القراءة المُتأنِيَّة للمشهد العام فى السودان تُشِيرُ إلى أننا نعيش مرحلة إستثنائية من تأريخنا الحديث حُبْلَى بالفواجِع وتَرضَعُ المواجع ، وأنَّ إرهاصات الإقتتال القبلى المُدَمِّر تلوحُ فى الأُفق كغمامات عادٍ الأولى الذين قال الله عَزَّ وجَلّ فيهم : ( فلمَّا رأوه عارِضَاً مُستَقبِلَ أوديتهم قالوا هذا عارِضٌ مُمطِرنا .. بل هو ما استعجلتم به رِيحٌ فيها عذابٌ أليم ) . فما يحدث الآن فى أطراف البلاد بلغ الحَدَّ الحَرِج الذى قد يدفع بالأوضاع إلى مآلات لايُريدها أحد .. فإلى متى نَغُضُّ الطرف عمَّا يحدث فى بلادنا ..!!؟ وحتَّام هذا العجز عن مواجهته ..!!؟ فجميعنا الآن أمام مفترق طرق فإمَّا تنزلق بلادنا نحو الفوضى لا قدَّر الله وهو خِيارٌ لايُريده منَّا أحد ، أو نواجه تلك الأزمات بوعىٍ ورشد ، فجميعنا مسؤول أمام الله وأمام التأريخ كُلٌّ فى نطاق مسئوليته بأن نُحافظ على هذه الوشائج والأواصر التى تربط جميع أهل السودان ، الضاربة فى أعماق التأريخ الإنسانى وفضاءاته الرحبة ، والمغروسة فى وجدان أهله والمدّونة بمداد جغرافيته والمُضمَّخة بعطر أخلاقه .. وأن نقف فى مواجهة تلك الدعوات النَتِنَة والبِدعة المُستحدثة التى تدعو لمراجعة الهويِّة والتى يُطلقها البعض دون وعى ، والبعض الآخر إبتغاء الفتنة وإشعال نارها والإبقاء عليها حيَّة مُتّقِدة .. وغرابة تلك الدعوات تأتى من أن أهل السودان فى تجانسهم وتآلفهم كانوا ولايزالون يعيشون فى إنسجامٍ ووئام بالوشائج والعواطف الإيجابية التى نتجت عن إنتمائهم لأرض السودان كما كانت تُعرف تأريخياً ، ولإمتداد أواصر الأرحام وتقاسم الأفراح والأتراح على مدى قرون من التأريخ الممتد منذ عهد الملك بعانخى ومروراً بالدولة السِنَّارية ، ومملكتى علوة والمغرَّة ( إن كانت معلوماتي التأريخية صحيحة ) ، ومن ثمّ التركية السابقة والدولة المهدية وفترة الحكم الثنائى فضلاً عن عقود من الزمان بعد نيل السودان إستقلاله .. وقد كانت حركة التأريخ بتجاذباتها وتذبذباتها تدفع دوماً سكان القارة تجاه أرض السودان لِما يجدونه مِنْ حُسنِ جِوار ، وإحساسٌ بالأمن والأمان ، وأصبحت علاقةُ أهله بالوافدين علاقة تكامل وتصاهر وتأثير وتأثُّر ، ولم تُختَزل فى الإرتباط جُغرافياً بالأرض . وبعد كل ذلك التأريخ تكون مخازى السلوك الإنسانى تجاه أخيه الإنسان لتعمل على قتله وسحله وطرده والدعوة لتجريده من هويته ..!! فكيف يشعر الإنسان بالحياة إذا فقد الشعور بالهوية التى فى بعض تعريفاتها هى مجموع الخصائص والسمات الإجتماعية والثقافية التى يتقاسمها أفراد شَعَبٍ معين ، والسودان ليس بدعاً من الشعوب وليس نشازاً ولا يُضيره هذا التداخل العرقى وإختلاف الثقافات بين مكوناته القبلية وإنصهارها ووضع كل ذلك فى القالب السودانى المتفرد الذى عُرفنا به بين الأمم ، فهاهى الدول العظمى الرائدة والراسخة فى الديمقراطية نجد أنّ جُلَّ مواطنيها من أعراق وسلالات وألوان مختلفة من كل قارات العالم بخلاف حالنا فى السودان ، فهل معنى ذلك يكونوا بِلا هويَّة ..!!؟ فدعونا نُفكِّر بعقلٍ وروِيَّة بأن نجعل هًُويّتنا فى (* سودانيتنا *) التى تُميِّزنا عن غيرنا ، فهى نتاج خصوصيتنا وثقافتنا وأعرافنا المجتمعية .. والتى يجب علينا أن نحلم بها ونسعى لتحقيقها .. هويَّة ( *سوداناوية *) تستند فقط إلى المواطنة الحَقَّة فى الحقوق والواجبات ، وتكون معياراً جوهرياً للمساواة بين الناس وتحقق الأمن والسلم المجتمعى المنشود . حفظ الله بلادنا وأهلها وأدام عليهم النِعم وجنبهم المِحَنْ والفِتَنْ ما ظهر منها وما بطن ، ومَنَّ عليهم بالأمن والأمان والوئام والإخاء والرخاء والسلام .