حول الدعوة للحوار والتوافق والتوجه نحو المستقبل .. لا للعزل السياسي، نعم للديمقراطية التوافقية والعدالة الإنتقالية
✍️ عبدالله عبيد الله
تداولت مواقع إلكترونية ومجموعات بالواتساب مساهمة من الأستاذ عبد المطلب عطية الله المحامي تحت عنوان ” الحوار والتوافق والتوجه نحو المستقبل” حول الأزمة السياسية الراهنة وسبل الخروج منها – يجدها القارئ أسفل هذا التعقيب. تضمنت المساهمة توصيفا للازمة والمآلات المحتملة لها، يتفق معها كاتب هذا التعقيب بشكل عام. إلا أن مقترحات الحل المقدمة بها إشكالات عديدة، وقنابل موقوتة ستعيد إنتاج الأزمة وتتناقض مع الدعوة للتوافق والتوجه للمستقبل كما حملها العنوان.
العزل السياسي:
دعت المساهمة ، للعزل السياسي للمتورطين في جرائم الفساد والاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان، لكنها لم توضح ما إذا كان ذلك سيطال الأفراد فقط أم الأحزاب التي ينتمون إليها؟ .. وما هو المدى الزمني الذي ستشمله المساءلة عن الجرائم التي بموجبها يتم العزل؟ وما التعريف القانوني للاستبداد؟ وهل يوجد حاليا قانون للعزل السياسي، ام سيستحدث قانون جديد..ومن سيضع هذا القانون وليس لدينا سلطة تشريعية منتخبة، وما الضمان أن من يصيغون القانون سيفصلونه على مقاس خصومهم السياسيين. وكيف يطبق القانون مع القاعدة المعروفة أن القوانين لا تسري بأثر رجعي؟
إذا كان العزل السياسي سيكون للأفراد فهذا أخف وطأة، رغم أنه لا يخلو من إشكالات قانونية. أما إن كان سيطال الأحزاب فهل من قوة سياسية سودانية ليس لها نصيبها من الفساد والاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان. الحقيقة المؤسفة أن العنف والانتهاكات قد لازمت تاريخنا السياسي منذ الاستقلال بدءا باندلاع حرب الجنوب في 1955 واستمرارها بشكل أو أخر حتى 2004، وما رافقها من مآسي وانتهاكات أدت لانفصال جنوب السودان في 2011، و مجزرة عنبر جودة أغسطس 1956 تحت حكومة السيدين، وأحداث الأحد الأسود في ديسمبر 1964، مرورا بمجزرتي الجزيرة أبا وودنوباوي في 1970، و مجزرة قصر الضيافة يوليو 1971، ومذبحة الضعين مارس 1987، خلال الديمقراطية الثالثة، وحتى الصراع في دارفور منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي وحتى الآن وغيرها كثير. إذن من يحاسب من؟ ومن يعزل من؟ من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
الفساد والاستبداد:
لئن كانت المحاسبة القانونية العادلة لكل من أفسد في الماضي القريب أو البعيد مطلوبة، مهما كان موقعه واتنماؤه السياسي ،غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مسوغا لعزل اي حزب سياسي. وبالنسبة للاستبداد فيصعب تعريفه قانونا بما يوفر أساسا لإصدار حكم بالعزل السياسي. أما سياسيا فالاستبداد نقيض للديمقراطية. وهذا يفتح المجال للفرقاءالسياسبين بتبادل الاتهامات بمعاداة الديمقراطية والاستبداد. فمثلا الهدف النهائي للحزب الشيوعي هو إقامة “ديكتاتورية البروليتاريا” ، وهذا بالنسبة لكثيرين قمة الاستبداد، وتجارب الحكومات الشيوعية في كل العالم تؤكد ذلك. وعقيدة حزب البعث العربي الإشتراكي تقوم على تفوق قومية بعينها، العرب، على من سواها، فضلا عن أن تجربتي حكم البعث في العراق وسوريا، حيث نشأ الحزب وحكم، هما من أسوأ تجارب الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان التي عرفها العالم المعاصر. وبالنسبة العلمانيين فإن “الدولة الإسلامية” التي يسعى لها الأسلاميون هي دولة استبداد ديني. والأحزاب ذات الخلفيات الطائفية هي الأخرى في نظر خصومها تجسيد للاستبداد وااديكتاتورية، لأنها لا تسمح بالديمقراطية داخلها أو بانتقال قيادتها لمن لا ينتمي للبيت الذي تتبع له. فهل ستحظر كل هذه الأحزاب لاتهامهما بالاستبداد؟
المسطرة الأخلاقية :
يشير الكاتب اإلي ضرورة استخدام “مسطرة الموقف الأخلاقي من النظام الاستبدادي”- الواضح أن المقصود هنا نظام الإنقاذ دون غيره من الأنظمة السابقة- لتحديد القوى التي تحق لها المشارك في الفترة الإنتقالية. لكن هل يمكن أن توجد مثل هذه المسطرة فعلا. إذا وجدت فعلا فلن تبقى أحدا من القوى السياسية، فكل من شارك في مؤسسات ذلك النظام أو مؤتمراته أو نال عطاياه وأوسمته، اوأغتني من التعامل مع مؤسساته الاقتصادية ستطاله المسؤولية الأخلاقية.
كذلك لم تقتصر “المحاسبة الصارمة والعادلة” عن انتهاكات الفترة الانتقالية على المكون العسكري فقط.؟ . ألم تكن هناك انتهاكات من المكون المدني.. أليس هناك مدنيون مسؤولون ولو جزئيا عن بعض انتهاكات المكون العسكري بالتواطؤ اوالمشاركة الفعلية في بعض الأحيان ؟العدالة لا تتجزأ.
الدعوة للعزل السياسي، وحرمان اي مجموعة سياسية من حقها في العمل والنشاط، هي امتداد للشعارات المغلقة من شاكلة “لا تفاوض،لا شراكة، لا اعتراف” التي رفضها الكاتب، وهو محق في ذلك، لأنها تعني موت السياسة، وإحياء العنف والاحتراب. الأفكار السياسية لا تواجه بالحظر ومحاولة الإلغاء وقد جربنا ذلك خلال الأنظمة الديمقراطية والديكتاتورية، ولم تورثنا إلا الصراعات المسلحة والاضطراب السياسي والاجتماعي والانهيار الاقتصادي، بينما ظلت الأفكار والمجموعات السياسية التي أريد حظرها حية. في أجواء الحرية والديمقراطية وحدها تزدهر وتقوى الأفكار السياسية القادرة على العيش وتموت وتذبل تلك التي فقدت مبررات وجودها واستمراريتها.
العدالة الانتقالية :
ما تحتاجه بلادنا ليس مزيدا من التطرف والمواقف الصفرية والإقصاء والشيطنة المتبادلة، وإنما إعمال العقل والحكمة لاستخلاص الدروس من تاريخنا المعاصر الملئ بالعنف والدماء وتجارب الشعوب التي مرت بما مررنا به من أزمات وصراعات. خلاصة تلك الدروس انه لا سبيل أمامنا سوى القبول بعضنا البعض، على أساس المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات والمواطنة، والإلتزام الصارم بالديمقراطية التوافقية وحكم القانون وحقوق الإنسان. ولا بد أن تكون البداية بانتهاج وسائل العدالة الانتقالية ممثلة في مفوضيات الحقيقة والمصالحة كما حدث في جنوب أفريقيا، وروراندا والمغرب.