو أربع سنوات، لكن تمظهرات هذا الصراع المكتوم ظلت تتجلى مع مرور الوقت، وتعبّر عن نفسها كل مرة بأشكال مختلفة، وهي أوضح ما تكون هذه الأيام.
وعلى الرغم من القول أن السودان شهد قبل أربع سنوات ثورة شعبية كان السودانيون يرومون فيها الإنتقال إلى وضع ديمقراطي مستقر تحتكم فيه القوى السياسية إلى صناديق الاقتراع، إلا أنه بات من المُسلّم به أن لا أحد من المعنيين في الوقت الراهن لديه الرغبة في إجراء انتخابات، برغم مرور هذه السنوات على ذهاب النظام الموصوف بكونه شمولي!!
حتى بعثة الأمم المتحدة لدعم الفترة الإنتقالية في السودان، والتي تمّ إقرارها وإعطاءها تفويضاً على كامل التراب السوداني، قبل ثلاث سنوات، بحجة أنها ستتولى عملية التعداد العام للسكان وتشرف على قيام إنتخابات حرة ونزيهة وشفافة، حين تسألها عن موعد الإنتخابات، سيقول لك رئيسها أن الظروف غير مهيأة للبدء في ترتيبات ذلك، فلا القانون تمت إجازته ولا المفوضية تمّ إنشاؤها!!
وحين تنظر إلى سلوك الأحزاب السياسية المعنية أساساً بالانتخابات، ستجد أنه من بين أكثر من مائة حزب تتحرك في الساحة الآن، لم يعقد أي واحد منها مؤتمره العام، وينتخب قيادته، برغم مرور أربع سنوات على ذهاب النظام السابق، مما يعني أن الديمقراطية التي تدعي القوى السياسية أنها مطلبها، هي في الحقيقة مفقودة داخلها!!
(٢)
الإنتخابات التي تتنافس فيها الأحزاب للحصول على التفويض الشعبي، ليست أمراً جديداً في الثقافة السياسية في السودان، فقد عرف السودانيون التنافس الحزبي منذ ما قبل الاستقلال وانتخبوا نواباً شكلوا برلمانات أطلق على ثلاثة منها مسمى “جمعية تأسيسية”، لكن تلك البرلمانات لم يكمل أي منها دورته، فقد انتهى برلمان فبراير ١٩٥٨ باستلام السلطة بواسطة الجيش في نوفمبر من نفس العام، وانتهى برلمان ١٩٦٥ باستلام السلطة بواسطة الجيش في مايو ١٩٦٩ وانتهى برلمان ١٩٨٦ باستلام السلطة بواسطة الجيش في يونيو ١٩٨٩م.
وبمثل ما كانت الطريقة التي انتهت بها البرلمانات التعددية الثلاثة متشابهة، كذلك كانت نهايات الأنظمة التي وصلت إلى السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري، فقد أطاحت ثورات شعبية بنظام الرئيس إبراهيم عبود في أكتوبر ١٩٦٤ونظام الرئيس جعفر نميري في أبريل ١٩٨٥ ونظام الرئيس عمر البشير في أبريل ٢٠١٩؛ مما يعني أن السمة الأساسية للحكم الوطني في السودان هي أنه حكم مضطرب وغير مستقر سياسياً.
والحقيقة هي أن الثابت الوحيد طوال ما يقارب السبعة عقود، أي منذ أن نال السودانيون استقلالهم، هو “النزاع والحروب الأهلية”، فقد اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان في أغسطس ١٩٥٥ حتى قبل أن ينال البلد استقلاله، ولم تتوقف إلا في الفترة بين ١٩٧٢ و ١٩٨٣، إلى أن أدت لانفصال جنوب السودان، في حين تخلل هذه الفترة نفسها نزاع مسلح مع سلطة الرئيس جعفر نميري قادته “المعارضة الشمالية” ممثلة في الجبهة الوطنية، ولم يتوقف إلا في ١٩٧٧م عقب ما عُرف بالمصالحة الوطنية.
(٣)
حالة عدم الاستقرار السياسي وتطاول أجل النزاعات الأهلية المسلحة، في حقيقتها تعبير عن جملة من العناصر المتداخلة، التي لم تتفق النخب السياسية على وصف جامع لها وبالتالي وصفة لعلاجها، ومن الخطأ أن نطلق عليها وصفاً واحداً كما درج بعض المروجين لما يمكن تسميته ب “الأوهام المؤسسة للصراعات في السودان”؛ فهي مثلاً ليست صراعاً بين “المركز والهامش” بسبب مظالم تاريخية تتعلق بالتنمية المتوازنة وبالقسمة العادلة للسلطة والثروة، برغم أن فيها من ذلك الكثير، وهي ليست صراعاً بين “نخبة نيلية وسطية” هيمنت على السلطة المركزية واستأثرت بخيراتها ورمت للأقاليم الأخرى الفتات، كما يجري الترويج منذ بدء التمرد الثاني في جنوب السودان مروراً بالتمرد الذي شهدته دارفور في أوائل الألفية الجديدة. ذلك أن منطقتي الشمال النيلي والوسط تعانيان من نفس مشكلات الأطراف الأخرى.
كما أنه ليس صحيحاً أن الحرب التي كان يخوضها الجنوبيون ضد السلطة المركزية هي حرب تحرير ضد “هيمنة الشمال العربي المسلم” الذي يريد أن يفرض دينه وثقافته على “الجنوب ذي الغالبية الأرواحية والمسيحية” كما درج الإعلام الغربي على وصفها. وليس صحيحاً كذلك أن الصراع في دارفور هو بين القبائل ذات الأصول العربية المدعومة من السلطة المركزية ضد القبائل ذات الأصول الإفريقية، ذلك على الرغم من أن ملامح بعض هذا الوصف تبدو للناظر السطحي صحيحة. وليس صحيحاً كذلك أن الأمر كله مؤامرة خارجية من أطراف لها مطامع في أرض السودان، فأين الحقيقة إذن، إذا كان كل هذا غير صحيح أو غير دقيق؟
(٤)
الحقيقة هي أن الشمال والوسط، وبحكم كونهما شكلا الأرض التي اختار الاستعمار التركي – المصري ومن بعده الإنجليزي – المصري، الدخول عبرها وإدارة بقية البلاد منها، حظيا بقدر أفضل من الخدمات الأساسية ممثلة في التعليم والصحة والطرق، ونال أبناؤهما فرصاً أفضل في الابتعاث للخارج والاحتكاك مع بقية العالم؛ وقد أهلهم ذلك لتولي مناصب قيادية في الخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري، أكثر من غيرهم من أبناء السودان، وخلق منهم نخبة تنتمي لنفسها وتدافع عن مصالحها أكثر من انتمائها لمناطقها ودفاعها عن حقوقها!!
وبذات القدر، تخلقت نخبٌ من أبناء المناطق الأخرى في السودان، رفع بعضها – منذ السنوات الأولى للحكم الوطني – شعارات المطالبة بالتنمية المتساوية ولاحقاً شعارات محاربة التهميش، وعبأت أبناء مناطقها لمحاربة سلطة المركز عن طريق العمل المسلح، لكنها بقيت في حقيقة الأمر، تبحث عن مصالحها الضيقة بأكثر من بحثها عن مصالح الهامش والأرياف الذين تتحدث أو تحارب باسمهم، أو وقعت فريسة في أيدى القوى الخارجية الطامعة في السيطرة على السودان بنحوٍ أو آخر.
لقد أدى تراكم هذا الصراع وتطاول أمده، والتعبئة المستمرة لحشد المؤيدين والمقاتلين لنصرة شعاراته، إلى تفشي خطاب الكراهية وتزايد مساحات العزلة الشعورية بين أبناء الوطن الواحد، بحيث لم يعد الكثيرون يحسون أنهم ينتمون إلى تراب واحد وبلد واحد تظلهم سماؤه وتسعهم أرضه، وهم معنيون بتعميره وتنميته وتقاسم خيراته!!
(٥)
الآن، وقد بلغ الاحتقان مداه، لم يعد أحد يؤمن بأن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع والرضى بما تفرزه من نتائج، هو السبيل الأمثل للوصول إلى السلطة، على الأقل في الوقت الراهن، برغم كونه يبدو الحل الأقل كلفة، بل على العكس من ذلك، بدا أن الجميع مقتنع بأن صندوق الذخيرة والاستثمار في العمل المسلح، هو الوسيلة الأنجع للوصول إلى السلطة والمحافظة عليها، وها نحن نشاهد أن التجييش والتعبئة العسكرية لم تعد حكراً على أبناء المناطق التي شهدت صراعاً مسلحاً مع السلطة المركزية وإنما امتد ليشمل حتى المناطق التي لم يُعرف لها تاريخ في حمل السلاح في وجه السلطة المركزية، بل إن السلطة المركزية نفسها – إن جاز وصفها بذلك – تبدو منقسمة بين أهم مكونين فيها !!
إزاء هذا الوضع الموسوم بانعدام الثقة بين النخب السياسية، والذي يكدِّس فيه كل طرف عسكري أسلحته ويستعد للحرب، أضحى الحديث عن أن الاحتكام لانتخابات مبكرة باعتبارها الحل الناجع للأزمة السياسية، لا يعدو كونه ضرب من التفاؤل، فالانتخابات التي يُراد لها أن تؤسس لاستقرار دائم، يجب أن تجري في وضع يسوده الإتفاق على قانونها وآلياتها والثقة في نتائجها والرضى المسبق بما تفرزه صناديقها، وهذا كله غير متوفر الآن، ويحتاج إلى وقت لكي يتم إنجازه، إن خلصت النوايا.
كما أن الحل ليس هو أن يتصدى طرف من الأطراف الحاملة للسلاح، منفرداً أو ضمن تحالف، لبسط سيطرته على السلطة من خلال القوة القاهرة، فالمجموعات التي ملأت مخازنها بشتى أنواع السلاح ستكون هي الخاسرة إن هي جرَّت منسوبيها إلى دوامة من العنف تكون فيها بلادنا وشعبها هما الخاسر الأكبر، خاصة وأنه من المؤكد ليس بوسع طرف مليشياوي دحر الجيش الوطني وإعادة هندسة الوضع الأمني والسياسي على النحو الذي يريد، كما أن إستيلاء الجيش على السلطة كاملة، أو دخوله في مواجهة مباشرة مع أي فصيل مسلح لن يزيل حالة الاحتقان حتى بعد أن يتمّ حسم المعركة المباشرة لصالحه، بل سيزيدها.
الحل إذن هو أن يتراضى الجميع، من قوى سياسية ومدنية وعسكرية، دون استثناء، على صيغةٍ ليس فيها خاسر، وليس لها ضحايا من الأبرياء، وهي باختصار حوارٌ جامع تُعرض فيه انشغالات أي فصيل سياسي أو مجتمعي ورؤيته لحل المشكلات في إطارٍ وطني جامع، ويخلص الجميع إلى تشخيص دقيق لمشكلات البلاد وتراضٍ على صيغ حلولها، ومن ثمّ تحديدٍ دقيق لمهام فترة إنتقالية يُتفق على مدتها، وعلى طريقة إدارتها، وفيها يتم الشروع في معالجة كافة القضايا المزمنة وفق مصفوفة زمنية ليس بالضرورة أن تكتمل بنهاية فترة الإنتقال، بل يكون ما تبقى منها ملزماً لأية حكومة تفرزها إنتخابات لاحقة.