
اللقاء التلفزيوني الذى بَثَّته إحدى الفضائيات المملوكة لدولة الإمارات العربية والذى إستضافت فيه مؤرخاً جزائرياً مثيراً للجدل تحدَّث فيه بحديث الإفك والفتنة عن المجموعة الأمازيغية لم يكن كلقاء الشاعر المرهف جيلى عبدالمنعم فى رائعته مرحباً يا شوق والذى قال فيها : لَمْ يَكُنْ إلاَّ لقاءًا وافترقنا كالفراشات على نار الهوى جئنا إليها واحترقنا .. كان طيفاً وخيالاً ورؤى ثُمَّ ودعنا الأمانى وأفقنا بل كان لقاءًا خبيثاً أشعل الحرب الإعلامية بين البلدين حيث تناقلت الوسائط الإعلامية التقرير الإخبارى الذِّى بَثَّه التلفزيون الجزائرى الرسمى ردَّاً على تلك المقابلة التى إعتبرها تطاولاً ودعوةً للفتنة القبلية وإثارة النعرات الإثنية بين الأمازيغ والبربر والعرب وغيرهم فجاءت عبارات التقرير الطويل موجعة وموغلة فى الحِدَّة نشير إلى بعض المقتطفات منها كما يلى :
- إنَّ الإمارات تحوَّلت إلى مصنع لإنتاج الشَّر .
- إنه وبالرغم من حكمة الجزائر العريقة وتبصرها وتعقلها وسعة صدرها وعلى الرغم من كل تلك التنبيهات المباشرة والمبطنََة التى كانت ترجوا من المتآمرين أن يتورعوا تُصِرُّ الإمارات على إدارة ظهرها لكل ما سبق من مودَّة ، ولكُلِّ ما سُجِّل من مواقف داعمة وناصرة حين التأسيس قبل خمسة عقود .
- أنَّ الجزائرى لا يمكن أن يَغُضُّ الطرف عن الجرأة على وحدته والمساس بأسس هويته وثوابت دستوره .. فاليد التى تمتَّد تُقطَع والقَدَم التى تَطَأُ تُبتَر واللسان الذى يُطلَق يُقلَع .
- تجاوزت الإمارات هذه المرّة كل الخُطوط الحُمُر وكُلّ الحدود التى لايمكن أن تَغُضّ الجزائر الطرف عنها أو تسكُت .. !! ولن تقف باكية على أطلال ما قدمته للدويلة المصطنعة ولن تضع يَدّها على خَدَّها مُنشِدة قول الشاعر : وظُلم ذوى القُربى أشَدُّ مضاضةٍ ..!! لكنها وكما يفعل الشامخون سترد الصّاع صاعين .. ( إنتهى الإقتباس ) .
لقد أدركت الجمهورية الجزائرية منذ وقتٍ مبكر أن قادة الدويلة المُصطنعة كما أسمتها فى تقريرها الإخبارى هُم صُنَّاع الحُروب فى المحيط الإقليمى بسلاح المال وشراء الذمم .. يصنعوها أولاً فى عقول بعض النُخب ومبتدئ العمل السياسى وأصحاب الطموح فى الزعامة والرئاسة ومن ثمّ إنزالها إلى أرض القتال ليكون وقودها أولئك الحمقى من الببغاوات كما الحال مع أشاوذ المليشيا الذين يرددون بكل غباء الدنيا : ( إتنين بس يا نصُر يا شهادة ) ثم يرمون بأنفسهم فى المحرقة والهَلَكَة ..!! فالذى قام به التلفزيون الجزائرى هو مايجب أن يقوم به الإعلام الذكى والمحترم والقوى الذى يتنبأ بمآلات مثل تلك اللقاءات التى يوهمون المتلقى بأنها تأتى فى سِيَاق الرأى والرأى الآخر فى ظاهر الأمر ولكنها تُحدِثْ فى الواقع شُقوقَاً صغيرة جداً فى جدار الأمن المجتمعى ومفاصل الأمن القومى سرعان ما تتسع وتتحول مع الزمن إلى شروخ كبيرة تُسقِط بنيان الدولة بأكمله ..!!
وليتنا بعد إنتهاء حرب الكرامة نتعلم من الدول التى حولنا ونستلهم العِبَر من حوادث التأريخ المعاصر الذى لم يزل حاضراً ..!! ولانزالُ شُهوداً على أحداثه الغَضَّة .. ففى رواندا أُبيدَتْ أكثر من ثمانمائة ألف نفسٍ بريئة فى مائة يوم فقط بنداءٍ أحمق من شخصٍ موتور قال لهم عبر الإذاعة : ( إبدأو التطهير ) ضمن خطابات تحريض أخرى ..!! وليتنا نُدرِك أيضاً أنَّ الخطر لايأتى من بابٍ واحد بل دوماً يَطرُقُ كل الأبواب المفتوحة والموصدة ويأتى من أبوابٍ متفرقة .. فقد يأتى من إعلامى أحمق أو زعيم قبلى موتور أو سياسى متخلف أو نظامى خائن أو متمرد تائب أو حاكم طامع .. !! وقد يكون الباب الذى فيه الخطر مُتوارياّ وراء سطور التعليقات بمواقع التواصل الإجتماعى أو المقاطع المسمومة التى تُبث فى الفضاءات الإسفيرية التى لاسقف لها ولاذمام ولاخطام ..!! وتكون سبباً فى الإختلاف بين مكونات المجتمع وهو من السُنن الماضية فينا ، فمن الطبيعى أن يختلف بعض أهل السودان ولكن الخطر الأكبر ليس فى هذا الإختلاف بل فى تسليحه بالكراهية وإستغلاله فى صناعة عدوٌّ متوهم أو إيقاظ الفتنةٍ النائمة .. فحين يُستبَاح الوطن بإسم الإنتماء القبلى وحظوظ القبيلة .. وحين تتم مقايضته بالمكاسب والإمتيازات وبالرئاسة سيكون السير فى الإتجاه الخاطئ والإرتطام بالجدار فى آخر النفق ومن ثمَّ الإنهيار وإن بدا ظاهر الأمر خلاف ذلك .
ولعلَّ تلك الحِدّة والغضبة المُضَريَّة التى رأيناها تجاه ذلك اللقاء التلفزيوني الذى لم يكن عابراً ولا بريئاً ..!! كانت تُعبيراً عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها فى الحفاظ على كرامتهم الإنسانية قبل توفيرها لسبل العيش الآمن لهم ، وللنأى بهم عن الفِتنة ومثيراتها والحرب ومسبباتها فقد تعلمت الجزائر من عشريتها السوداء ومن غيرها أن الخطاب التحريضى لا يبدأ بالعنف والتخريب والدمار بل يُمهِّد له ويُغذّيه ويُبرِّره ، فهو لايقتل من يريد أن يقتل مباشرةً بل يوغر الصدور تجاه المجتمعات ويغتال أولاً قيم التسامح التراحم معنوياً بإفراغها من إنسانيتها حتى يُصبح القتل على الهوية واجب بطولى وأمرّ يدعوا للتفاخر ، فالمجازر لاتبدأ بالرصاص بل بالكلمات التى هى أقوى وأمضى وأسرع وأحَدَّ وأكثر فتكاً من الرصاص..!! هكذا علمتنا المأساة التى يعيشها السودان وأهله منذ أعوام ، وهكذا علمتنا حرب الكرامة بأن الكلمة التى تأتى فى سياق الفتنة وصناعة الفوضى ليست بريئة .. !! وأن الحرف الأبجدى إن كان من اللغات الحيَّة أو اللهجات المحلية إذا خلا من الضمير الإنسانى صار أداةٌ للهدم لاتقل فتكاً عن أم قدوماً عفن ..!!
فمع كثرة المنابر الإعلامية وكثرة ما يُكتب فى الوسائط عن حرب السودان التى يُرادُ لها أن تكون منسية ، ومع تلاشى الحدود بين الحقيقة والإدُّعاء يزداد أهمية الوعى بما يجرى كيف حدث ولم حدث ..!!؟ فالمسؤولية تقع على الجميع وعلى كل من يكتب ويعلق وينشر ..!! وليس على الدولة الحاضرة الغائبة فحسب ، ولاعلى النخب وهى فى عزلتها وبياتها الطويل .. !! فأهم خطوة نحو الأمن المجتمعى المأمول وبلادنا تنتظر التَطَّهُر الكامل من دنس المليشيا هى إيقاظ الضمير الجمعى لأهل السودان لمواجهة خطابات الكراهية التى تُطِّل برأسها من حينٍ لآخر وذلك بالرد الواعى والتعامل الجاد والصادق لا بالتجاهل ..!! فالغفلة كل الغفلة تكمن فى فقدان الإحساس بالخطر أو تجاهل الإحساس به والإعتياد على سماع الأصوات التى تدعوا لذلك دون أن نخاف على مستقبل هذا الوطن وإلاَّ سنُلدغ مرَّاتٍ ومرّات ومن عدة جُحور ..!!
ففى مرحلة ما بعد الحرب لانُريدُ تمجيداً ولا فرعنة للحكام بل علينا أن نكون عوناً لهم فى الحق بالمشورة والمناصحة كُلٌّ بما تيسر لهم من سبيل وهذا حقهم علينا لنحاسبهم أمام محكمة التأريخ بأفعالهم وأقوالهم .. ومن واجبهم تجنيب السودان الوقوع فى المطبّات والمزالق والهزَّات العنيفة وإقامة دولة العدالة والقانون بتقوية المنظومة العدلية وتقويم السلطة التنفيذية التى كثيراً ما تتطاول على العدالة وتَعتَبِر نفسها الخِصم والحَكَم بتَحَكُّمها فى أحكام القضاء لتُنَفٌِذها وفق ما تهوى .. !! فهل ياتُرى سنستفيد من الدرس الجزائرى وأن تكون كرامة الإنسان السودانى فوق كل إعتبار وأن تكون حقوقه جزءًا من سياساتنا وعلاقاتنا الخارجية ، وجزءًا من ثوابتنا الأخلاقية والقانونية ..!!؟ نأمل ذلك ونرجوه .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
الإثنين ٥ مايو ٢٠٢٥م