انظر بقلق لمستقبل هذا البلد الحبيب ، الغني في تنوّعه الثري بموارده، والذي ظل كمعظم دول ما بعد الاستعمار يتخبط في شبكة من الأزمات التي كبّلته وأقعدته ومزقّته ، وجعلته دولةً فاشلة وقد انفصل عنه جنوبه بعد حربٍ استمرت لأكثر من خمسين عاماً ، وكانت وما زالت ازمة السودان هي نخبه والتدخل الخارجي . لقد كنت اقضي الساعات الطوال في مبنى الارشيف البريطاني في ضاحية كيو – ريتشموند اللندنية الهادئة ، وضمن ذلك الارشيف الأهم في العالم والذي يحوي وثائق تمتد لألف عام ! كما تقول ديباجته ، وثق الانجليز للرجال والمال والاحداث في السودان !! كنت كلما طلبت ملفاً اجده يقودني الى ملفٍ آخر .. وتدمع عيناي حزناً !! فلنخبتنا تاريخٌ اقل ما يوصف به انه غير مُشرِّف !! .. في أيامي الاولى بين تلك الوثائق صفعتني الحقائق بقوة مرةً تلو الأخرى حتى صفا عقلي من الصورة الزاهية التي كانت في مُخيلتي ! واصبح هذا المبنى هو وجهتي المفضلة كلما زرت هذه المدينة النابضة بالحياة و المليئة بمصادر المعارف ، وفي كل مرة أجد وثائقاً جديدة رُفعت عنها السريّة لاستيفائها المدة الزمنية المطلوبة، ومازالت مئات الملفات محجوبة !!
اكتشفتُ ان بلادنا هذه لم تكن في تاريخها بعيدةً عن التدخل الخارجي فمنذ قرنين كانت مسرحاً للتنافس الاروبي لاسباب اقتصادية ولمعتقداتٍ تتعلق بجماعات باطنية ذات نفوذٍ هناك ، لقد بدأ الوجود الغربي في السودان مع العهد التركي ، وكان بالخرطوم 34 قنصلية غربية في القرن الثامن عشر !! وكان المتصارعون في اوربا متحدون هنا ويتقاسمون النشاط التجاري والتبشيري حيث يسيطر الالمان على تجارة وصناعة الذهب بينما البريطانيون وغيرهم يسيطرون على تجارة الرقيق!!
في ظل الهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية ، تراجعت التدخلات في السودان والمستعمرات عموماً ، ولكن ما ان استشعرت بعض الدول الاروبية أن العالم على ابواب نسقٍ دولي جديد متعددِ الاقطاب ،حتى قررت ان تضمن لنفسها موطئ قدم فيه على حساب اميركا التي يتعرض نفوذها للاختبار ، فعملوا بتناغم على إعادة السيطرة واقتسام النفوذ في مستعمراتهم القديمة ومن بينها السودان ، وهذا عين ما سبق وفعلوه في مؤتمر برلين 1885، والذي تدفع ثمنه الكنغو حتى اليوم !! ،لم يتوقف التدخل الغربي بالسودان ، وظلّت كثيرٌ من نخب هذا البلد المنكوب منذ تاريخٍ بعيدٍ صنيعة لهم يحرسون بهم مصالحهم وينفذون عبرهم خططهم مقابل فتات !! ! ولكن ما يجري اليوم في بلادنا تفوّق فيه الخلفُ على السلف ، فما يوثّقه بعض الدبلوماسيون والمخبرون في الخرطوم اليوم ويتداولونه ، سيجعل إحداهن او احدهم بعد ربع قرنٍ او نصفه يجلس مثلي في ارشيفٍ ما .. وهو يبكي بوجعٍ شديد ..لأنه سيعلم حينها كيف تم بيع وطنه بدراهم معدودة او بجنسيةٍ وعقار او منحة دراسية لابن او ابنة .. !! إن التاريخ لا يرحم ولا يستُر.
ان النخبة مؤسسة هامة لا يمكن تجاهلها ففيها عقلاء و مخلصون لبلادهم ، وهم الذين اناشدهم هنا للتكاتف والتآزر ، كونوا شجعاناً ومبادرين ، فمصير بلادنا ووجودها على المحك ، ورغم ان جُلّ ازمات السودان التاريخية لا تخلو من صناعة ، غير ان هذه المرة مختلفة ، لان هناك قوىً عجلى تهدف للسيطرة على البلد بسبب موارده وموقعه .
- ايها العقلاء لديكم فرصة لانقاذ بلادكم ، فاغتنموها ،اما الذين باعوا انفسهم للشيطان فإن التاريخ كفيلٌ بهم .
- اجتمعوا على الحد الأدني ، ولعَمري هو عظيم ..اجتمعوا على ان تحافظوا على استقرار هذا البلد وأمن شعبه.
- إجتمعوا على الحوار بذهنٍ مفتوح ، وبإرادةٍ حُرة حول اعادة بناء الدولة السودانية لأول مرة على أُسسٍ جديدةٍ عادلة وواضحة ، ولنعترف أن هذه البلاد عقب استقلالها افتقدت وجود رؤيةٍ سليمة ومشروعٍ جامع ولذلك فشلت ، ولن تبنى دولة المؤسسات بين ليلةٍ وضحاها ولكنها تتشكل تدريجياً بفضل وعي النخب وقوة القيادة والمؤسسات .
- إن الحديث عن البناء والاصلاح المؤسسي يقتضي الاتفاق على الأُطر الدستورية الهادية والمؤسسات المطلوبة واختصاصاتها .
- اتفقوا على دولة القانون بمؤسسات قوية تحرس تطبيق العدالة وتحافظ على النزاهة وتلتزمُ بالشفافية و محميّة من تدخل السياسين.
- اتفقوا على إصلاح المؤسسات القائمة كالقوات المسلحة والقضاء والشرطة ، فهذه المؤسسات بحاجة للإصلاح والتطوير والمواكبة بعد أكثر من مائة عام من انشاء الانجليز لها ، وفي هذا معالجة للإنشغالات الموضوعية لطيفٍ مُقدر من النخب الحريصة على سلام هذا البلد واستقراره وتطوره ، ومعلومٌ بالضرورة ان هذا الاصلاح ليس فوري ولا منفرد بل هو ضمن برنامج إصلاحٍ مؤسسي شاملٍ و متكامل ومتدرجٍ للدولة ، وفق رؤية تحوز على قبول اغلبيةٍ راجحة ، فطلبُ الإجماع هو محضُ ترف فهو لم يحدث يوماً في تاريخ البشرية .
- اتفقوا على نظام حكم البلاد هل هو رئاسيّ ام برلمانيّ ام مختلط ؟ اتفقوا على ادارة البلاد هل عبر حكمٍ مركزيّ ام لا مركزي ؟ اقليمي ّ أم ولائي ؟ إتفقوا على تقويَّة مؤسسات الإعلام لتكون جزءاً من عملية الاصلاح والبناء ، وذلك بسن نُظم وقوانين تحمي الحريات وتحفظ الحقوق.
- اتفقوا على منهج واضح وعادل في توزيع السلطة والثروة ، وكيفية استغلال الموارد وادارة الاقتصاد ، حتى يصب ذلك لصالح الشعب معاشاً وخدمات
- اتفقوا على حكومة قومية انتقالية كفوءة ومحدودة ومرنة ، تراعي مخاوف العسكريين وتعزز مكاسب المدنيين ، فهذه فترة ليست للتكسب الحزبي ولا الشخصي بل لاعادة تأسيس دولة امامها فرصة للنهضة .
- اتفقوا على نظام انتخابات يتيح للاحزاب الصغيرة مهما كان حجمها ، والشباب والنساء المشاركة في مؤسسات الدولة واهمها البرلمان التأسيسي .
- ايها العقلاء ان الروح الاقصائية لدى النُخب وتابعيها سبق أن دمرّت دول وقضت على مجتمعات ، وهي تستشري وتتمدد حال افتقار البلاد للقيادةِ الجريئة و القوية والحكيمة في مثل هذه الأوقات ، وهذه وصفة خطرٍ ماحقٍ لكل استقرار وأمن !! ، ما ضرنا اذا تقبلنا بعضنا بعضاً ، وتذكرنا أننا بشرٌ نخطئ ونصيب ، وان المفلحين هم الذين لديهم رصيدٌ من التجارب يتعلمون منه ويبنون مستقبلهم ، حينها ستتوقف سباسة الهدم لما سبق ، فكلما أتت امةٌ لعنت سابقتها وهدمت ما شادته !! علينا أن نفعل ذلك رغم الاختلاف في التقديرات والمواقف ليس فقط لأجل هذا الوطن بل لأجل انفسنا كذلك فإن تشظى هذا البلد هلكنا جميعاً !! والذي أرى يقيناً أنه أن تمزق فسيكون بسبب النخب المتخندقةِ في مربعات الاقصاء المتبادل والكراهية المتبادلة والذاتيّة .
- لابد من حراكٍ ايجابيٍ نحو الغد ، وإلا ستصل البلاد لمرحلةٍ خطرةٍ سيقبل فيها اهلها المرتبط مصيرهم ومصير ابنائهم بها باي خيارٍ يوفر لهم الأمن من الخوف والجوع ..وهي اولويات المواطن العادي بعيداً عن أنساقِ النخب وانشغالاتها ،وفي هذا تعطيل لمشوار طويل في طريق الاصلاح …
-إني اخشى من حالٍ سبقتنا اليها دول فتبعثرت وتفرق اهلها أيدي سبأ ، اخشى من لحظةٍ لا يُسمعُ فيها إلا صوتٌ البندقية،وهذا يقتضي أن تخرج النخب والفاعلين من ضيق أنا الى وُسعِ نحن …