كثيرون يسألونني ..
كيف أنظر إلى ( عيد الحب ) ، الذي
يصادف يوم ١٤ فبراير من كل عام ..
و أجدني في كل مرة متردداً مخافة
أن أُضل طريق التعبير القويم
و المستقيم ، و ها أنذا أقول ..
هذا ( سوق الحب ) و ليس ( عيدهُ ) .. فما أراه في الواقع هو سرابٌ بِقِيعَةٍ
يَحسبُهُ الظمآنُ ماءً ، أو كأن تسمع
جعجعةً و لاترى طحناً ، فكل شيءٍ
في هذا اليوم باسم الحب مبذول
و موجود ، إلا أنَّ كُنْه الحب نفسه
مفقود و موؤد ، رغم توَرُّد
الخدود و إهداء الورود ، و كل ما
هناك ليس سوى تنفيس و تدليس
و تلبِيِس إبليس ، في أغلب مظاهره ،
و ليس كلها ، إذ لا يخلو أيُّ فعلٍ
إنساني من إشراقات و تجليات ..
و قناعتي ..
ليس هناك ما يضير إذا اتخذ الناس
لهم يوماً ، أو مواقيت ، يُقْبِلون فيها
على بعضٍ بحبٍ ، و يُكْثِرون من أفعال الحب ، و ينثرون كلمات الحب ،
و يتغنون بحُبٍ للحب ، ذلك أن الإنسان قد تعَوَّد في حياته أن يَتخَير أوقاتاً يُضاعف فيها من مشاعره
و عواطفه تجاه من يحب و ما يحب ..
و إن كنت أرى أن قليلاً مُستمراً أفضل
من كثيرٍ مُتَقَطِعٍ ..
و أنا أدعو بإلحاحٍ إلى الإعلاء من شأن الحب في حياتنا ..
و لعلي أجدُ أن أعلى مراقي ( الحب ) هو الإقبال بنُبل ..
و الذي هو ..
اعتراف بالجميل
و تعلُّق بالجميل
و سعي للجميل
و فِعْل للجميل
و الذي هو ..
أن تُقْبِل على الآخرين بروحٍ مُحِبَةٍ ، تتعلق بأحسن الأخلاق و تنفر عن القبيح ، و بفؤادٍ يستهويه الطيِّب
و يستَرِقه الحَسُن ..
و الذي هو ..
أن تغْبِط ، و لا تغْمِط الناسَ أشياءَهم بأن تقول لمن أحسن : ( أحسنت ) ،
و تعوِّد لسانك على كلمة : ( شُكراً ) ،
( و شكراً ) ليست مجرد أربعة أحرف
تُقال هكذا ، و لكنها دفقة من طاقة
إيجابية تُعبِّر عن التقدير و الامتنان ..
و الذي هو ..
أن تحمل نفسك حملاً على التغاضي
عمَّا يصيبك من أذى و ( تنمُّر ) ، و ذلك
بكظم الغيظ و بذل العفو و أن تقول
( سلاماً ) إذا خاطبك الجاهلون ،
و تظل تترفع و تتعالى و تعلو فوق
جهل الجاهلينا ، و هو ما يفعله ( النسر ) ، فقد ثبت أن الطائر الوحيد
الذي يستطيع أن يمتطي ( النسر )
هو ( الغراب ) ، يجلس فوق ظهره
و يظل ينقر رقبته لإزعاجه و استفزازه ، لكن ( النسر ) لا يقاومه و لا يهجم عليه ، فقط يقوم بالتحليق في السماء عالياً فيختنق ( الغراب ) و يسقط ..
و الذي هو ..
أن تُحِبَّ من تُحبُه لذاته ، و تتفانى
في إرضائه و إشباعه و إيناسه ، ذلك
أن الحب لا يعرف الكبرياء و الترفع
و التعالي ، و أن لا تمر مرور الكرام
على قلبٍ يود لو يفرش شِغافَه تحت
قدميك ، أو كما قال أرباب الهوى ..
و الذي هو ..
أبعد ما يكون عن الهِياج الرغائبي
و الابتذال و دغدغة الأحاسيس لوطرٍ يُرادُ و وتَرٍ يُداعبُ ، ثم الانصراف بعد قضاء الوطر و انقطاع الوتر ..
و الذي هو ..
عطاءٌ دون انتظارٍ لِمُقابل إلا بما
يُماثله و يكافئه ، ذلك أن الجزاء من
جنس العمل مُستَحَب و مرغوب ،
وكما قال شيخنا ( محي الدين بن عربي ) ..
( كلّ حُبٍ يكون معه طَلَب
لا يُعَوَّلُ عليه ) ..
و الذي هو ..
صدق و إخلاص و وَلَه ..
( أنا لست أدري أي دربٍ أسلك
كل الدروب إلى لقائك تُهْلِكُ
إنَّ الذي بيسار صدري واحِدٌ
خُذ واحداً تدري بأنك تملِكُ
مالي سواك فلا تُغادرُ عالَمي
أتَطُن أني في هواك سأُشْرِكُ
لا والذي أجراك بين نسائمي
إني أُحبك ليت قلبك يُدْرِكُ ) ..
و الذي هو ..
جماع الأخلاق القويمة و العظيمة ،
و التي بها نعيش حياتنا أضعافاً
مضاعفةً من الراحة و الاطمئنان ،
و بدونه ننحدر إلى قاعٍ سحيق من الخُسران و الخُذلان ..
و الذي هو ..
الحياة بأنصع معانيها ..
و بكل معانيها ..
و لكل معانيها ..
و أن ترتقي هذه العلياء فعليك أن
تُهيئ نفسك لمشوارٍ من المُكابدة
و المجاهدة و المُدافعة ..
ذلك أن الحب إحساس داخلي يحتاج
باستمرار إلى الرعاية و السُقيا قبل أن يصير تعبيراً شائعاً بين الناس و هو يتَحَسَّن بتحسن حياتك ..
و ( تتحسن حياتك حين تتحسن أنت
و ليس سواك ..
و يضيء عالمك الخارجي فقط إن
أمضيت ساعات و ساعات في
تحسين نفسك التي بين جنبيك ..
أن تكون الشخص المرغوب ،
و تفعل المحبوب هما الشرطان
المسبقات لتنال ما تريد ..
أعرف بوضوح الشخص الذي تريد
أن تكونه لتتقدم خُطوةً إلى الأمام )..
و لن تتقدم خطوة إلى الأمام بدون
الحب ..
و إن تقدمت إلى الأمام بدونه فثق
تماماً أنك ستَنكُصُ على عَقِبيك
بأسرع ما يكون و تنهار و تَهْوِي ..
إنَّ الحب فكرة و مبدأ و منهج ،
قبل أن يكون عاطفة و أشواق ..
و إنَّ ( الحُب ) ليس عطية أحد لأحد ..
و لا يُشتري ..
و لا يُعار ..
و لا يَشرِق علينا بل يشرِق فينا ..
و الإنسان لا يصدر عنه الحب إلا من نفس تفيض به ، ذلك أن فاقد الحب
لا يعطيه ، و من كان ( حِبْرُه ) أسوداً
فلا تنتظر منه أن يرسم لك ( أقواس قُزَحٍ ) زاهِيةٍ ..
و أبعد المشاعر عن التَكَلُّف
و الاعتساف و الرياء هي عاطفة الحب ، ذلك أنها كالمعدن النفيس ، من السهل جداً أن تتبين صادقه من كاذبه ،
و خالصه من زائفه ، الأمر الذي سرعان ما يكشفه تعاقب الليل و النهار ..
إننا بلا شك نعيش بخيرٍ و في خيرٍ
و على خيرٍ ، إذا ما انطوينا على حُبٍ ..
أما إذا انتفى الحب ..
فلا تصمد علاقة ..
و لا يطيب عيش ..
و لا يلتئم شمل ..
و لا تتحقق سعادة ..
و كما أن هناك أُناسٌ أغنياء بالحب ،
فهناك أناس فقراء من الحب ..
غنيُّ الحب تجده سمحاً و سهلاً
و مُتسامِحَاً و رقيق الحواشي ..
و فقير الحب تجده كالِحاً قاتِماً
مُكْفَهِراً ، كالذي يتخبطه الشيطان
من المس لا يقر له قرار و لا يُؤْمَنُ
له جانب ..
و الحب كضوء الشمس لايتوارى
بل يتسلل من كل ناحية مُعلِناً عن نفسه ، فتراه و تحسه و تنفعل به ،
و هذا شأن كل جميل و صفته ، فلا يُمكن أن تدعيه و باطنك فارِغٌ منه ،
و كذلك ( القُبح ) يأبى إلا أن يطفح
و يطفو على السطح ، و هو ما ذهب إليه ( روبرت موقابي ) :
( عندما يبدو منك القبح فأنت قبيح ،
إذن توقف عن الحديث عن الجمال
الداخلي ، ذلك أن الناس لا يتعاملون
معك عبر ( X ray ) أي الأشعة
السينية ليروا ما بداخلك ) ..
‘’ if you are ugly , means you are
ugly , stop talking about inner
beauty ، because people don’t
walk around with ”X ray”
mashines to see inner beauty ‘’
نعم ..
و أنت تُحِب قد تجد مالا تحِب من
صنوف الإحباط و الانكسار ، و لكن سرعان ما يأتي العِوَض ، خاصة فيما
يلي ( الهُيام ) و الذي هو أرفع
درجات الحب ..
و هو ما جعل أحد المُلتاعين يجيب ،
عندما سئل عن الصعب و القاسي
و الارتياح ..
( الصعب في الدنيا أن تحب شخصاً
واحداً و تخسر الكل لأجله ..
و القاسي أن يخذلك هذا الشخص
و تتذكر أنك تركت الكل لأجله ..
و الارتياح عندما لا تجده ولكن تجد
مِن حولك من تركتهم من أجله ) ..
فعليك أن تُقابل نُكران الحب بمزيدٍ
من الحب ، و قطعاً ستجني في
نهاية المطاف أروع و أمتع ما
يثمِرُه الحب ..
و إني لأجزم أن مهمتنا في الحياة
أن نصنع كل شيء بحب ..
و أن ننفق ساعات عمرنا في التعامل
مع الآخرين بحب ، قبل أن يلتفت
أحدُنا محسوراً في نهاية حياته ليجد أنه كان بقليلٍ من الحب بوسعه أن يعيش حياةً أفضل ..
و يعمل الأفضل ..
و يتعرف إلى الأفضل ..
و يهنأ بالأفضل ..
و يتحصل على الأفضل ..
و ياحسرةً على من فاضت روحُهُ
دون أن يَنعَمَ بالحُب و يُطعِمُ الحُبَ ..
و حب الرجل للمرأة ..
و حب المرأة للرجل ، إن صدق
و استقام و تعمَّق ، ففيه من البركات
ما يُطِيل العُمرَ و يُنعِشُ الروح المُعنَّى ،
و يجعل للحياة طعماً و معنى ..
و فيه يجد الإنسان راحةً و متعةً ،
و هو يخضع لنفوذه و سلطانه
و جبروته ..
إنه كل الأماني العذبة ..
و إنه الإحساسٌ الجميل الذي يلازمك
إلى ( اللحد ) ..
و لا تجد له تعبيراً أبلغ مما عبَّر به
أحدهم ، و هو يمتدح من أحبها بأنها
قد أمَدَتْهُ بمسرةٍ يعجز عنها الوصف ،
إذ وجد فيها كل ضمائر الخِطاب ،
أنت ، و أنك ، و معك ، و لك ، و بك ،
و كلك ..
أو ذلك الذي يُجَسِّد قمة التعلُّق
وهو يرجو و يرْتَجي و يَتَرَجّى ..
( تَذَكَريني عن قُرب ..
تذكريني عن بُعد ..
تذكريني في كل و قت و على أي حالٍ ..
و تذكريني فيما وراء القبر ) ..
و من لطائفه و جنونه و فنونه ..
أنه في غابر الأزمان أحبَّ رجُلٌ فتاةً
كانت تختلف في قضاء حوائج أهلها ،
و كانت إذا خرجت إلى السوق و لم
يعلم بخروجها ثم رجعت فرآها ،
قال و هو يُسْمِعُها : ( لو كُنْتُ أعلمُ
الغيبَ لاسْتَكتَرْتُ من الخير )، و إن
وعدته شيئاً و أخلفت قال : ( يا أيُّها
الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ،
و إن تغضَّبت لشيءٍ بلغه عنها قال :
( يا أيُّها الذين آمنوا إن جاءكم
فاسِقٌ بنبإٍ فتبينوا ) ..
كان يتمَنّي بلُطفٍ ..
و يُحذِّرُ بمودةٍ ..
و يُعاتِبُ بمنتهى الرقةِ ..
و يبقى الحب هو هبة الله لعباده ،
فما اختلط بفعلٍ إلا زانَه و جمَّلهُ ،
و ما فارق شيئاً إلا شانه و قَبَّحَهُ ..
و غِذاؤه و ماؤه و هواؤه هو ..
طَهِر قلبَك ..
تواضع ..
تَقَرَّب ..
تزَيَّن و تجَمَّل و تعطَّر ..
عبِّر عن مشاعِرك ..
قل خيراً أو اصمت ..
إمنح مما تُحب ..
أقْبِل بمعروف ..
إذا فارقت فارق بمعروف ..
لا تحْتَقِرنَّ من المعروف شيئاً ..
إدفع بالتي هي أحسن ..
خالط بأحسن الخُلق ..
حَصِّن علائقك بالوفاء ..
لا تكره ..
إذا كرِهْتَ فاكره هَوْنَاً ..
التمس الأعذار ..
عاقب بلا انتقام ..
عامِل بِمِثلِ ما تحِبُ أن تُعاملَ به ..
أكثِر من الهدايا و إن صَغُرت ..
أكْثِر من الثناء و الإطراء ..
إمزح دون إكثار أو ابتذال ..
إجعل يدك مبسوطة ممدودة ..
لا تسْتَكْثِرنَّ جَمِيلاً ..
لا تتهِم إلا عن بَيِّنَةٍ ..
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ..
و اجعل مرضات الله غايتَكَ في كُلٍ ..
و ليكن دعاؤك ..
اللهم اجعل لنا في حُبك و حب
نبيك و حُبِ خلقك ..
قدمَ صدقَ ..
و مدخلَ صِدق ..
و مقعدَ صدقٍ ..
و لسانَ صدقٍ ..
و مخرجَ صدقٍ ..
و كل لحظة و يومٍ و عام ..
وأنتم تَتَقَلَّبُون في مِهاد الحُبِ ،
و تُظِلُكُم عرائش الحب ، و تتفجَّرُ
بين أيديكم ينابيع الحب ..
و لكم مني كل الحب ..
أم درمان ١٥ فبراير ٢٠٢٣ ..