بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم لواء مهندس ركن دكتور
امين اسماعيل مجذوب *
مقدمة
في ظل تفاقم الأزمة المسلحة السودانية في مختلف مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية، وعلى كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية في ظل العام الذي قارب على الاكتمال، وبشكل خاص، برز موضوع الإعلام والأزمات، أو إعلام الأزمات بكل وسائله التقليدية والجديدة، المقننة والبديلة وإعلام المواطن، وبمستوياته المختلفة الوطنية “المحلية” والقومية والإقليمية، والدولية الموجهة للآخر، خاصة في عصر الإعلام الفضائي والإعلام بلا حدود وإعلام الإنترنت كركن أساسي من أركان مواجهة الأزمة واحتوائها.
صارت عملية إدارة الأزمات إعلاميًا تخصصًا علميًا له قواعده ونظرياته وأسسه وآلياته واستراتيجيته، تهتم به المؤسسات التعليمية الأكاديمية والبحثية والمؤسسات الإعلامية والسياسية والدبلوماسية، كما حظى إعلام الأزمات “إعلام المواجهة” باهتمام القيادة العليا فى أغلب دول العالم.
من أمثلة ذلك ما تحظى به اللقاءات المفتوحة بين رئيس وأعضاء مجلس السيادة فى أغلب مناطق السودان ، مثل الولايات والمناطق العسكرية.. وتعليقات وانتقادات المعارضين من جانب الدعم السريع والقوى السياسية للإعلام الوطنى السوداني بتحمل المسئولية المهنية والأخلاقية والمجتمعية فى مواجهة الأزمة ومعالجتها بلا تحيز أو التعامل بمكيالين، بما في ذلك معالجة أحداث وأعمال العنف، أو مقاومة الإرهاب، أو التطرف الفكرى، أو الخروج عن القانون، أو الأزمات الأقتصادية أو الأمنية وتفشى الفساد وغير ذلك.
هدف الدراسة
يتضح اتساع وتعدد مجالات إعلام الأزمة في السودان “إعلام المواجهة وإعلام الطواريء”… مما يجعل من الأهمية بمكان تناوله من زاويا مختلفة، وهو ما يجعلنا نركز فى هذه الدراسة على النقاط الثلاث الآتية:
أولًا:
أهمية الإعلام أثناء الأزمة الحالية في السودان … الأسس والقواعد.
ثانيًا:
التأثيرات السياسية للإعلام فى أوقات الأزمة.
ثالثًا:
مصداقية وسائل الإعلام أثناء الأزمة.
أولًا: أهمية الإعلام أثناء الأزمة في السودان … الأسس والقواعد
فى ظل التطور الهائل لإمكانيات وسائل الإعلام المختلفة التقليدية والجديدة، تعاظم دور الإعلام فى التعامل مع الأزمة والحرب في السودان بشكل خاص، وأصبح من الأهمية بمكان الالتزام والاستناد فى المعالجات الإعلامية للأزمة على القواعد والأسس العلمية لإدارة الأزمة، أيًا كان مجالها، من جانب القائمين بالاتصال (إعلاميين أو سياسيين أو دبلوماسيين أو مسئولين) ومن هذه الأسس والركائز نذكر:
(1) أصبح الإعلام عبر وسائله المتعددة أداة التفاعل بين الأزمة والكثير من أطرافها وحتى من ليس طرفًا مباشرًا فيها، كما لم يعد ممكنًا التعتيم أو الصمت الإعلامى على أية أحداث مهما تفاوتت في حدتها أو حجمها، فعلى سبيل المثال، كان يمكن في الماضى للسلطات عدم نشر المعلومات بشأن أية حدث أو معركة قد تقع في محيط الدولة، مثال على ذلك “لم يعرف العالم شيئًا عن حادثة مقتل والي غرب دارفور إلا بعد عدة أيام من وقوعها”، وقد أصبح إخفاء أو تجاهل أية حادثة في عصرنا الحالي أمراً شديد الصعوبة، وبالطبع فإن درجة الاهتمام الشعبى محليًا وإقليميًا ودوليًا بأية أزمة تتفاوت من أزمة لأخرى، ولكن يظل لوسائل الاعلام دور رئيس في التعريف بها والتفاعل مع مجرياتها.
(2) الإعداد الدقيق لإدارة الأزمة، وذلك بتقدير حجم وقوة وتأثير الإعلام المضاد محليًا أو خارجيًا، وعدم الانفراد للإعلام الموالي للدعم السريع بإدارة الأزمة إعلاميًا دون مشاركة جهات الاختصاص بالدولة المسئولة عن طبيعة الأزمة.
وعلى سبيل المثال، فإن التحرك الإعلامى الداخلى لاحتواء أزمة اقتصادية داخلية يكون في سياق التشاور مع الوزارات والهيئات والمؤسسات المعنية والخبراء ذوى الصلة، والتحرك الإعلامى الخارجى يكون من خلال الخطاب السياسي والتحرك الدبلوماسي على المستوى الخارجى والدولى.
(3) الاعتراف بوجود أزمة او حرب، بمعنى عدم إنكارها وتوجيه الرسالة الإعلامية الصحيحة المتصلة بها، ومنها على سبيل المثال قيام المسئول الإعلامى أو المتحدث الرسمى بتحديد الأسئلة المتوقعة والإجابات المناسبة لها قبل بدء أى لقاء إعلامى، مع مراعاة أن التصريح لوسائل الاعلام بمعلومات أو بيانات غير صحيحة، أو التهرب أو الامتناع من الإجابة على أسئلة معينة يأتي بنتائج عكسية غير مرغوب فيها، مثال التكتم على اللقاءات المفاوضات التي تجري بطريقة سرية بين الحكومة والجيش والدعم السريع، والمنظمات الإقليمية والدولية .
من هنا، فإن البحث عن حل أمثل أو على الأقل حل أفضل بين البدائل المتاحة هو أساس التسوية السليمة للأزمة.
(4) رصد الدروس المستفادة من الأزمة قبل طى ملفها، ومثل تلك الدروس يشكل تراكمًا معرفيًا لا غنى عنه لمواجهة أزمات المستقبل قبل أن تنشب وتستفحل، كما يشكل التراكم المعرفى بدوره مرجعيات لتدريبات الإعلاميين من واقع الخبرات المكتسبة.
ثانيًا: التأثيرات السياسية للإعلام في أوقات الأزمة
في أوقات الأزمات تتم إعادة تشكيل للعلاقات بين السودان والدول والمواطنين، وقد أفرز ذلك ما يعرف بالتأثير السياسي لوسائل الإعلام والذى لخصته كثير من الدراسات فيما يأتي:
1- سعي وسائل الإعلام السودانية الدائم لجذب الجمهور وزيادة أعدادهم، من خلال تقديم أشكال متنوعة من القوالب الإعلامية، كبرامج التوك شو والبرامج الحوارية وبرامج السخرية، التى قد يبدو بعضها دون مضمون سياسى، وإن كان في الحقيقة لا يخلو من دلالات وإسقاطات سياسية.
2- ثقة المتلقين فى صدق ما تقدمه وسائل الإعلام السودانية من معلومات (مصداقية الوسيلة، مدى توافق ما تقدمه مع ميول المتلقى واتجاهاته السياسية).
3- الكم الهائل من الرسائل الإعلامية التى تقدمه وسائل الإعلام السودانية يوميًا يجعل العامة منهم (البسطاء) غير قادرين على إدراك حقيقة الموقف، إلا من خلال ما تطرحه تلك الوسائل باستثناء الأشخاص ذوى المعرفة والوعى السياسي المرتفع، الذين يكونون أكثر قدرة على فهم وتحليل ونقد ما تقدمه لهم تلك الوسائل. ومع ظهور وانتشار وسائل الإعلام الجديد أسهمت بدورها فى: تجميع الأشخاص ذوى الاهتمامات المشتركة، ووجد البعض فيها وسيلة للتنفيس عن اتجاهاتهم، بينما اكتفى البعض الآخر بمراقبة ومتابعة الأحداث من خلالها دون مشاركة فعالة في النقاشات. وهكذا أسهمت شبكات التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام الجديد التفاعلية في التعبئة والنضال السياسي فى الحرب التى شهدها السودان في الشهور الأخيرة (حرب ١٥ أبريل ، وتهديد شرعية النظام في السودان ، ومحاولة الدعم السريع الإطاحة بنظام وقيادة الدولة ).
وفيما يأتي نعرض لكل من:
(أ) التأثيرات السياسية للإعلام التقليدى (التليفزيون السوداني نموذجًا):
تتعدد أوجه التأثيرات السياسية التى تحدثها المعالجات التليفزيونية لمواجهة الأزمة في السودان، ومنها:
(1) التأثير المدروس في العملية السياسية.
(2) التأثير في صنع القرار السياسي.
(3) اللامبالاة السياسية
political apathy . (4) التسويق السياسي political marketing . (5) تأثير البرامج الحوارية في منظومة المعرفة السياسية والقيم المجتمعية للمتابعين لها بشكل مكثف (كثيفى التعرض)، وفي تكوين صورة ذهنية سلبية لدى الأفراد عن أنفسهم والحكومة ومشكلاتهم.
(6) عدم التوازن في تناول الموضوعات السلبية والإيجابية مقابل التركيز على واحدة أكثر من الأخرى، واحيانا عدم المتابعة نفسها في وقت وقوع الحدث.
(ب) التأثيرات السلبية للإعلام الجديد (الفيس بوك نموذجًا): وتتلخص فى:
(1) إثارة الرأى العام أو إعادة توجيه الرأى العام.
(2) تشتيت الرأى العام.
(3) التشويه السياسي الإلكترونى. (4) التسويق السياسي.
(5) دعم “الأنا” لدى الفئات المهمشة، وتعزيز مفهوم المواطنة الافتراضية لديهم، وتوطيد العلاقات الاجتماعية فيما بينهم، وتعزيز رأس المال الاجتماعى بين أفراد هذه الفئات.
(6) التعبئة السياسية online political mobilization . وفي ظل شمول البيئة الإعلامية لأكثر من نمط من وسائل الإعلام ما بين التقليدي منها والجديد، ظهرت إشكالية جديدة فى مجال إعلام الأزمات في السودان ، نلخصها فى التساؤل الآتى:
ما العلاقة بين وسائل الإعلام الجديدة والتقليدية بين التكاملية أو المنافسة فى أوقات الأزمات والأحداث الساخنة في السودان ؟
. تختلف الآراء فى هذا الشأن؛ فالبعض يرى أن العلاقة بين وسائل الإعلام التقليدية والجديدة صارت علاقة تكاملية، بينما يرى البعض الآخر أن مواقع التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام الجديد لها الكثير من الخصائص التى تجعلها أفضل من الوسائل التقليدية الحكومية او الخاصة، ومن تلك المزايا: السرعة، وإخفاء شخصية المستخدم، ورفع سقف الحرية فى التعبير عن الرأى، وإتاحة متابعة جهود المجتمع المدنى، والحميمية، وغير ذلك. وفى ظل مناخ المنافسة بين الإعلام التقليدى والإعلام الجديد، وسعيًا من الأول لإشباع المزيد من الرغبات وتلبية احتياجات مستخدميه، ظهر ما يعرف بالتليفزيون الاجتماعى”Social T.V” الذى ظهر كنتيجة للتكامل، واندماج المستخدم بين مشاهدة التليفزيون، وكتابة تعليقاته عن ما يشاهده عبر مواقع التواصل الاجتماعى، خاصة الفيس بوك، ومنصة X؛ مما يجعل التليفزيون الاجتماعى وسيلة نشطةactive medium” “، واستخدم البعض مصطلح (الشاشة الثانية second screen) للتعبير عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعى عبر أجهزة الموبايل، أو اللاب توب، أو التابلت، أثناء المشاهدة، بصفتها الشاشة الثانية التى يتعرض لها المشاهد أثناء مشاهدة الشاشة الأولى، ألا وهى التليفزيون، وجاء ذلك بزيادة الاعتماد على التليفزيون فى أوقات الأزمات والطواريء والكوارث. اذا تناولنا نشاط الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعى أثناء مشاهدة التليفزيون نجد الأنشطة التفاعلية الآتية:
1ــــ الانفعالات (الحزن، والفرح، والغضب،…..الخ). 2ــــ التواصل مع المجتمع.
3ـــ التعبير عن الآراء.
4ـــ الحصول على المعلومات وتبادلها.
5ـــ محاولة جذب الانتباه.
ثالثًا: مصداقية وسائل الاعلام (الحكومية والخاصة السودانية) أثناء الأزمة :
تزداد أهمية مصداقية وسائل الإعلام بوجه خاص أثناء الأزمة السودانية الحالية؛ حيث تحتاج هذه الوسائل إلى أداء من نوع خاص، مهنيًا وأخلاقيًا ووطنيًا، انطلاقًا من بعض المداخل والنظريات التى تستند إلى المسئولية الاجتماعية لوسائل الإعلام، وممارسة الإعلام لدور الشفيع (المحامي) عن كل الفئات دون تهميش أو إهمال للفئات المهمشة، بما يوفر حق المعرفة الشاملة والكاملة والمتعمقة والتعبير عن الذات بحرية بعيدًا عن سياسة الصمت الإعلامى تجاه مشاكل البعض أو واقعهم، بالإضافة إلى تنشيط الجهات ذات الصلة للقيام بواجباتها ومسئوليتها، والقدرة على توسط العلاقة بين الأفراد وصناع القرار، وتفعيل الحق في الاتصال بمفهومه الشامل الحق في أن يعلم الجميع وأن يُعلم عن نفسه بحرية. ولكى تحقق وسائل الإعلام السودانية الأدوار المرجوة منها من قبل كافة الأطراف على النحو الأمثل، لابد أن يتسم الأداء بمزيد من المصداقية، من خلال التزامها بعدد من الضوابط التى تحكم دورها فى إدارة الأزمة، ومنها: الفورية في نقل الأزمة، والتعريف بها وإمداد المواطنين بالحقائق التفصيلية أولًا بأول، والعمق والشمول في تغطية جوانبها المختلفة، وضبط النفس والتعامل بموضوعية مع أجهزة الرأى العام، والاعتراف بالأخطاء التى قد تحدث أثناء التغطية، والرجوع والاعتماد على المصادر الأصيلة. ومن الأهمية بمكان إدراك أن تحقيق المصداقية لدى المواطنين عامة والنخب باختلاف مجالاتها ليس بالأمر السهل، وخاصة خلال الأزمات التى تطول مدتها، كما أن وجود قانون للمعلومات يرتب الحصول عليها وتبادلها يعد البوابة الرئيسة لتحقيق إعلام يسهم في مواجهة الأزمة، وليس إعلامًا يؤدى إلى اختلاق أحداث أو التهويل من بعضها. خاتمة ونختتم هذه الدراسة بعرض عشر قواعد لمواجهة الأزمات كما حددها بعض المعنيين بإدارة الأزمات:
(1) تقبل المسئولية: وهذا لا يعنى أن تتقبل اللوم.
(2) فرِّق بين الإعلام السلبى والأزمة الحقيقية … وحدد فعلك على هذا الأساس.
(3) استخدام أساليب البحث العلمى واستطلاع الرأى لتحديد أسلوب المواجهة.
(4) جنِّد طرفًا ثالثًا للتحدث نيابة عنك.
(5) تعامل مع وسائل الإعلام كشركاء وليس كأعداء، ولكن بحذر.
(6) توقع الشكوى والتقاضى.
(7) تابع وحلّل ما ينشر فى وسائل الإعلام التقليدى والجديد عن قرب.
(8) أبرز تعاطفًا واهتمامًا وتفاعلًا مع الحدث والناس. (9) اتخذ الــ 24 ساعة الأولى بأقصى حدود الجدية والاهتمام.
(10) ابدأ برنامج إدارة الأزمة عن طريق بناء ركائز وأصول سمعة المؤسسة الحكومية؛ حيث إنه فى غضون الأزمة ليس مهمًا سمعة المؤسسة. وليكن الهدف دائمًا من التناول الإعلامى على كافة مستوياته لأى أزمة مساعدة المجتمع فى مواجهتها والتغلب عليها، وغرس قيم الصمود وروح الأمل وليس الإحباط أو تقسيم وتفتيت المجتمع.
*خبير إدارة الأزمات والتفاوض بمركز البحوث الاستراتيجية