حياة عفية/ د نهلة صالح اسماعيل- سكر

التغذية والجنون (١)

نهلة صالح إسماعيل

في فترة تدريبية إمتدت لستة اشهر قضيتها بمستشفي التجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية بأمدرمان، قابلت فيها عدد كبير من المرضى الزائرين والمقيمين بالمستشفى، حيث يتواتر المرضى النفسيين على المستشفى من مختلف بقاع السودان شراقاً وغرباً شمالاً وجنوباً ووسطاً … يأتي هؤلاء المرضى طلبا للعلاج وبالرغم من إختلافاتهم الإثنية والعرقية وعاداتهم وثقافاتهم المختلفة المتنوعة، ورغماً عن تلك الإختلافات التي جمعت بينهم جميعا إلا أن هناك عاملاً واحداً ربط بينهم جميعاً حسب ما لاحظته كباحثه الا وهو الفقر .

الفقر هو العامل المشترك بين هؤلاء المرضى مختلفي الأعراق والقبيلة والجنس والثقافة واللون واللغة والعادات والتقاليد وهو الرابط الأوحد الذي جمع بينهم .

ومن هنا بدأت في نطاق حقلي من إعمال ادوات البحث وطرح التساؤلات والإستفسارات ، هل الفقر سبب للمرض النفسي أم هو الفقر حتى الجنون !!؟.

أشار البنك الدولي في العام ٢٠١١ الي ان مستوى دخل الفرد في السودان 1.99 دولار ( تحت خط الفقر ) ، اما في العام ٢٠٢٠ فأشارت تقارير للبنك الدولي إلي تدني المستوى وجاء تقدير دخل الفرد 0.66667 دولار تحت خط الفقر.
ومن هنا كانت رحلة بحثي في السؤال المحوري عن دور الفقر في المرض النفسي؟ ،، وعادة ما تأتي الإجابة بالنفي خصوصا من قبل أهل المعرفة والعلم من الاستشاريين والاخصائيين والاختصاصيين في المجال النفسي والعصبي، وعادة ما تكون الإجابة بأنها الجينات الوراثية هى المسبب للمرض وأنها العامل الأول والأكبر لمثل هذه الأمراض.

لم أجد صالتي في تلك الإجابات خصوصا ان العامل الاوحد الذي وجدته والذي ربط بين جميع هؤلاء المرضى بالطبع كان العامل البيئي وهو الفقر وليس العامل الجيني.. وعلمياً يصنف الفقر ضمن العوامل البيئية أو في إطار المدرسة البيئية :

The Enviromental Approach
وهي واحدة من المدارس المهمة في علم النفس ولا تقل عن نظيراتها من المدارس الأخري مثال لذلك المدرسة الجينية التي يهتم بها عادة علماء الجينات (علم الجينوم ) والأطباء وكل ما له صلة بهذا المجال. بعد الدراسات والبحوث التي قمت بها وبالمقارنة مع ما توصل اليه العلم الحديث وعلماء الإختصاص وجدت ايضاً ان عددا كبيرا من الدراسات والبحوث توصلت إلى أن نقص الغذاء في فترة الحمل خصوصا في مراحله الاولى من تكوين الجنين غالبا ما يعزز إحتمالية الإصابة بالمرض النفسي للفرد فيما بعد وقد يظهر المرض في خلال المراحل العمرية المختلفة وقد يظهر المرض في مرحلة الطفولة او مرحلة المراهقة او النضج وذلك حسب الضغوطات التى يتعرض لها الفرد في مراحل حياته المختلفة ودرجة حساسيته تجاه تلك الضغوط وقدرة تحمله .
ونستعرض هنا بعضا من الدراسات الحديثة وبحوث الباحثين التي وجدت ان نقص الغذاء في فترة الحمل وفي مراحل تكوين أعضاء الجنين وتحديدا في المراحل الأولى من تخلقه قد يكون لها كبير الاثر في ظهور المرض النفسي لاحقا وإرتفاع نسبة الإصابة عند الفرد بالمرض النفسي بعد الولادة :
•اكد د. دوقلاس ليفنسون في مجلة الصحة التفسية الامريكية، في موضوع عن الصحة البيئية واثرها في المرض النفسي (٢٠٠٧) أن العامل البيئي له كبير الأثر في إصابة الفرد بالمرض النفسي بصورة واضحة وإن كان الجين سليم ومعافى . وهو ما إتفق مع فروض البحث وملاحظة الباحثة .
• اما د. عثمان شابر نشر مقالا افاد فيه أنه لا يوجد إضطراب أو مرض نفسي ١٠٠% أسبابه جينات وراثية بل هناك عدد من العوامل البيئية التي لها كبير الأثر في الإضطراب النفسي رغما عن وجود العامل الجيني او غيابه.

• واكدت رولا بكداش بروفسور بجامعة روتجرز بقسم البايولوجي عندما اشارت إلى أن الغذاء يتداخل ويتقاطع مع الجين (Gene) في مرحلة الحمل إذ يؤثر نوع الغذاء في بناء وتكوين الجين عند تخلقه ونقص نوع الغذاء الذي يحتاجه العضو في فترة تكوينه قد يؤدي إلى إيذاء الجين وتدميره. واكدت دراسة كلاوس W، نيورو سايكولوجيست بجامعة ريجنسبيرج حيث افاد ان نقص الاوميقا-3 دائما ما يرتبط بزيادة خطر الآصابة بالمرض النفسي كما وجد انه عادة ما يتواجد هذا الحمض ( اوميقا 3) بنقص وقلة عند الاشخاص المصابين بالإضطراب والمرض النفسي .
• وأخيراً افادت عدد من الدراسات والبحوث التي أجريت على عدد من الاطفال المولودين في فترات الحرب العالمية الأولى والثانية أن عدد كبير من هؤلاء الاطفال تعرضوا لانواع مختلفة من المرض النفسي في أعمارهم المختلفة وذلك نتيجة لتعرض امهاتهم لنقص الغذاء في فترات حملهن الذي صادف فارات الحروب.

لذلك ننوه في هذا المقال لاهمية الغذاء للحوامل وغير الحوامل في مثل هذه الظروف التي تمر بها البلاد ونحذر من الإهمال واللا مبالاة الغذائية التي قد تترتب عليها نتائج غير صحية ونفسية ضارة .
وبعد هذا العرض المختصر من الدراسات والبحوث نتوصل لاهمية الغذاء وخصوصا للحوامل ولاسيما نحن في مرحلة حرجة مرحلة الحرب التي يعيشها المواطن السوداني في بلده او خارجها وعليه ان يهتم بنوعية الغذاء والتغذية كدرع وقائي من حالات الإضطراب النفسي التي يمكن ان يتعرض لها الفرد ..
دمت عافية وصحة نفسية

اترك رد

error: Content is protected !!