حياة عفية/ د نهلة صالح اسماعيل- سكر

شعب قوي

نهلة صالح إسماعيل

واحدة من الصفات التي إتصف بها المواطن السوداني لكنها لم تدرج ضمن قائمة المواصفات والمقاييس العالمية التي وصف بها ، وذلك لحصرها داخل حدود السودان الجغرافية والغير جغرافية ، صفة يعرفها السودانيين فيما بينهم فقط، حيث صارت أسلوب حياة لا تحدها الحدود الجغرافية فهي تمتد عبر القارات والدول لكنها لا تتعدي حدود إنك سوداني ، فهي عادة ما تكون فيما بيننا حصراً وليس للأجانب إلماماً بها او سابق معرفة . ( الصفة دي تكون شنو !!! كدي حذروا فزروا ما هي تلك الصفة اللغز ؟ ، يا ربي تكون الشجاعة لا ،الكرم لا ، الجدية لا، الإخلاص لا طيب شنو ؟ ) .
ما هى تلك الصفة المالوفة ومتعارف عليها في محيطنا السوداني فقط ؟ أعتقد تتفقون معي أنها الشكية ( الشكية لأب ايد قوية ). الشكية أو الشكوى صارت عادة يتنسمها السوداني دائما كانما يسعد بها وتسعده ، لازم نستصحبها ضمن مفرداتنا وادواتنا الدفاعية أو الهجومية أو في الونسة والأنس ، تتصل تلفونياً او يتصلوا عليك من داخل أو خارج السودان لازم توجد شكية، في الزيارات والمناسبات الصغير لازم تشكي أو يشكوا ليك وطبعا عاوز تطلع نهاية الإسبوع مع صحاب بكون السبب خلفه شكية يا زهجان من الشغل أو من ناس البيت او …الخ . في العادة الخروج ليس مكافأة للنفس والترويح أو لمشاهدة ومتابعة الجديد بالرغم من أنها أسباب أساسية للخروج والتغير لكن مع ( الشكية ) صارت كأنها أسباب ثانوية ونختشي منها فتتقدمهم ( الشكيه ) كسبب وجيه اساسي وعذراً مقبولاً وبكل فخر ..
طالع تجامل تشتكي من المجاملات التي لا حدود لها ، عندك ميل للعزلة تشتكي من المكوث بالمنزل والوحدة الخ ، تركب العربية تلقاها ( الشكية ) ركبت وجلست قبلك ، تنزل من العربية تتقدمك لتحجز مكانها المناسب للمشاركة بين الفينة والآخري. فهي صورة من صور التنفيس والنقد المتواصل والضجر ، (العيش مافي، العيش غلا، البنزين زادوه ، رطل اللبن زاد زيادة شديدة ، الكهرباء قطعت ، السخانة ، البرد، سقط شديد وناشف جسمنا اتشقق من البرد والفازلين زاد زيادة طار السما والجلسرين بقي مووية ولا بسوي شيء، البيض الزيت اللحمة الخضار الموية ، الغاااااز واقفين من الصباح في الصف الدفار جا ملان وما وزعوا ولا أنبوبة قالوا للحلة التانية ، الشوارع كلها حفر العربات إتكسروا ، الأستاذ بليد جاب لينا الامتحان بره المقرر الحاقد عاوز يسقطنا ، الملاريا ، الباعوض، الصداع، الغضروف، الركب، الخشونة، المصران، الرئيس وماأدراك ما الرئيس ورؤساء الاقسام، والوزارات،و الدولة، اللجان وووالخ ). ماقادرين نحدد أو نعرف المشكلة فينا أم في الآخر، في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة لازم تضجر و شكية وعدم قبول لذلك عادة ما تعتمد الحلول علي التنفيس أكتر من النظر لعمق المشكلة ومحاولة تفكيكها وحلها.
وفجأة ونحن مندمجين بنشكي، جاتنا الشكية الكبيرة جاتنا الحرب على حين غرة فقلبت كل الموازين والنظريات والفروض وصارت حياة ما قبل الحرب حياة ترف ودعة نصبوا اليها ونتهجس ليل نهار لعودتها ننتظرها وتعاودنا الذكري ولم نكن ندري كم كانت ذات مذاق خاص وطعم مختلف لقد ألفتنا وألفناها ولم نعود نحتمل الفكاك والبعد عنها ، فبتنا نترقبها والخوف يملأنا من تأخير العودة واللقاء وصارت هاجساً و حلماً نعيشه يقظةً ومناما. وباتت ايام الصيف وشمسها الساخنة التي كنا نشكوا منها أقل حرارة من لهيب الشوق ونار الغربة.
فيا لها من أيام كانها الطفل المدلل الذي لا يعرف سوى البكاء والتضجر والأخذ دون العطاء فاعماه التدليل عن إكتشاف حب والديه له ومعاناتهم لأجله. فكل شئ كان أنموذجاً للعمل والتغيير ولكنا لم نحسه في حينه ، فقد كان النفور وعدم الرضا ولم نكن ندري أن القادم اسوأ ففقدنا حياة الدلال والدعة فقدنا الوطن الذي كان يحتوينا بكل ما فينا من تقصير فقدنا الأمن فقدنا الأمان فقدنا الأب الصامد الصابر الذي اعياه الضعف وانهكه المرض عسى ان يفيق أبنائه يوماً واخذه إلى المشفى.
ووسط كل هذه الأحداث اليومية البسيطة التي عشناها تلقائية وبساطة، و احياناً نفوراً وتارةً قبولاً، جاءت الحرب !! فجأة لتقلب موازين كثيرة بل الحياة برمتها . وتبدأ حياة مختلفة لا يألفها الناس عامة والسودانيين خاصة لتلك الحميمية التي تغذت ثقافتهم الاسرية والمجتمعية بها حتي الشبع ، فانتجت شعب قوي بالتجربة رغما عن إعتقاده بغير ذلك لطبيعة الحياة اليومية التي تتخللها المصاعب والمعاناة اليومية ولا حياة بدون صعاب. تلك المعاناة والصعاب انتجت هذا الشعب القوي ، قوي في مواقفه الهينة والصعيبة فما أجمله ، شعب قوي تحمل التهجر والنزوح مستصحباً معه كل مأسي الهجر وانتزاعه وذكرياته ، شعبٌ قوي بتكافله ، فكانت الأسر تلتحم مع بعضهم البعض كانهم الجسد الواحد ، شعب قوي لتحمل المفاجاة فلم نظن يوما بأن تقوم حرب في هذا البلد الكبير الصامد ، شعب قوي رغماً عن تفلتات البعض ، شعب قوي رغماً عن بساطته وتسامحه وتواضعه شعب قوي لم يبخل بعلمه ورجاله ومساهماتهم في بناء بعض الدول وشعوبها، شعب قوي لم يستمد قوته من سفك الدماء ، بل من نيل يجري ليبعث الحياة قوة وبساطة وجمالا.
ورغما عن ذلك تعرضنا لحرب لم تشهدها إلا بلاد سومر بارض الرافدين عندما غزا هولاكو التتري بغداد التي هو غريب عنها في الجنس والدين والدماء فاستباحها وحرق وقتل ودمرها تدميرا . وكانت اكبر مذبحة ونكبة حدثت بيد اولئك المغول الاغراب الغزاة الذين نهبوا وذبحوا وإغتصبوا حتي صار نهر دجلة بركة من الدماء ونهر الفرات بركة من حبر الكتب والمصاحف التي القيت فيه . بتلك القسوة التي ولدت حمورابي وشريعته ، وتوالت النكبات علي تلك البلاد وشعبها. فكانت الحرب بين العراق وايران إستمرت ثمانية سنوات من عمر العراق .تلاها غزو الكويت ثم الحصار الامريكي والغزو الأمريكي . وكان الإحباط الكبير وسط الشعب بعد إسقاط حكم صدام حسين ٢٠٠٣ وصدمة الشعب بسبب الإنتخابات والتصويت على الدستور ذلك الشعب الذي كان يتوق للحرية وتحسين نوعية الحياة بعد عقود من الحروب والحصار ،لكن كان إنتشار الإرهاب وغياب السياسات التنموية الصحيحة التي تلبي إحتياجات المواطن والمجتمع هى سيد الموقف .
ولكل هذا وبحسب استطلاع اجرته مؤسسة غالوب الدولية ان الحزن والتوتر سمتان ترافقان العراقيين حيث إحتل العراق الصدارة في مؤشر الشعوب. ويعلق رئيس الجمعية النفسية العراقية بروفسور قاسم حسين صالح على أن العراقيين مهوسيين بالتباهي بالهموم والأحزان فما ان يبدا احدهم بالشكوى من هم أو ضيق حتي يبادره الاخر ويقاطعه بأنه الأكثر حزنا وضيقا. وبذلك يعيش اغلب المواطنين حياة بائسة لأن الحزن تحول نفسيا إلى عادة عبر السنين والزمن .
وعلي الصعيد الآخر وبالمقارنة كانت مملكة كوش والحضارة النوبية مهد حضارات وادي النيل في السودان العظيم ومملكة نبتة الكوشية في منطقة مروي التي إشتهرت بالكنداكات والملكات والمعابد والإهرامات والقصور والذهب والفن والنقش .. الخ جماليات وفنون . وحسب تقارير إندبندنت بود كاست ذكر جمال عبدالقادر صحفي سوداني ان معظم السودانيين عصبيون وذلك بسبب سوء التغذية ، وفي هذا الشان كشف معاذ شرفي اختصاصي الصحة النفسية إن 90% من السودانين يعانون من العصبية والقلق بسبب سوء التغذية نتيجة لعدم التوازن الغذائي وعدم تناول الوجبات بطريقة منتظمة إلي جانب الظروف المدارية المناخية الحارة وعدم شرب كميات كافية من الماء. واضاف شرفي في منتدى نظمته كلية المنارة الجامعية أن معظم مشاكل الشعب السوداني تتمحور حول التغذية الصحيحة مشيرا إلى أن السودانيين يؤخرون وجبتي الإفطار والغداء ويباعدون بينهما مما يؤدي إلى نقص كميات الجلكوز الذي يبطء من وصول الطاقة التي يحتاجها المخ وهو ما يمثل سبباً مباشراً لحدة المزاج والعصبية والقلق.

نقص الماء والسوائل في الجسم يؤدي إلى لزوجة الدم الأمر الذي يقلل من تدفق الطاقة والأكسجين في الدماغ بالكمية المطلوبة مما يسبب الفتور وتقلص العضلات والام الظهر . وهو ما اكده ب. علي بلدو استشاري الطب النفسي والصحة النفسية ، ان التناول الصحي للوجبات والماء كفيل بإبعاد الناس عن القلق والتوتر بنسبة عالية.
الخلاصة، ابعدوا من الشكية حتي لا نستصحبها وتجلب لنا زيادة من الصعاب والمشاكل، قاوم عاداتك القديمة ؛ كما ذكرنا في المقال السابق ( اوكسجين ) مارس تمارين إسترخاء وتعلم عادات جديدة لأكل منتظم المواعيد ، وشرب كميات مناسبة يحتاجها الجسم من الماء هذه العادات بسيطة المحتوي كبيرة المضمون عظيمة النتائج تليق بكم وتستحقونها ، حاول حاول حاول حتي تستطيع وتتعود علي عادات جديدة مفيدة لك ولأسرتك اولاً و لبناء سودان جديد يليق بانسانه السوداني القوي بطيبته القوي بكرمه القوي بحبه للخير ، أكثروا من شرب الماء وماعاوزين تاني شكية، لاحرب لا ضرب ولا بيوت تتخرب (مع الإعتذار لصاحب الأغنية ).
عزيز انت يا وطني برغم قساوة المحني .
دمتم عافية وصحة نفسية .

اترك رد

error: Content is protected !!