(1)
(تم مواراة الجثمان بالقليته والعزاء بالقرية ٧ عرب حلفا الجديدة)، تلك حقيقة الموت، ونقص الأرض حين تصعد أرواح القامات وتهتز الركائز.. فقد كان رحيل الشاعر الأديب د. أحمد ود الفكى أحمد، كل ذلك، حزن في الفؤاد وغصة في الحلق وحرقة في الحشا وعيون تملأ حقن العيون، وكما قال الحردلو :
ليل الغمة هود والبروق أتلالن..
دموع الوجعة جن مثل السحابات شالن..
ملن حقن العيون لكنهن ما سالن..
ما من قلهن، لكن في الخدود ما خالن..
والبكاء على ود الفكى يأتي بلا إستئذان، وكما قال الفرجوني في رثاء حسان ابوعاقلة :
يبكوا الناس على الناس بالدموع الجارية..
ويبكنك نفايلاً للمكارم حارية..
مغبون السحاب تكتل بروقه الفارية..
هادي دموعه نزلت فوق بطانتك سارية..
رحم الله شاعرنا احمد محمد حمد حسان (ود القليته)، فقد كان موسوعياً في علمه بالتراث والشعر (قديمه وحديثه)، يحدثك عن حسان الحرك وشعره في (شمه) كما يأخذك بسلاسة في شعر النابغة الذبياني، ويجول بك في مخيل صفي الدين الحلى وتعجبه قوة بيان عنترة و يقارن بين أمرؤ قيس والحردلو، كل ذلك بلغة رصينة، وهو لم ينل تعليماً نظاماً واسعاً.. ولكنه نهل من مكتبة الوجدان الشعبي ومن رفوف المكتبات ومن الباحثين والمؤرخين، وفوق ذلك حفظ القرآن الكريم وتربع في حلقات الخلاوي، مثلما ارتاد مجالس فكر وذكر ..
فقد عظيم رزئت به البطانة نهار الإثنين ٢٢ مايو ٢٠٢٢م، فقد أنهد ركن وسحارة للأدب وبحر للثقافة..
(2)
(سجاعة البلبل الفوق الغصون بتصيح..
بتنقر حرحرة قلبي اللسانو فصيح..
سبيكة الصافنات الغر بنات الريح..
هي الجراحها حاقن في فؤادي القيح)، هكذا شعره، قوة فى التعبير وأصالة في المعنى وغزارة اللحن والنظم وسعة الخيال والقدرة على الحبك وبلاغة في المفردات، يزاوج بين دارجة البادية والحضر، دون إخلال بالقافية والوزن :
أهيلك يا ام وشاح ما بين جياد وعكاظ..
جحافل قوم وليهم تنسب الألفاظ..
أسرني هواك، سحقني وفي (بق) شواظ..
أريت كان قبيل سمعت فيك نصيحة الوعاظ..
وقال في مربوعة أخرى :
سخلة ود فهيد الشارفة للرفاف..
ديسك ليل وخدك للبهيم كشاف..
أزايا وطب جروحي الدمهن هتاف..
فيك يا مسيكة الكاف على الصفصاف..
شاعر حساس لقيمة الشعر وتأثيره، وباحث في خباياه دون كلل..
وأكثر ما يدهش معلقة (روضة العشاق) و (بريق) دوحة العشاق وبشاشة الناس ورائحة الأمكنة ومطر الخريف ونسيم الصباح والحبيبة ومحيا الوجوه ، لغة آسرة وسباحة رفيقة في بحر الشعر :
يا روضة العشاق سحابك هجعة..
(لعلع) وأنتحب صبّح بلابلك سجعة..
جسوماً لدنه كانت في رباك مضجعة..
يبقى مقيمة ولا (حدوجها) نجعت نجعة..
وقد لاحظت ان البعض يكتبها (حدودها)، وهذا خطأ، فالحدج هو الرحل وأقرب للهودج، وكما قال الأعشي :
أَلَا قُلْ لِمَيْثَاءَ: مَا بَالُهَا
أَلِلْبَيْنِ تُحْدَجُ أَحْمَالُهَا؟
وكذلك ابو الطيب المتنبي في قوله :
إذا سَارَتِ الأحداجُ فَوْقَ نَبَاتِهِ
تَفَاوَحَ مِسكُ الغانِياتِ وَرَنْدُهُ
وذلك بحر واسع تتطلب دراسة متأنية، وتدوين حصيف ومثابر..
..
ونعود الي تطريب د. أحمد الشعري وهو يقول :
حياك الحيا وجُرد البِطاح أنبتْها..
ويا بريق الزمن جار والوصال أنبتّ..
ال من فراقها سِنة النوم عيوني أبتْها..
خده الوردي ما لي غير رؤاه البته..
..
سبحان الله يا بريق الزمن غيّار..
بيدني عزول ويبعد سادةً أخيار..
أجِده حنيني أشدو وساجع الأطيار..
جميل المحيا شرف من دياره ديار..
وحلق في تعبيره بعيداً في ترحاله العفيف :
يا ماشي الشمال بالله روح وأشرح له..
وقول له فؤادي دون الناس لِحاظه جرح له..
أعجب من شقى وصد الحبيب برّح له..
عند النوم يشوف طيف الخيال ويفرح له..
(3)
أحب د. أحمد (القليته) البطانة بأرضها وطيبة أهلها وعمل بجهد لتنميتها مع القيادات الأهلية، ومع مؤسسات الدولة وكان احد رواد مخيم البطانة، ومع مؤسسات المجتمع المدني فقد كان ناشطاً في برامج الأمم المتحدة للتنمية وقصيدة (سلمي) من معايشته لهذا الجيل الجديد، وبين يديه عصا أهداه له الأمير عبدالرحمن الصادق المهدي، ومنذ العام ٢٠٠٨م كرمته جامعة النيلين ومنحته الدكتوراه الفخريه في الأدب..
ومع ذلك لم تجد مؤسسات الثقافة ومنابرها ووزارتها (فسحة) من حروف لتعزي فيه، هذه حكومة غارقة في وسط الخرطوم وبعض (نتف) الشعر والإهتمامات.. سيعزي أهل البطانة فقيدهم وستؤرخ الأجيال لتجاربه فهذه مقاصد للبقاء ويذهب زبد قصار النظر..
رحم الله الشاعر الأديب احمد ود الفكى حمد أبوسن، فهو بيت نظارة وفخر قبيلة وعنوان منطقة ومنارة ثقافة..
والعزاء لأسرته وأهله وعارفي فضله.. إنا لله وإنا إليه راجعون..