د. أسامة محمد عبدالرحيم
سفر الخروج هو احد اسفار توراة سيدنا موسى الخمسة المعروفة. و فيه يوثق السفر لخروج العبرانيين من مصر الى ارض الميعاد. و عن ذات الخروج يحدثنا القرآن الكريم بآيات بينات تتلى الى يوم التناد توثق لصراع الحق و الباطل الذي اوجده الله في خلقه ملازما لوجود الانسان. و في كلٍ من التوراة او القرآن يرتبط هذا الخروج بمغادرة الديار خلاصا من الظلم و فرارا من الموت الى رحاب الحرية و العدل ، ثم العودة من بعد ترتيب الحال لمواجهة السلطان من جديد نشدا للتوحيد.ان توثيق التوراة و توثيق القران كلاهما ياتي في ظل الرسالات العظيمة و صراع الحق و الباطل وما ياتي الخروج الا لتعقبه عودة و انفراج و نصرٌ من الله.و كذلك في السيرة النبوية الشريفة، اضطر ظلم قريش و اهل مكة نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام للخروج الى المدينة و الفرار بدينه و عقيدته استباقا لتآمرهم للقضاء عليه و اجهاض دينه في مهده، ليعود بعد حين فاتحا لمكة و ناشرا لاخر الرسالات السماوية في العالمين للخلق كافة.لقد كان في خروجه عليه الصلاة والسلام الى المدينة فرصة كبيرة لاقامة نواة الدولة الاسلامية بمؤاخاته بين المهاجرين و الانصار و عقده لتحالفات و اتفاقيات مع اليهود من الاوس و الخزرج و من ثم تشكيل اول ملامح الدولة الجديدة.في تاريخنا السياسي السوداني الحديث خرج الإمام الهادي عبدالرحمن المهدي في العام 1970 فارا من ملاحقة نظام مايو الى ان وجد مقتولا ناحية مدينة الكرمك، ثم خرج محمد ابراهيم نقد و جنح الى التخفي في باطن الارض كما تحب ان توثق ادبيات الحزب الشيوعي مكررا ذلك في ظل نظام مايو مرة و في ظل نظام الانقاذ مرة اخرى، ثم تكررت عملية الخروج مع الامام الصادق المهدي في ما اطلق عليها حزب الامة عملية (يهتدون).في 15 ابريل من هذا العام و ما تلاها من ايام شهد السودان اكبر عملية خروج للمواطنين من ديارهم و منازلهم فيمم بعضهم وجهه تلقاء الاطراف من العاصمة و بعضهم صوب وجهته الى الريف و مدن الولايات و عبر كثير منهم الى خارج الحدود فرارا من بطش آل دقلو و مليشياته و هربا من فتك آلة القتل المدفوعة بسوء الاخلاق و موت الضمير و غياب الوازع ارضاءا للخارج و ايفاءا لمقاولة مقبوضة الثمن . و لأن (الفرعنة) سلوك فقد قام فرعون السودان الجديد حميدتي الذي علا في الارض و جنده بجعل اهل الخرطوم و بعض دارفور شيعا مستضعفين ، و ما زالوا يذبحون ابناء السودان و يقتلونهم و يستحيون النساء و يسرقون و ينهبون و يمكرون بكل سبيل ليخرجوا من المدينة اهلها و هم يحسبون انهم يحسنون صنعا في حرب اقاموها ضد الشعب كله فخسروا باعمالهم الدنيا و أحسب انهم سيخسرون الآخرة. كذلك و لان للفرعون سدنته في كل زمان و مكان كان للفرعون حميدتي سحرته من المستبدين المستشارين و السياسيين و الاعلاميين الذي حاولوا استرهاب الناس و استقلاب الحق بالباطل و القوا حبال الحرية و السلام و العدالة ليسحروا اعين الناس و اذانهم ضلالا و زيفا فما استطاعوا الى ذلك سبيلا.ثم مافتئت منظومة المليشيا الاعلامية تنهق و ترغي منذ بدء الحرب و بلا توقف استفزازا و اعمالا لحرب نفسية على الجيش و قادته بأنها تحاصرهم و تخنقهم في (البدروم) بمباني القيادة العامة، و ان البرهان (المختبئ) خوف الموت لا يجرؤ ان يغادر محبسه قيد انملة، حتى فاجأهم البرهان بخروجه المثير و العظيم في فجر 24 اغسطس و بعد تمام يومه الثلاثين بعد المائة في اطراف الحارات بامدرمان متجولا بين العامة يرتشف القهوة و يلتقم (الزلابية) ثم يعقب ذلك بجولة تنويرية على قواعده من الضباط و الجنود و يتبعها بتطواف على عطبرة و وضواحيها و مختتما خروجه بالاقامة في بورتسودان مبتدرا فصلا جديدا من ادارة الدولة و المعركة معا.ان خروج البرهان من ضيق القيادة العامة إلى فضاءات السودان و رحابه لامر فيه من الدلالات و المغازي و الشواهد الكثير مما يستحق التوقف و التأمل، و اول هذه الدلالات ان خروجه بكل مقياس انما يحسب لاحترافية الجيش و خبرته و قدرته علي تنفيذ عملياته و مهامه بدرجة عالية من الاحتراف و التميز، اذا ان مهمة الخروج انما كانت تطبيقا واقعيا (لعملية عسكرية مشتركة لقوات برية و جوية و بحرية) نفذت بانسجام القوات و تفهمها لواجباتها و مهامها و من بعد ذلك تاكيدها لجسارتها و بسالتها و هي تواجه خطر الموت و يبدو ذلك واضحا في القوة المشاركة قدمت شهيدين اثنين ضابطا و جنديا كلاهما من القوات البحرية بما يدعم ان عملية الخروج لم تكن نزهة نهرية و لا هواية للتحليق في الاجواء.كذلك مما يستوجب التوقف عنده، هذا الفرح العارم بخروج البرهان و مشاهدته و هو يتجول خارج اسوار القيادة العامة للجيش و الذي عبر عنه قطاع كبير المواطنين و حتى العسكريين، و للامر رمزيته و كانما ان في حصار البرهان حصار للشعب باسره و ان في خروجه خروج للشعب من ضيقه نحو استعادة حقوقه و اطمئنانه و امنه . يومها ظل الجميع يلهج بالحمد لله و الشكر للمولى، بل اعتبر الكثيرون ان هذا الخروج انما هو بشارات النصر و بدء خطوات الحسم العسكري و عجم عود التمرد و كسر شوكته. و بلا شك ان خروج البرهان كان امرا مفرحا لدى الجميع الا من غلبت عليهم شقوتهم و ضلوا السبيل من مليشيا التمرد و اتباعهم من الخونة و المتآمرين من سفر منهم في الميل كل الميل لجهة المليشيا المتمردة او من ادعى الحياد و رفع تحرفا راية (لا للحرب) المخادعة، هؤلاء لم يسعفهم مخزون الاخلاق ان وجدت عندهم اخلاق التعبير بصريح ادانة او عاجل طلب للحليف المتمرد باخلاء منازل المواطنين و رد حقوقهم و تأمين حياتهم قبل ان ينصبوا انفسهم اوصياء لجلب الديمقراطية و ارساء التحول المدني جلبا لحياة كريمة و مرفهة لهذا المواطن نفسه مسلوب الارادة و مقهور الجانب.و على التضاد من فرح المصطفين خلف الجيش، كان ردة فعل المتكومين على الجانب الاخر من النهر بائنا، و هو حالة من الذهول و الاحباط و خيبة الامل، و قفزا فوق الحقائق و ليا للوقائع كذبا و تضليلا تارة بانهم قد سمحوا للطائرة بالهبوط لدواعي انسانية نقلا لمريض و تارة انهم نسقوا للخروج في اطار ترتيب و تسوية و هكذا من اقاويل فقدان المنطق و هربا من الاعتراف بالعجز و قلة الحيلة. من جانب اخر فقد تبارى ائمة قوى الحرية و التغيير المنحازة للتمرد على منصات الاعلام المختلفة في التعبير و بلغة منهزمة و بائسة و بما يشبه الطنين في الاذان في اسداء النصح للبرهان من بعد خروجه بالجلوس للتفاوض و قبول الحلول السياسية، و لعمري كانت هي اكبر علامات الهزيمة المبكرة و اوضح اشارات التماهي السياسي و تبدل المواقف بغير مباديء و قيم .كما ان البرهان و ما ان وصل بورتسودان حاضرة الشرق و متنفس البلاد و رئته الا و شرع في ترتيب دولاب الدولة المختل و ضبط الايقاع و محاولة استعادة النبض و التنفس للجهاز التنفيذي للدولة و القيام بتنشيط الاداء،اذ ظلت البلاد و منذ 15 ابريل تعاني من ان قائد البلاد و الرجل الاول فيها يعكف مشغولا علي ادارة المعركة العسكرية موليا جل وقته لهذا الامر دون ايلاء الجانب المدني التنفيذي نفس الاهتمام مما اثر سلبا على تسيير الجهاز التنفيذي و انعكس معاناةً للمواطن في معيشته و سائر يومه.كذلك و في اطار ترتيب الشأن السياسي و الذي يلقي بظلاله على المعركة العسكرية، كان لا بد من ترتيب المحيط الاقليمي القريب و الذي تمثله دول الجوار، فخرج البرهان الى مصر و في ذلك من الدلالات ما لا يخفى على احد، اذ ان مصر الرسمية يتوفر لها من النضج السياسي و الخبرات ما لا يتوفر عند كثير من الانظمة الاقليمية التي و على غير مصر تتسم بالمراهقة السياسية و لا تمتلك من القدرة على النظر الا ما كان تحت قدميها. و لعله من مغازي استقبال مصر لضيفها (بالعلمين) تلك الرسالة المبطنة الي قائد الحيش السوداني و من خلفه كل الجيش و الشعب ردا لجميل من مصر و وفاءا لمشاركة جند السودان (قوة دفاع السودان) في (معركة العلمين) دفاعا عن مصر ضمن قوات الحلفاء ضد قوات المحور في الحرب العالمية الثانية في العام 1942،يومها كان انجاز القوات السودانية كبيرا و جهدها بدا واضحا و كانت هذه المعركة بداية انتصارات الحلفاء على المحور كما كان فيها نجاة مصر من الاحتلال. لقد ظل دور مصر و مواقفها المعلنة و المستترة تجاه السودان عظيمة، السابق منها او ما لازم هذه الحرب اللعينة و هو امر مقدر يستحق من اجله ان يبدأ البرهان جولاته الخارجية منها بعد الخروج شكرا و تقديرا.و من التحديات ان ينجح البرهان و فريقه المفاوض بجدة في اجبار العدو المغتصب علي تنفيذ كل بنود (الخروج) المنصوص عليها باعلان و اتفاق جدة ، الخروج من منازل المواطنين و الخروج من المستشفيات و الخروج من محطات المياه و الكهرباء و دور العبادة و كافة الاعيان المدنية و المرافق الخدمية العامة سلما و تنفيذا لما تم الاتفاق عليه و الا فليكن (الخروج) قهرا عسكريا في ميدان القتال. اما و قد خرج البرهان، فقد يظل التحدي كبيرا في ان يقود من بعدخروجه الشعب قاطبة للعودة الي منازلهم و مدنهم و تطبيع حياتهم و قيادتهم الى حيث الاستقرار و السلام و الامن و التنمية و رغد العيش من بعد الابتلاء و الصبر الجميل. لقد خرج البرهان رغم كل شيء و هاهو يسعى في الحياة العامة للسودان و السودانيين، اما خصمه المعتدي الظالم لنفسه و شعبه و وطنه فيبدو انه قد خرج بتأشيرة ربانية من الحياة الدنيا الي الدار الاخرة في رحلة عبور باتجاه واحد بلا رجعة و هذا ما سيثبته سفر الخروج في قادم الايام.
01 سبتمبر 2023