د. ادريس ليمان
روى أبو علي القالي في رائعته الأمالي قال :
تَغدَّى أبو جعفر المنصور ومعه ابن أخيه إبراهيم ، فأخذ إبراهيم لقمةً ثم وضعها على طرف المائدة ، فقال له المنصور : ما لكَ وضعتها يا بُنيّ؟
فقال إبراهيم : إنّ فيها شَعرَة ..!!
فأخذ أبو جعفر اللقمة ، ونزع الشعرة منها وأكلها ، وقال له : لقد أفسدَتكَ الكِفَايَة .
( ويبدوا أن الكِفايةَ قد أفسدت الشرطة لتضع فى مثل هذه الأيام من العام الماضى عدداً كبيراً من منسوبيها خارج أسوارها لينضموا إلى الذين أخرجتهم السبائب من قبل ..!! )
وبهذه الذكرى نقول إبراءًا للذمة ووصلاً للرحم الشُرَطى ومعذرةً إلى الله : إنَّ المستقبل الذِّي يُنشِدُه جميع أهل السودان ويتوقون إليه بعد أن تنتهى هذه الحرب اللعينة هو أن يَحيَوا حياةً آمنة وكريمةً لائقةً فى دولة الحقّ والعدل والقانون والمؤسّسات المأمولة والمعبِّرة عن إرادتهم والسّاهرة على تحقيق مصالحهم وتأمين حياتهم ورفاهيّتهم وسعادتهم .. فأين الشُرطة من تلك الأمنيات والأشواق ..!!؟ وأين رؤيتها المستقبلية من أجل هذا الهدف الأسمى ..!!؟ فلها تَبِعَة لا يُسقِطُها عنها عُذرٌ ولا يَعذُرها فى أداءِ حقها شئ .
لقد تحملَّت الشُرطة خلال السنوات الماضية بوعىٍ منها وبدون وعى أعباءً إضافية خارج نطاق مسئوليتها كمؤسسة أمنية لها أهداف ومهام وواجبات حددها الدستور والقانون إذعاناً للإرادة السياسية المعيبة ، وحَمَلَتْ أثقالاً على أثقالها ، وتَحَمَّلَتْ حماقات غيرها حتى أضحَتْ مِشجَباً تُعَلَّق عليه أسمَال وأخطاء وفشل بعض مؤسسات الدولة ..!! كما أُصيبت فى مرحلةٍ من تأريخها بسهام الثأر والغدر والتشفي والإستهانة بها وبِقِيَمِ الحَقِّ والعدالة والقانون .. وأُحرِقَ وطنَاً بأكملِه وأُحرِقَتْ سيادةَ الدولة بحرق مقارها وأقسامها التى تُمَثِّل رمزاً لهيبته وهيبتها ، وقدَّمتْ فى مسيرَتِها التضحيات والدماء ومئات الشهداء فى عمليات الأمن الداخلى وهى تُحارب الجريمة بكافة أشكالها وتحافظ على الأمن الجنائى والمجتمعي والسياسى دون أن تجد من يبكى عليهم وكأنهم من أبناء المجهول وليسوا من طينة هذا الوطن .. !! ليس هذا فحسب بل عملت الشُرطة نفسْهَا على إيذاءِ نفسِهَا بالإحالات التى لايسنِدُهَا منطق ولا عقل ولا قانون على مدار السنوات الطويلة الماضية ، وعملت جهالةً وغفلة على التخلَّص من بعض بنيها الذين ولَّوا وجوههم المهاجر القريبة والبعيدة فكانوا كالنجوم الزواهر ، ومنهم من لمع نجمه داخل وطنه وأثرى الحياة الثقافية والإجتماعية والإقتصادية بجهده وفكره وأثَّر فيها .. !! هذا فضلاً عن إستسلامها للضغط الإعلامى والمجتمعى عليها وعلى منسوبيها قيادةً وقاعدة دون أن تواجهه وتُقيم عليه الحجة بقوة المنطق والقانون حتى أضحت سياسة التَقِيَّة هى السائدة ، وثقافة ( المحولجِى ) هى الغالبة لدرء المسئولية خوف المُحاسبة وخوف العقاب ، ففقدت المؤسسة القُدرَة على صِناعة القرار المؤثر والجُرأة على إصداره ، وأصبح معظم رجال الشرطة ضباطاً وأفراداً إلاَّ القليل منهم يخشون المسئولية التى هى جوهر واجباتهم الوظيفية ويعملون على إرضاء قادتهم رهباً ورغباً ، والبعض من قادة الشرطة لا هَمَّ لهم سوى إرضاء القيادة السياسية وإن كان فى ذلك تجاوزٌ للقوانين والخصم من الرصيد المهنى لهذه المؤسسة المحترمة ، وأُصيبَ الكثيرون من الغيورين بفقدان الأمل فى الغد فآثروا مغادرتها طواعيةً فى يومهم قبل الغد ..!! فإذا أرادت قيادة الشرطة أن تردم الهوة التى بينها وبين منسوبيها ، وتُعيدالثقة المفقودة بينها وبين مواطنيها والتى ساهمت فيها بشكل كبير وسائل التواصل الإجتماعى ذات الغرض ، وبعض منظمات المجتمع المدنى .. وإذا أرادت الخروج من الصندوق الذى حبَستْ فيه نفسها لسنواتٍ طويلة .. عليها أن تلعب دوراً جديداً بالكُليَّة بعد إنتهاء الحرب ليضبط أداؤها مستقبلاً ، وأن ترسم خارطة طريق واضحةَ المعالم لما هو مطلوبٌ منها وفق الدستور والقانون وأن تُطَوِّر من قدراتها الفنية وتعمل على توفير معينات العمل الضرورية مع الإهتمام بمنسوبيها فى أنفسهم وأُسَرِهم ومجتمعهم ، ولابد لها كذلك من إعادة توصيف أو تفعيل مهامها الدستورية والقانونية وعدم تجاوزها حتى لا تُكرر أخطاء الماضى التى حدثت نتيجةً للأحمال الزائدة عليها ، وحتى تتحرر من إنتهازية الساسة الذين إستخدموها لبعضِ مصالحهم ومن رِقِّ التسلطُ السياسى الذى قهرها طويلاً .. فإعادة البناء المِهَنى يحتاج لرسم سياسات جديدة وإستراتيجية أمنية شُجاعة لا تُداهن ولا تُهادن ، كما يحتاج لصناعة الوعى الإستراتيجى للضباط فى الرتب القاعدية والوسيطة ، والبحث عن مقومات صناعة القادة للمستقبل .. لينشأ ويتربى فى كنف هذه المؤسسة جيلٌ لديه القدرة والجُرأة على إتخاذ القرار .. جيلاً قائداً ومسئولاً وليس تابعاً كل همه أن يدرأ المسئولية عنه ، جِيلٌ مبادرٌ آمرٌ وليس منتظرٌ للتعليمات منفذٌ لها .. جيلٌ لا يرهن أداؤه المهنى والقانوني للتدخلات السياسية المعيبة التى تُخالف القانون والضمير .. !! ومنحهم من بعد ذلك الثقة حتى يكونوا من قيادات الصف الأول مستقبلاً ، ومن ثم إختيار الأكفأ منهم لمنصب المدير العام ونائبه ومساعديه وفق ضوابط مهنية بحتة وليس الأنسب وفق التقديرات السياسية المعمول بها فى كثير من الأحيان والتى أضرَّت بالمنصب والمؤسسة لعقودٍ طويلة .. فأولئك الشباب هم الأمل والقاطرة التى ستتمكن الشرطة بقوة سَحبها من الوصول إلى الشاطئ الأكثر أماناً ورخاءًا ، وبالدولة السودانية إلى المجتمع الأكثر إستقراراً .. فهذه الشرطة ملأى بالخبرات والكفاءات من الضباط والأفراد ممن يُدركون الظروف الأمنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية التى تمر بها البلاد ، وقادرون على أداء رسالتهم وواجباتهم بكفاءة ومهارة وإقتدار دون السقوط فى أخطاء وأوحال ما قبل الحرب ، ولا يحتاجون إلاّ للثقة ومنح الفرصة الحقيقية لهم ، وقطعاً ستسعد بأدائهم المؤسسة وستسعدُ بهم بلادهم ..
فيا سيِّدى وزير الداخلية ويا سيِّدى مدير عام الشرطة أعيدوا فتح ورشة صناعة الرجال وإعداد القادة القدوة الذين يتميزون بموسوعية المعرفة وعمقها ، وبقاعدة أخلاقية تعصمهم من الوقوع فى سحر المناصب والتحول بها إلى التسلط والنزعة الديكتاتورية .. !! وحافظوا على هذه المؤسسة العظيمة وعلى منسوبيها وأعمدتها من خطر التجريف الذى آذاها وأفرغ من شرايينها الدماء ، ( وحتى لا تُفسِدَها الكِفاية ) وذلك من أجل هذا الوطن الذى يعيش فينا ونعيش فيه ويسكِنُنا ونسكنه .. وسَيبقى هَمَّ الإرتقاء بهذه المؤسسة غايتنا وغاية كل مهموم بهذا الوطن وأمنه وإن كانوا على الرصيف ، فخدمة الوطن أمرٌ لا يُحتَجُّ بالتقاعد للتقاعس عنه ..!!
نسأل الله أن يكون هذا الكشف العنانى البائس ( كصاحبه ) آخر كشوفات الإحالة التى تُخالف القوانين واللوائح والنظم الإدارية الموروثة والأعراف المرعية كما كانت الدماء التى سالت من سعيد بن جبير آخر القطرات التى تحَدَّرت من سيف الظلم الذى لم يُسَلَّط على أحدٍ من بعده .
حفظ الله بلادنا وأهلها وحفظ شرطتنا ومنسوبيها من كل سوء .