حين قدمتُ أوراق اعتمادي للرئيس التونسي الراحل، الباجي قايد السبسي، صيف العام 2015، انتهزتُ فرصة الدقائق المحدودة التي عادة ما تُمنح للسفراء في مثل هذه المناسبات، وعبرتُ له عن اهتمام بلادي بالحوار الوطني الذي أنجزه التونسيون وتطلعها للاستفادة من تلك التجربة، خاصة وأننا في السودان نخوض تجربةً مماثلة لحوار وطني شامل لا يستثني أحداً، ويجتمع على طاولته حتى حملة السلاح في وجه الدولة. ومما أدهشني وقتها أن الرئيس الراحل قال لي أنه يعرفُ السودان ويتابع أخباره ويعرف أم درمان وقد زارها في الستينيات (عرفت لاحقاً طبيعة تلك الزيارة وسببها المباشر)، وأضاف أن السودانيين أيضاً لهم من الحكمة والتجربة ما يمكن أن يفيد منه التونسيون.
كانت تونس وربيعها وقتذاك ملء السمع والبصر، ولم يمض وقتٌ طويل حتى نال رباعيها الذي رعى الحوار جائزة نوبل للسلام، فكان ذلك تكريما لأبرز منظمات المجتمع المدني التونسية. وبعد نحو عامين من ذلك اللقاء سمعت كلاماً قريباً من ذلك، في حقنا كسودانيين، حين زرت الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي لأقدم له دعوة لجنة جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي التي ترعاها الشركة السودانية للهاتف السيار (زين) ليكون ضيف شرف حفل الجائزة الختامي في الخرطوم، وكنتُ انتهزتُ الفرصةَ وحملتُ معيَ نسخةً من التوصيات الختامية لمؤتمر الحوار الوطني في السودان.
تذكرت تلك الوقائع وأنا أتابع هذه الأيام ما يجري في بلادي وما يدور بين ساستها وقادتها ومجتمعها المدني، وأرى عجزهم حتى عن اقرار مبدأ الحوار الشامل والاتفاق على الجلوس لطاولة حوار واحدة، دعك عن الاتفاق على تحديد أجندة الحوار وعلى قضايا الانتقال نحو الديمقراطية التعددية وكيفية إدارة فترة الانتقال لتنتهي إلى سلطة مفوضة شعبياً تستطيع التصدي لقضايا البناء الوطني ومشكلات البلاد المعقدة. مع إن التجربة السودانية منذ ما قبل الاستقلال وإلى أواخر عهد الإنقاذ غنية بتجارب التقاء المتخاصمين سياسياً لأجل المصلحة الوطنية العليا، والقبول بالآخر المختلف شريكاً في إدارة الشأن الوطني، فقد فعلها حزبا الإتحادي والأمة في برلمان الاستقلال في 19 ديسمبر 1955، وفعلها جعفر نميري في 1977 وفعلها عمر البشير في أكثر من محطة فاصلة كان آخرها الحوار الوطني الشامل الذي اختتم أعماله في أكتوبر 2016 .
كان أول علامات العجز عن إدارة الحوار وشموله هو اعتماد سياسة العزل السياسي مِن قِبل مَن تصدوا لمسؤولية الانتقال في أبريل 2019، ومن ثم ابتداع عبارة “ما عدا المؤتمر الوطني” التي أضحت لازمة عند المسؤولين كلما أتى أحدهم على سيرة الحوار وضرورة إشراك قوى المجتمع الحية في مناقشة قضايا التحول الديمقراطي، وبموجب تلك السياسة تم إقصاءُ طيفٍ واسعٍ من القوى السياسية والمجتمعية بحجة أنها شاركت النظام السابق في فترة من فترات حكمه، وكأن هذه القوى غير معنية بمستقبل بلادها، والحقيقة أنه ما من قوى سياسية أو مجتمعية في السودان إلا وشاركت النظام السابق في الحكم بمن في ذلك من يتبنون سياسة العزل والاقصاء اليوم !!
ثم أخذت ظاهرةُ العجز عن إدارة حوارٍ راشدٍ تتمدد داخل القوى السياسية التي سيطرت على مقاليد السلطة، فبدأنا نسمع عن استئثار أطرافٍ بعينها بالقراروإقصاء هذا الطرف أو ذاك، حتى انتهى الأمر بأن تقلصت القوى السياسية والمدنية التي تشكلت منها ما عرف ب “الحاضنة السياسية” من أكثر من سبعين حزباً وكياناً إلى ثلاثة أحزاب وبقايا كيان. ولم يمضِ وقتٌ طويل على ذلك حتى دخل الرباعي المحلي هذا في اشتباك مع شريكه العسكري وعجزا عن إدارة حوار بينهما يُفضي لتفاهمات تصحح مسار الانتقال وتجمع الناس حوله أكثر من أن تفرقهم، فحدث ما حدث مرة أخرى !!
اليوم تقف بلادنا على مفترق طرق، لا يفصل بينها وبين الانزلاق في طريق الحرب الأهلية إلا لطف الله وبقايا حكمة مركوزة في الوجدان السوداني تبحث عمّن يستنهضُها، فالأطراف المدنية ممن كانوا على سدة الحكم حتى وقت قريب، يصرون على الانفراد بتقرير مصير السودان دون بقية أهله، ويتبنون أكثر المواقف تطرفاً (لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة)، والشباب الذين شكلوا طلائع التغيير متفرقين بين لاءات الأحزاب وتراكم الأحزان على من فقدوهم بسبب عنف السلطة، وقطاعات واسعة من المجتمع تكتفي بالفرجة لأن السلطة لا ترتاح لظهورهم، والعسكريون عاجزين عن كسب ثقة القوى المدنية المتنوعة ليكونوا حكماً بينها، وعاجزين عن إثبات عدم رغبتهم في الاستئثار بالسلطة، وعن بعدهم عن المحاور الخارجية المنغمسة في الشأن السوداني الداخلي.
وبسبب هذا كله، يسود الساحة خطابٌ إقصائي متشنج ذو اتجاه واحد، فالجميع يريد أن يتحدث ولا يود الإصغاء للآخر المختلف، مما أنتج حالة ينطبق عليها وصف “حوار الطرشان”، اتسع معها خطاب الكراهية وتمدد، ومن أسفٍ أن الجميع يشارك في تمدده وتسيده الساحة، إن لم يكن بالأفعال والأقوال فبالصمت وغض الطرف. فكيف والحال هكذا يكون الحوار ممكناً أو منتجاً، وكيف ستنجو بلادنا من المزالق ونخبها إما عاجزة أو سادرة في سياسات الإقصاء !!
إن أخطر ما في خطاب الإقصاء والكراهية الذي يتسيد الساحة الآن هو نفي الآخر وعدم الاعتراف بوجوده من الأساس، فبعد أن تمت شيطنة كل ما يمت بصلة للنظام السابق، ها هي القوى السياسية التي تبنت تلك السياسة وحاولت تقنينها في وثيقتها الدستورية الممزقة، تشرب من نفس الكأس، فالشباب الذين يخرجون للشارع ويمتهنون التظاهر وتدعي تلك القوى أنها تمثلهم، قابلوا قياداتها باللعنات وطردوهم من المواكب ورفعوا شعارات “لا أحزاب”. فكيف ومع مَن يكون الحوار إن ألغينا القوى الحزبية، وكيف يمكن أن نحقق انتقالاً نحو الديمقراطية وهذا هو حالنا ؟!
قد يقول قائل: ها هي بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الفترة الانتقالية تأخذ بزمام المبادرة وتدعو القوى السودانية لحوار يُرجى له أن ينجح في إيجاد صيغة لعودة “القيادة المدنية” للفترة الانتقالية، و دون أن أستبق الأحداث أقول إن فرص نجاح مبادرة البعثة الأممية محدودة لأكثر من سبب؛ فالبعثة فقدت حيادها منذ وقت مبكر حين صنفت نفسها مع هذا وضد ذاك، والأساس الذي قامت عليه المبادرة ممثلاً في العودة للوثيقة الدستورية هو أساس منحاز لفئة من الناس دون الآخرين، وهو مع ذلك تجاوزته الأحداث، فضلاً عن كونها – المبادرة – بدأت بتثبيت نهج الإقصاء الذي أوصل البلاد إلى ما هي فيه، ولهذا فإن “أفضل” ما يمكن أن توصلنا إليه البعثة هو ما أوصلت إليه نظيراتُها كلاً من ليبيا واليمن، ولا أقول سوريا التي جاءنا منها رئيس البعثة .
إن السبيل الوحيد لأن يتجاوز السودانيون مصائر من سبقوهم إلى أوضاع التشظي المجتمعي وانفراط عقد الدولة، هو أن تتصدى القيادة العسكرية الحالية، مهما يكن الموقف منها، لمهمة توحيد الصف الوطني، وتنتدب من بين حكماء السودان وخبرائه من يتولون صياغة مبادرة شاملة، تعيد الثقة للقوى السياسية في نفسها وترفع مواقفها و سلوكها فوق خصوماتها الضيقة وتشدها نحو سقوفات الوطن وتحدياته الراهنة، حتى يصبح بالإمكان استنهاض الحكمة المركوزة في وجدان الشعب والتعبير عنها في شكل برنامج موقوت يتراضى من خلاله الجميع على أفضل السبل القانونية والإدارية للاحتكام إلى الإرادة الشعبية في انتخابات حرة ونزيهة تُجرى في أقرب أجل ممكن. وعلى البعثة الأممية في هذه الحالة أن تمتثل لإرادة السودانيين وتقدم لهم كل الدعم الذي يطلبونه للعبور ببلدهم نحو التحول الديمقراطي والاستقرار السياسي.
كاتب صحفي وسفير سابق •