يُعد جبل مرة من أكثر المناطق الجغرافية حضوراً فى الوجدان المجتمعى والذاكرة الأدبية والغنائية لأهل السودان ، فهو لوحة فنية ناطقة بكل لغات الجَمَال فى العالم ، تأخذ سِحرها وعطرها وعبقها وملامحها وملاحتها وألوانها من الطبيعة وافرة الجمال التى تستثير العواطف وتُحرك الخيال .. وقد قُدِّر لى أن أزور هذا الجمال فى مكانه ، فما أن دخلنا المجال الجوى الساحر ومناخ البحر الأبيض المتوسط إلاَّ وأطَّل علينا الجبل بكامل بهائه ووقاره وصمته وسمته ، وحينها أدركت إن الطبيعة تُخفى نفسها عن الإنسان رحمةً به وبمشاعره وعواطفه التى هى قِوام حياته ، ووجَدتُ نفسى تعود لطفولتها التى فارقتها منذ خمسون عاماً ، وتعود لفرحها ومرحها ولعبها وتنطيطها وهذيانها ، وتدندن : ( كل الطيوب الحلوة يا مولاتى والجِيد الرقيق ، واللفتة والخُصل اللى نامت فوق تسابيح الغريق وخُطاك والهدب المكحل وفتنة التوب الأنيق ، فى لحظة مرّت كالظلال تعبر رؤاى إحساس عميق ) .. وطافت بخاطرى كلمات المفكر مصطفى السباعي : ( زُر المحكمة مرة فى العام لتعرف فضل الله عليك فى حسن الأخلاق ، وزُر المستشفى فى الشهر مرة لتعرف فضل الله عليك فى الصحة والمرض ، وزُر الحديقة مرة فى الأسبوع لتعرف فضل الله عليك فى جمال الطبيعة ، وزُر المكتبة مرة فى اليوم لتعرف فضل الله عليك فى العقل ، وزُر ربك كل يوم لتعرف فضله عليك فى نِعم الحياة . ) .. وتلك الملحمة الجمالية بكتها حينها وإستبكتها حمائم الكلمة وأسطراً قلائل رسمت أوجاع المنطقة .. ثم ضاع الأمس منى وإنطوت ( اليوم ) فى القلب حسرة ، فقد كُنتُ فى معيَّة وفد كريم لزيارة محلية الردوم فى مهمة عمل رسمية ، وكُنتُ أرى فى وجوههم الحسرة والألم وجميعنا يرى من نوافذ المروحية ثراء الطبيعة وجمال المنطقة يلوكهما الإهمال والنسيان ، ولا تجد حظها من الرعاية والإهتمام .. فالذى تحتنا لم يكن غطاءًا غابياً ضخماً يمتد لمئات الأميال فحسب ، ولا ثروة حيوانية لا يُحصيها عادٌّ ، ولا موارد زراعية ومعدنية هائلة .. بل فقرٌ فى الإرادة والتدبير والتفكير ، فهذا التغنى بأمجاد الماضى والتفاخرالكذوب ألحق الضرر بأهل السودان وبمسيرتهم الإنسانية ، وأخشى أن تُسلبَ مِنَّا هذه النِعم التى يحسدنا عليها الجميع ، فقد مَنَحنا إيّاها الله عز وجل وأودعها أرضنا وبلادنا للإستفادة منها وتوظيفها فى إعمار الأرض والقيام بواجب الخلافة فيها لا لنُفسد فيها ونسفك الدماء ، ولا لنزرع فيها السموم وندمر العقول .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء