عادل عبدالرحمن عمر
في لحظة الهياج الثوري إبَّان الهبة الشعبية التي أطاحت بالإنقاذ في ٢٠١٩، نال الجيش من قوة يسارية وأحزابٍ قومية صغيرة وحشدٍ هائلٍ من الجماهير الغاضبة قسطاً وافراً من السب والشتم بطريقةٍ غير لائقة، مما اضطر والد إحدى الفتيات الصغيرات المُغرر بهن للاعتذار لقيادة الجيش في ذلك الوقت.
صاحب تلك الفترة أمواج هادرة من إلقاء التهم جُزافاً على كل المؤسسة الأمنية من جهاز المخابرات إلى قوات الشرطة، مما أثر سلباً على معنويات تلك القوة التي انحازت إلى التغيير ولولاها لمَّا انتصرت الثورة برغم إرادة الجماهير الهادرة الواسعة الغالبة.
في ذلك الحين بدأت شائعات تمتد رويداً رويداً لتكسر من عزم المؤسسة الوطنية المتماسكة في الدولة وهي القوات المسلحة وإذا رجعنا قليلًا نتذكر تلك الأيام الخالدة في ذاكرة الشعب السوداني نجد أن الجيش أحرز النقاط الكاملة في انحيازه للشعب، فالفريق أول عوض إبن عوف الذي كان وزيراُ لدفاع حكومة البشير ومعه لجنته الأمنية التي يمكن أن يطلق عليها ( قيادة الفلول ) إنحازت مباشرةً لرغبات الجماهير واقتلاع نظام الانقاذ من جذوره كما قال إبن عوف في خطابه المقتضب يوم التغيير ١١ من أبريل عام ٢٠١٩. المهم هو أن التاريخ قريب لتذكر كل التفاصيل برمتها، وحتى الذين من ذوي الذاكرة المثقوبة لا تفوت عليهم أدق تفاصيل المشهد. وبحكم واقع تلك الأيام انتهزت قوى الحرية والتغيير تلك الفرصة، ونصَّبت نفسها من غير شرعية وحكمت البلاد عبر وثيقة دستورية مشكوكٍ في أمرها وقامت خلال سنتين بهدم كثير من مؤسسات الدولة، وكادت أن تعصف بالمؤسسة العسكرية التي عمرها أكثر من مئة عام وحاولت أن ترسخ في الأذهان خلال تلك الفوضى أن الجيش (جيش الفلول )، وهذه المغالطة بعينها حيث ترتكز تلك المؤسسة العسكرية على قوانين وقواعد راسخة رسوخ الجبال. ربما تنجح بعض الأحزاب من الحزب الشيوعي إلى الاسلاميين في اختراق المؤسسة لتجنيد فئة قليلة لصالحها، وهي في كل الأحوال نسبة ضئيلة جدًا من قوام الجيش. هذه الاختراقات قامت بها أحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وقامت بانقلابات عسكرية منها ما نجح وفيها ما فشل فشلاً ذريعاً، حتى الأحزاب الطائفية لم تسلم من هذا الداء، لكن بقي قوام الجيش سليماً ومعافى من الالتزامات الحزبية الضيقة لأن مؤسسة الجيش لاتقبل إلا الأفق المفتوح والانتماء للوطن وترابه وعقيدته وتقاليده، وتلزم كل أفراده بتلك العقيدة الجامعة حيث لا ولاء إلا لله والوطن. وفي هذا الإطار نذكر يوم المفاصلة بالحركة الاسلامية حيث ارتدى البشير (الميري) ليباين نفسه تماماً ويعلن انتماءه للجيش وليس لأي جهةٍ أخرى حزبيةً كانت او مدنية. في سنوات التيه الأخيرة روجت قوى الحرية والتغيير مع بعض الجهات الداخلية و الخارجية للتمهيد لهذه الحرب التي اشتعلت في ١٥ ابريل ٢٠٢٣ بأن الجيش جيش الفلول ظناً منهم أن الناس سينفضون من حوله ويبقى وحيداً ومنهزماً … هذا ظن السوء الذي حاولوا بقدر إمكاناتهم المادية والبشرية أن يحققوا هذا الهدف، إلا أن الواقع العملي للقوات المسلحة هزم هذا الزعم هزيمةً ساحقة ماحقة لأن أفراد الجيش ينحدرون من كل بقعةٍ من السودان تقريباً ومن كل قبيلةٍ واثنية ومن كل بقعةٍ بعيدةٍ أو قريبة من شماله وشرقه وجنوبه وغربه، لا يفرق الجيش بينهم بل يصهرهم في بوتقة واحدة وكل تدريباتهم وامتحاناتهم الأكاديمية العسكرية لاتفرق بين عربي وأعجمي إلا بالأداء والتفوق الأكاديمي الصارم فهم (إخوة الدم ) وهذه رابطة لو تعلمون عظيمة.
الذين يدخلون الكلية الحربية يدخلون في سن التشكل فالتدريب العسكري والمناهج تعمل على الضبط والحسم والصرامة لتخرج الروح المدنية التي تعودت على الاسترخاء والطلاقة للروح العسكرية التي جُبلت على الشدة والصرامة وإطاعة الأوامر وهذا فرقُُ كبير جداً بين المؤسسة العسكرية و أي مؤسسة مدنية أخرى ، ولذا فالجيش ليس جيش الفلول كما تدعي جهات حزبية بعينها تريد أن تصفي حساباتها مع جهات حزبية أخرى لا تريد لتلك المؤسسة الجامعة المانعة للسودان كله أن تنهض وترتقي. بالمقابل الجيش جيش الشعب والدلائل على ذلك كثيرة لا تكاد تحصى، فقد إنحاز الجيش للشعب في ثوراته المختلفة، أكتوبر ١٩٦٤، أبريل ١٩٨٥، وديسمبر ٢٠١٩، ولم يخذل الجيش الشعب في أي وقت من الأوقات، كلما أتى إليه ينحاز له ويخلع النظام الذي كان يحرسه، لأن عقيدته الداخلية أنه منحاز للشعب الذي هو منه تماماً، ولذلك لايخضع إلى أي نظام مادامت شرعيته الجماهرية قد سقطت، والدلالة الأخرى حينما نجري مسحاً لكل الأفراد في الجيش السوداني من ضباط وضباط صف وجنود نجدهم يمثلون السودان تماماً بجهاته الأربع وقبائله المختلفة المتنوعة. أما ما حدث في الحرب الأخيرة في ١٥ ابريل ٢٠٢٣ وحاولت ذات الجهات أن تصور كل ما حدث بأنه حرب بين جنرالين فهو كذب وافتراء، لأن الحرب الأخيرة دارت في بيوت المواطنين وفي المستشفيات والبنية التحتية وفي مؤسسات الدولة التي بُنيت من عرق دافعي الضرائب السودانيين، ولم تجرٍ في معسكرات الجيش بل دارت بشكل أخص في الأعيان المدنية ولذا كانت الخسارة فادحة وكبيرة على المواطنين الذين نزحوا داخل البلاد أو الذين لجأوا إلى الخارج وفقدوا كل ممتلكاتهم ومقتنياتهم وهاموا في بلاد الله الواسعة فالجهة المتمردة لم تحتل معسكراً أو قيادة سلاح للجيش إلا في مناطق بعيدة وبعد خسارات كارثية بالنسبة لهم ولكنهم خربوا البلاد ونالوا من العباد من انفسهم وأموالهم وهذه مصيبة كبرى. الدمار الكبير الذي صاحب المدن والأعيان المدنية والمواطنين جعلهم ينتظمون بالضرورة في المقاومة الشعبية ليدفعوا عنهم الأذى والمسغبة والقهر. أقوى الجيوش في العالم لها احتياط من القوات فالمقاومة الشعبية الآن تمثل احتياط الجيش السوداني لأن القتال دار بشكل مباشر في بيوت الناس وليس في المناطق العسكرية ولذا وجب على الكل أن يدافع عن نفسه وشعبه بكرامة غالية.
هنا سقط إدعاء أن بعض الجهات الحزبية تدفع للمقاومة الشعبية فالمقاومة ضرورة حتمية للدفاع عن النفس والعرض.
ما أصاب السودان بهذه الحرب هو مؤامرة كبرى استغل فيها مدنيون جهة عسكرية تمردت على الجيش السوداني بمؤامرة خارجية محكمة التنفيذ وبقدرات مالية ضخمة في محاولة لكسر العمود الفقري للدولة السودانية الذي تمثله القوات المسلحة بالهجوم المباشر وبأسلحة متقدمة وإمكانات كبيرة إلى الدعايات الكاذبة التي تبثها غرف إعلامية متمكنة ولها قدرات مالية كبيرة، ولكن كل هذا لم يحقق مقصده وهدفه المراد لأن عقيدة هذه المؤسسة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأرض وإنسان هذه البلاد، ولذا لم تهزها رياح الصرصر العاتية وتساقطت كل الأوراق والادعاءات وصار الجيش جيش الشعب ولو كره المتآمرون.