(1)
الحرية هي المرجعية الأصولية لحركة الإسلام في السودان،فهي نشأة كحركة احياء وتمرد على الطائفية ،وواردات الافكار العلمانية والماركسية ونهضت في مؤسسات الحداثة والاستنارة،وقاعدتها الاجتماعية الذكية تأنف على العمل في سياق الاستبداد والانكفاء، والحركة الإسلامية كجماعة فكرية وسياسية تطورت في براحات الحرية والتدافع الفكري والسياسي فكانت البدايات منازلة للاستعمار ، والافكار الماركسية، واستمر اطراد الفاعلية الفكرية والسياسية في منازلة نظام الفريق عبود حتى سقط في ثورة أكتوبر 1964، ثم كانت مرحلة الخروج والانفتاح لحركة الاسلام في الديمقراطية الثانية 1965 إلى 1969، ثم منازلة النظام المايوي بالسنان واللسان حتى سقط في أبريل 1985، وهكذا استمرت الحركة الاسلامية في تماهيها مع قاعدة المجتمع السوداني حتى بلغت مرحلة النضج والاستواء في الديمقراطية الثالثة، عندما حازت على الكتلة البرلمانية الثالثة وكانت ستكون الكتلة البرلمانية الغالبة لو انعقدت الانتخابات البرلمانية العامة في العام 1990،لولا تدخل قيادة القوات المسلحة ورفعها للمذكرة الشهيرة في فبراير 1989،والتي أنهت التجربة الديمقراطية الثالثة عمليا ووضعت مصير البلاد أمام سيناريو القوة العسكرية والتي كانت تمتلكها الحركة الشعبية لتحرير السودان بتوجهاتها الماركسية والعنصرية والمتحالفة مع قوى اليسار والهامش السوداني، وإعمالا لفقه الطواريء سبقت إرادة الحركة الإسلامية إرادة الحركة الشعبية وقوى اليسار وصعدت إلى الحكم
كما تعلمون ارتدت حالة الطواريء الى الاستمرارية الآحادية في الحكم حتى استبانت النتائج الكارثية لحكم الفرد، وأثبتت أن انجع وصفة لمواجهة أي انتكاسة في التجارب الديمقراطية هي الحوار الاستراتيجي المستمر وتعظيم روح الشراكات والتحالفات بين القوى السياسية الوطنية، وكل قطاعات المجتمع والديمقراطية تستوي في فضاءات الممارسة والتجارب المستمرة .
(2)
ارتأى العقل المركزي للحركة الإسلامية أن الانقلاب العسكري كان ضرورة طارئة(والضرورة تقدر بقدرها)والانقلاب كضرورة كانت مدته ثلاث سنوات لتعود بعدها الحياة الدستورية في السودان ولكن ربما لم يدرك العقل الفكري للحركة الإسلامية أن خيار الانقلاب ذاته كان يعني وضع الأصول الفكرية والمرجعية التنظيمية للحركة الإسلامية تحت دائرة التكتيك والذرائعية وكان ما كان فمنذ بدايات الانقلاب الاولى برز تياران(تيار اعادة الديمقراطية، وتيار الاستمرار في الحكم )، واستمر التدافع الفكري والسياسي بين التيارين حتى انتهى بالمفاصلة الأولى في عام 1999، ثم توالت حالات الخروج لتيارات الإصلاح والتغيير من الحزب الحاكم افذاذا وجماعات فخرجت مجموعة المرحوم مكي على بلايل، ومجموعة منبر السلام العادل، ومجموعة حركة الإصلاح الان، وجماعة السائحون، وقطاعات كبيرة من كوادر وشباب الحركة الإسلامية، مع اعتزالات فردية لعدد من المفكرين والانتجلنسيا الإسلاميين، والبعض ابعد النجعة وقرر مناجزة النظام بالسنان.
كل هذه المجموعات الاصلاحية وظفت طاقاتها الفكرية والسياسية لصالح مشروع الثورة والتغيير.
(3)
أيضا تنامى تيار الإصلاح والتغيير داخل المؤتمر الوطني وكانت له منازلات فكرية وسياسية مشهودة داخل منظومته منذ العام 2004،ومذكرة الالف اخ ومؤتمر الحركة الإسلامية الأول، والثاني، والمؤتمرات العامة للمؤتمر الوطني في 2010،وعام 2015 حتى كاد أن يفقد الرئيس السابق البشير الفرصة كمرشح لرئاسة الجمهورية،وهذا الحراك الإصلاحي الكثيف ينم أن الرئيس البشير كان سيفقد حظوظه في المؤتمر العام للحزب الحاكم السابق الذي كان مقررا انعقاده في أبريل عام 2019، مما يؤكد أن تيار الإصلاح والتغيير داخل المؤتمر الوطني كان هو الغالب.
(4)
توجت تيارات الإصلاح والتغيير وسط الإسلاميين مبادرات الهبوط الناعم عبر مبادرة الحوار الوطني الشامل في عام 2014 وكان هدفها الاستراتيجي التأكيد على أن الحوار، والتوافق والشراكات الأصل لحلحلة قضايا البناء الوطني الديمقراطي ، وانداح حوار المبادرة مع كل القوى السياسية والاجتماعية السودانية واثمر مخرجات نظرية ناجعة لحل الأزمة الوطنية بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والهوياتية والعلاقات الخارجية وقضايا الحرب والسلام، ولكن اختارت قيادة المؤتمر الوطني السباحة عكس حركة التاريخ وارادة اختزال المبادرة في إعادة تسويق ذاتها من جديد في انتخابات 2020.
(5)
عندها سبقت إرادة المجتمع السوداني، والقوى السياسية وتيارات الإصلاح والتغيير وسط التيار الإسلامي الوطني، بل بلغ الوعي بحتمية التغيير المنظومة الأمنية العليا المنوط بها صيانة النظام من السقوط ولكنها استجابت لنداء المجتمع وازاحة الرئيس السابق البشير صونا لحرمة الدماء، وحفاظا على لحمة المجتمع، وتماسك القوات المسلحة، وصيانة لوحدة المجتمع السوداني.
لذلك فإن الإسلاميين شركاء في صناعة الثورة السودانية وشركاء في العبور بالمرحلة الانتقالية إلى شاطئ الانتخابات، وشركاء في تثيت قضايا البناء الوطني الديمقراطي المستدام. بل يقع على عاتق الإسلاميين مهام التصدي الاستراتيجي لصيانة وحدة واستقرار السودان من التدحرج في فخ الفوضى أو التفكك والانهيار
(6).
لكن ما هي خيارات الإسلاميين لإنجاز هذا المشروع خاصة بعد إقصاء قوى الحرية والتغيير من الحكم وفي لحظة تاريخية تتساوى فيها حالة البقاء والسقوط للدولة السودانية؟ أن خيار الإسلاميين الاستراتيجي هو إدارة حوار شامل مع كل الشركاء في صناعة هذا المشروع وفي طليعتهم كل القوى السياسية الوطنية والمؤسسة العسكرية والجماعات المسلحة، والتيارات الشبابية الجديدة والقيادات الأهلية والصوفية
ان الصبر الاستراتيجي على استعادة الثقة بين الإسلاميين والقوى السياسية والمجتمع وصولا لبناء الكتلة التاريخية الحرجة وقوامها سيادة قوامة المجتمع في الحكم هو الخيار الاستراتيجي من التماهي مع اي نزوع لإنتاج نظام استبدادي جديد.