الرواية الأولى / مجدي عبدالعزيز

٢٦ يناير الموت الذليل

مجدي عبدالعزيز

  • أهل التشكيل والرسم دائماً ما يقولون أن الفن يُحس ولا يُشرح ، خاصةً وأن تكون امام لوحة سريالية طلسمية الألوان والخطوط ومتداخلة الاشكال والرموز ، عندها عليك مغادرة محطة الاستغراب اللحظي والولوج بهدوء الي عالم الإستغراق و التخيل والإحساس الذي حتماً سيقودك الي آفاق التذوق وقمم المتعة .
  • اللوحة الشهيرة والوحيدة التي تجسد مقتل الجنرال/ تشالز جورج غوردون علي عتبات القصر في ٢٦ يناير ١٨٨٥م هي عمل فني مكتمل بكل المقاييس والمعايير لكنه ينتمي الي ( مدرسة الكذب ) .. غوردون مرتدياً بزته الرسمية كاملةً ويقف بشموخ في قمة السلم وينظر الي الثوار من علٍ وكأنه سينتهرهم ويأمرهم بأن أوقفوا هذا العبث الذي تعبثون ، هكذا صوّرت اللوحة ( الفرية ) لحظة مواجهة بطولية زائفة للموت المحقق ، وتماسك مختلق لغوردون ساعة المصير – واللوحة بالمناسبة بريشة خواجة أستمرأت التزييف .
  • الخرطوم ترزح تحت الحصار القاسي تقول يوميات ٢٥ يناير ١٨٨٥ وفي الساعات الأخيرة قبل هجوم الثوار السودانيين بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي ( مرجعية جمال الشريف ) : دخل البرديني بيه ( مساعد للجنرال ) الي القصر ووجد غردون يشعر بالضعف وإن موارده شارفت علي الانتهاء ليس في الطعام فقط وإنما في الصحة والشجاعة والثقة وشاب رأسه نتيجة للإجهاد ، وقال البرديني أن غردون قال له صائحاً : ليس لدي أي شئ أقوله سوف لن يصدقني الناس بعد الآن ، لقد أخبرتهم مراراً وتكراراً أن المساعدة ستأتي ولكنها لن تأتي أبداً ، والآن لابد من رؤية أنني كذبت عليهم ، اذهب واجمع ما تستطيع من الناس وحسن الوضع ، أتركني الآن لأُدخن هذه السيجارة . وأضاف غردون أيضاً : من الصعب إرسال كل القوات والمواطنين الي الدفاعات لأنهم ضعفاء جداً ولا يستطيعون السير ، لقد ترك معظم الجنود الجوعي حصونهم من أجل البحث علي الطعام واليأس يكسو جميع الوجوه . أمضي غردون بقية يومه بالقصر يدخن أحياناً ويجلس في أعلي القصر أحياناً أخري حتي غط في نومٍ عميق عند منتصف الليل نتيجة للإرهاق والتعب – إنتهي –
  • تعددت الروايات التي تحكي تفاصيل لحظة مقتل غردون ولكنني إستناداً علي ما اوضحته الوقائع السابقة أميل الي الرواية المنسوبة للدكتور جعفر ميرغني والتي تقول : إن غردون أقتلع من غرفته وهو بملابس نومه ( وجُرجر ) الي أسفل الدرج وذبح عند سفحه .. وأشير الي الصورة – وليس لوحة – التي تظهر مجموعة من الثوار يحملون رأس غردون في ( خرقة ) ويعرضونه أمام سلاطين ( باشا ) الأسير، ومن الواضح انه لمزيد من التأكد أن من قتل هو جنرال غردون .
  • حاولت الريشة التي صورت المشهد الكاذب لمقتل غردون أن تخفي جرح الكرامة الغائر الذي أصاب الملكة فكتوريا – التي كانت الداعم الاقوي لفكرة إرسال غوردون الي السودان – وأرادت هذه الريشة ان تخفف من آثار الصدمة والإنكسار الذي أصاب الرأي العام البريطاني بهذا الحدث المجلجل الذي كاد ان يطيح بحكومة رئيس الوزراء جلادستون التي نجت من سحب ثقة مجلس العموم ببضعة أصوات ، كذلك عمدت هذه الريشة الي تشويه تاريخنا الملئ بالبطولات والتضحيات في سبيل العزة والسيادة والاستقلال .
  • اليوم ٢٦ يناير تمر مائة وسبعة عشر عاماً علي تحرير الخرطوم وعلي هزيمة الامبراطورية العجوز بمقتل رمزها الدولي ( الباسل في نظرها ) الجنرال تشارلز غوردون علي هذه الأرض العصية ،،
  • وبعد إزالة تمثاله الشهير الذي كان منصوبا في ميدان وزارة المالية حاليآٓ ، وتصفية كليته التذكارية لم يبق من ذكراه إلا لوحة كاذبة ، وحجر تذكاري من الرخام – أسفل السلم الغربي القصر الجمهوري – يشير الي موقع مقتله ، وبيانو كلاسيكي يحتضنه الآن متحف للقصر الجمهوري ،، والي الملتقي .

magdy4@hotmail.com
•نشر بصحيفة السوداني 26 يناير2012م

اترك رد

error: Content is protected !!