حربُ السودان واستهدافُ مصر والمنطقة، و”مقترحٌ أوَّليٌّ” للحل الاستراتيجي!
بقلم: مكي المغربي
إسرائيلُ ضالعةٌ في الحرب على السودان؛ لماذا؟ يبدو أن قاعدةَ “المجرمُ يحومُ حول مكان جريمته” لا تنطبق على الأفراد فقط، فالدول إذا تورَّطت في مخططٍ وتعرَّض لإخفاقاتٍ فإنها تُعاجل بالظهورِ المُريب.
في 24 إبريل 2023م، أي بعد تسعة أيام من الحرب في السودان، وفي موقفٍ مدهش، عرضت تل أبيب الوساطةَ بين قائد الجيش السودانيِّ وقائد مليشيا الدعم السريع، واستضافة لقاءً لهما في إسرائيل. وهذا يؤكد توغُّل إسرائيل عميقاً في الداخل السودانيِّ بشقيِّه السياسيِّ والعسكريِّ إلى حدٍّ يفوق التصوُّر، ولكنَّه يفضح أمراً خطيراً وهو أنَّ إسرائيل هرعت إلى الوساطة بسبب الفشل المبكِّر لمخطَّط مليشيا الدعم السريع وتحديداً في أهمِّ حلقة منه وهي اغتيال قائد الجيش واحتلال القيادة العامة وإعلان التغيير من داخل الجيش بعناصر متواطئة مع المليشيا، فقد نجا قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان بأعجوبة من وابل الرصاص والقذائف بعد مقتل خمسة وثلاثين من الحرس الرئاسي وكانت نجاتُه مع اثنين منهم – من بعد الله – بفضل فجوة في جدار مقرِّ إقامته أحدثتها قذيفةٌ؛ مكَّنتهم من الخروج إلى تحصينات القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، ليكون عرْضُ الوساطة الإسرائيلية هو أوَّلُ تدخُّل خارجيٍّ يُوضع على طاولته.
الجديرُ بالذكرِ أن آخر ضيفٍ عالي المستوى التقى به البرهان قبل الحرب بشهر ونصف فقط هو وزير الخارجية الإسرائيلي؛ إيلي كوهين، وتناول اللقاء، كالعادة، العلاقات الناشئة والأمانيَّ المعسولة حول ازدهارها.
لا يوجد تفسيرٌ لاستعجال إسرائيلَ بعرضِ الوساطة سوى الإسراعُ بتسوية الأمر الذي لم يمضِ كما تُريد، فالذي لم يرَ إسرائيلَ وهي تضرم الحربَ؛ يراها الآن وهي تتعجَّلُ من أجل “لَمِّ الموضوع”.
مجدداً، لم تتوقفْ إسرائيلُ عن تسليح الدعم السريع حيث نشر موقعُ ميليتري آفريكا استخدام الدعم السريع لراجمات (لار 160)، هذا غير التقارير عن شحنات السلاح عبر شركة إسرائيليِّة مقرُّها تل أبيب.
لم تدخل إسرائيلُ بالتأكيد منفردةً في مساندة المليشيا، هنالك فاعلٌ أساسيٌّ غيرها، كما أكَّدت ذلك مذكرةُ أعضاء الكونغرس الأمريكي الموجَّهة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر 2023م والتي قالت “نشعرُ بقلقٍ بالغ إزاء التقارير التي تُفيد بأنَّ دولة الإمارات تُقدِّم الدعم الماديَّ؛ بما في ذلك الأسلحة والإمدادات، لقوات الدعم السريع، ونحثُّ على إنهاء أي مساعدة من هذا القبيل”. وهذا يعني أن الحرب في السودان ليست داخليةً إطلاقاً، هي حربٌ يقودها محورٌ محدَّدٌ لديه أهدافٌ تتجاوز حدود السودان، وتأتي ضمن خطته للمنطقة التي تحتلُّ فيها مصر موقع الريادة، وهو الأمرُ الذي يُزعج حلفاءَ الحرب على السودان.
الدورُ الأمريكيُّ من جهته يلعبُ مع الجميع ضد الجميع؛ فهو أقربُ للاحتواء المزدوج بين هذا المحور وبقية الدول، يمنحُ الضوءَ الأخضرَ وينتظرُ مَن يربحُ ليتعاملَ معه في النهاية.
ربما يكون ظاهرُ الأمر هو أنَّ مذكرة الكونغرس خطوةٌ أمريكيَّةٌ لإيقاف دعم هذا المحورِ لمليشيا الدعم السريع في السودان، ولكن الحقيقةَ هي أنها مجرَّدُ استجابةٍ محدودة لضغط أمريكيِّ داخليٍّ بسبب مذبحة قبيلة المساليت في دارفور التي ارتكبتها المليشيا ورفضتها جماعات حقوق الإنسان في موسم انتخابي مزعج لإدارة بايدين الديمقراطية.
وهنا تحركت الدوائر الأمريكية بسبب كثافة تقارير المنظمات والحملات الإعلاميَّة ولغرض آخر وهو ابتزازُ الإمارات مالياً واقتصادياً بملف الانتهاكات في السودان.
فيما يلي السودان وأفريقيا؛ تفجَّرَ النقاشُ مجدَّداً، ما هي جدوى التعاون الاستخباري بين الخرطوم وواشنطون في مكافحة الإرهاب طالما أنَّ حلفاءَ أمريكا في المنطقة يدعمون مخططاً إرهابياً لضرب الدولة السودانية في عمقها؟ وهل كانت علاقةُ البرهان بإسرائيل التي ترعاها الإماراتُ وأمريكا مفيدةً أم أنها سمحت بدخول إسرائيلَ المجالَ السياسيَّ السودانيَّ والتحالفِ مع المليشيا ضد البرهان نفسه؟ لقد وضحت الصورةُ تماماً، ولكن فيما يلي أمريكا فتواجهها مشكلةٌ حالياً وهي أنَّ سمعتَها على المحكِّ في إفريقيا، وفي الوقت الذي تشتكي فيه أمريكا من التمدد الصينيِّ والتوغَّلِ الروسيِّ في القارة السمراء تُقدم نموذجاً سيئاً في الغدر بالسودان وضربِه عبر حلفائها في المنطقة.
ستخسرُ أمريكا السودانَ، وتشجُّعه على تعزيز علاقته بروسيا والصين وتشجع كل الدول الإفريقية بسبب النموذجِ المؤسفِ في السودان.
أمريكا لم تتحمسْ لإيقاف الحرب على السودان، والسبب هو “الممر”!
ربما يرى البعضُ التنسيقَ الإماراتيَّ الإسرائيليَّ في المنطقة يصبُّ في مصلحة أمريكا، وأنَّه وصل مراحلَ متقدمة وتستحقُّ التضحيةَ بأي تفاهماتٍ مع السودان أو غيره من الدول، والأسوأ من ذلك تهديدُ مصرَ بالحريق في حدودها الجنوبيَّة مع السودان وحدودها الشرقيَّة مع غزَّة. ولكن ما هي أمْيز مشاريع التنسيق الإماراتيِّ الإسرائيليِّ التي تُباركها أمريكا وتجعلها تستهينُ بحدوث هذه الكوارث الإنسانية؟
المشروع الذي تتبنَّاه أمريكا بغرض الحدِّ من نفوذِ الصين؛ جاء حديثاً تحت العنوان الكامل “الممرُّ الاقتصاديُّ الهنديُّ الشرقُ أوسطيِّ
الأوربي” وقد تم إشهارُه في قمة العشرين في سبتمبر 2023م ولكن يبدو أن التفاهمات حوله قد قطعت شوطاً؛ بالذات في الجهود التي تقودها واشنطون لإقناع المملكة العربيًّة السعوديَّة بالتطبيع مع إسرائيل؛ الأمر الذي وضعت فيه الرياضُ شروطاً وصفتها واشنطون بالتعجيزية ولكنها قَبِلت التفاوضَ حولها بمرونةٍ مع المملكة. الممرُّ الاقتصاديُّ الجديدُ مشروعٌ هجينٌ بين المسارات البحريَّة والطرق البريَّة والسكك الحديديَّة وأنابيبَ النفط، يبدأ من الهند بحرياً إلى ساحل الإمارات ثم برياً عبر المملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل ليصل إلى موانئها في البحر الأبيض المتوسط، ومنها إلى أوربا، وله هدفان واضحان وهما تجاوز البحر الأحمر وقناة السويس، ودمج اقتصاديات الخليج والهند مع إسرائيل.
لفهم المخطط الدائر في المنطقة يُستحسنُ أن نستعينَ بالشرحِ العميق للأمر الذي أدلى به الحقوقيُّ والبرلمانيُّ المصريُّ سامح عاشور في حواره مع الإعلاميِّ أحمد موسى في برنامج (على مسئوليتي) حول تصفية القضية الفلسطينية ومحو الوجود البشري في غزَّة أو تهجيره قسرياً إلى مصر لتشييد قناة بن غوريون من خليج العقبة إلى (المتوسط) ولفتح الطريق لتطبيعٍ نهائيٍّ مع المنطقة يشملُ الخليجَ كاملاً. هذا المشروعُ الإسرائيليُّ إذنْ هو الجزءُ غيرُ المعلنِ من مشروع الممرِّ الاقتصادي.
المهندسُ والخبيرُ وائل قدور في حواره مع الصحفي سيد جبيل على قناة (نعرف) يشرحُ مشاريع استهداف قناة السويس ويضع النقاط فوق الحروف أيضاً، ويُجري مقارنةً بين الممرِّ و(بن غوريون) وغيرهما من المشاريع.
من أهم ما سلَّط الضوءَ عليه سامح عشور أنَّ استهدافَ مصرَ يتمُّ عبر بوَّابتها الشرقيَّة في فلسطين والجنوبيَّة في السودان، ولكن ليس فقط لأنه الجنوبُ الجغرافيُّ وإنَّما للعمق التاريخيِّ ولعاملٍ آخرَ وهو النيل، فالغرضُ أنْ يكون النيلُ تحت سيطرةِ غيرِ مصرَ وغير السودان، بل إسرائيلُ وإثيوبيا وأيُّ محورٍ آخر.
الممرُّ الاقتصادي، هو اقتصاديٌّ اسماً ولكنه مشروعٌ سياسيٌّ بامتياز وتتعطلُ أمامه كلُّ أدواتِ التخطيط الاقتصاديِّ السليم، وهنا تظهر نقطةُ ضَعْفه التي تُنْبئ بفشله، لأنَّ معظمَ الدولِ المشاركة في هذا المشروع، باستثناء إسرائيل، يجب عليها أنْ تُعطَّل خططها الاقتصاديَّة التي تُنفذها حالياً لصالح “الممر”. وأوضحُ مثالٍ على ذلك المملكة العربية السعوديةُ التي تمتلك رؤيا متكاملةً للمملكة 2030م والتي تشتمل على “البرنامج الوطني لتطوير الصناعة والخدمات اللوجستيَّة” ومن ضمنه الجسرُ البريُّ الذي يربط شرقَ المملكة بغربها إلى موانئ جدة، ثم طريق ينبع بالسكك الحديدية، ويُوجد أصلاً خطُّ أنابيب النفط شرقَ غرب، وبذلك يعتبر الممرُّ الهنديُّ الشرقُ أوسطيُّ الأوربيُّ أصلاً موجوداً وجاهزاً للربط عبر قناة السويس، فما هو الداعي لتغيير مساره من قناة السويس إلى إسرائيل براً؟ ثم انتظار حفر قناة بن غوريون خمسَ إلى عشرَ سنوات أخرى؟ الهند من جهتها أيضاً لا تحتاجَ “الممرَّ” لأنها تستفيدُ من موانئ المملكة العربية السعودية أكثر من إسرائيل لأن موانئ المملكة على البحر الأحمر ترتبط بالمتوسط وأوربا عبر السويس، وبشرق إفريقيا ووسطها عبر البحر الأحمر، ما هي إذن جدوى تحويل كل هذه الحركة التجاريَّة إلى إسرائيل؟ وأن يُقدِّمَ بين يدي ذلك الفلسطينيون في قطاع غزة قرباناً بشرياً من أجل المشروع؟
في هذا السياق المعاندٍ للجغرافيا والاقتصاد يتجدَّدُ السؤال، هل المطلوبُ مصلحةُ أمريكا أم مصلحةُ إسرائيل؟ أم المطلوبُ هو ضرب قناة السويس ومصر بأي ثمن؟ ولو عٌدنا للحرب التي اندلعت في السودان بالدعم الإسرائيليِّ الإماراتيِّ للمليشيا ضد الجيش السودانيِّ كيف يمكنُ أنْ نصدِّقَ ورقةً يبعثُ بها الكونغرس إلى وزارة الخارجيَّة الإماراتيَّة طالما أمريكا ترغبُ في تغيير أساسيَّات الجغرافيا والاقتصاد من أجل “مشروع الممر؟”.
علاقةُ ميناء أبوعمامة الإماراتي بما يحدثُ في المنطقة! مِثْلُ الممرِّ ولكن بحجمٍ أصغرَ بكثير، في ديسمبر 2022م على ساحل البحر الأحمر كان هنالك حدثٌ سياسيٌّ يتستَّر بغطاءٍ اقتصادي.
ربما يكون مشروعُ ميناء أبو عمامة الإماراتيِّ في السودان مجردَ رقمٍ صغير “6 مليارات دولار” بالمقارنة مع مشروع “الممر الاقتصادي” ولكن الجامع بينهما هو الانحراف عن الجدوى الاقتصادية والتخطيط السليم من أجل السيطرة السياسية والأمنية لجهةٍ ما، إسرائيل في حالة الممر الاقتصاديِّ، والإمارات في حالة أبوعمامة، حيث يشمل الميناء في السودان أنبوباً للمياه من نهر النيل إلى ساحل البحر الأحمر.
مع العلم أنه قد توقَّف مشروع مماثل له في السودان كان يكلف نصف مليار دولار لأن المشروع البديل له والأكثر جدوى منه يكلف خمس المبلغ فقط ومن مسافةٍ أقرب للساحل الشرقي وتحديداً من نهر بركة الموسمي وحوض طوكر الجوفي.
من أسباب إيقاف مشروع أنبوب النيل – البحر الأحمر حسب وزارة الموارد المائية في السودان في العام 2016م أن ضخ المياه يحتاج إلى قرابة 40 ميغاواط يومياً ليرفع الماء فوق جبال البحر الأحمر في مناطق تصل ارتفاعاتها من 500 إلى 800 متر، لتقطع الفيافي إلى الساحل بينما أنبوب طوكر ومحابسه المائية تمضي مع الانحدار الطبيعي، ولديه عائدٌ مستمرٌ في سقيا الأراضي الخصبة بسبب تراكم الطمي وهو نقيض أنبوب النيل – البحر الأحمر والذي يقوم على تكلفة جارية وليس عائداً مستمراً. وللمقارنة العلمية بين مشروع أنبوب النيل – البحر الأحمر في أبو عمامة ومشروع طوكر يرجى الإطلاع على مقال “التحكُّم في خور بركة، بين المستحيل و الممكن، قضايا المياه وبدائل التنمية بولاية البحر الأحمر” للخبير د. عمر محمد علي أحمد، حيث سرد الدراسات المقدَّمة من بيوت الخبرة الألمانية والبريطانية لمشروع طوكر- البركة، ليتفاجأ السودان مجدداً أن الجدوى الاقتصادية لم يكن لديها مكانٌ البتَّة مع التدخُّل الخارجيِّ عبر ميناء أبوعمامة.
هل هذه مشاريعُ يقصدُ بها الجدوى الاقتصادية الحقيقيَّة أم هي مشاريعُ توسيعِ “التحالف الإبراهيمي” بغرض السيطرة وبسط النفوذ؟ ولماذا تأسيسُ ميناءٍ جديدٍ بدلاً من تطوير مينائيْ بورتسودان وسواكن؟ لا عجب، ذات السؤالِ شرقاً وشمالاً، ما هي جدوى حفر (بن غوريون) مع وجود (السويس)؟ وما هي جدوى الممر مع مشاريع ربط شرق المملكة العربية السعودية مع غربها، والتي تجري على قدمٍ وساق. الحل في المزيد من التعاون لا المزيد من الهواجس تمضي مصر بثباتٍ في تطويرِ قناة السويس ورفع كفاءتها، ولم يتبقَّ إلا إكمالُ القطاع الجنوبيِّ بعد ازدواج القناة في معظمها، وهذا يُلغي تماماً أحلام (بن غوريون) والتي اقترحت أمريكا حفرها بالتفجيرات النوويَّة في العام 1960م ثم تراجعت، ويُرجى مراجعة حلقة وائل قدور لأنها تشتمل على كل الوثائق.
فيما يلي السودان وإثيوبيا؛ هنالك درجةٌ من الجرأة في التفكير باتت مطلوبة، بدلاً من ترك “حلفاء الممر” استغلال احتياج إثيوبيا المُلِحِّ للمنفذ البحريِّ، والزجِّ بها في صراعٍ مع الصومال، وبدلاً من تركِ ساحل السودان على البحر الأحمر عُرضةً للأطماع، واستخدامه لتهديد مصر والسودان، لا بدَّ من مقترحٍ يقومُ على التعاونِ بين مصر والسودان وإثيوبيا.
أقترحُ أن يكون المشروعُ الرائدُ هو شركة موانئ مصرية سودانية إثيوبية، تشارك فيها مصرُ بقدراتها في إدارة الموانئ وتشغيلها، ويشارك السودان بتخصيص ميناءٍ للدول الثلاث، ويعتبر رصيفُ الميناءِ الأخضر في بورتسودان الأكثرَ جاهزيةً للتعاون الفوري إلى حين تشييد ميناءٍ جديد، بينما تكون مشاركةُ إثيوبيا مقابلَ الربط الكهربائيِّ، والشراكة الزراعيَّة مع مصر والسودان في مشروعاتٍ على مجرى النيل الأزرق.
نجاحُ هذا المشروع يرتبط بعدم قيامه على أيِّ شراكةٍ خارج الدول الثلاث، وتأسيسِ تجربةٍ خالية من التدخُّل أو الاستقطاب الخارجيِّ مهما كانت الإغراءات بالتمويل.
فكرةُ المشروع تحويلُ المياهِ والممرات المائيِّة إلى عواملَ تكاملٍ بدلاً من عوامل صراع، كما أنَّ نجاحَ المشروع يجعلُ دولَ غربِ البحر الأحمر أكثرَ قدرةً على التعاون وتأسيس المشروعات ذاتِ النفعِ المتبادل.