الرأي

يوسف عزت بين حكمة البصيرة ام حمد وقواعد الدعاية النازية ….. كيف دفع “خبير التنمية وفض النزاعات” بشباب البادية في محرقة الخرطوم؟

بقلم : عبد الله عبيد الله

روي مستشار حميدتي (يوسف عزت) في مقاله الأخير المطول، الذي يناقض بعضه بعضا، أن المرحوم فاروق أبو عيسى نصحه نهاية التسعينات من القرن الماضي بألا يلتحق بالمعارضة المسلحة على حدود السودان الشرقية، لأنه من القلائل الذين نالوا تعليما جامعيا من البدو ودخلوا السياسة، وواجبه أن يتزود بمزيد من العلم لأن مجتمعه يحتاجه متعلما يسهم في تنميته لا مقاتلا. وذكر أنه عمل بتلك الوصية، إذ هاجر لكندا حيث درس التنمية وحل النزاعات وحصل على جنسيتها. إلا أنه لم يخبر قراءه كيف استفاد مجتمعه من دراسته للتنمية وفض النزاعات، وقد انتهى به الأمر بعد أكثر من ربع قرن على تلك النصيحة المخلصة، بوقا للحرب والتقتيل، يبرر كل جرائم وعربدة الجنجويد التي يعايشها يوميا سكان الخرطوم والجنينة ونيالا وزالنجي. بل ويصور مرتكبيها من الشباب والمراهقين وحتى الأطفال الذين حشدهم حميدتي في العاصمة مدججين بالسلاح الفتاك، أبطالا يصنعون التغيير المنتظر. من يقرأ إشارته ل ” الطائرات التي تضرب شباب الدعم السريع منذ ١٥ أبريل” يظن أن هؤلاء الشباب هم أمثال أولئك الذين كانوا في اعتصام القيادة العامة يغنون ويحلمون بوطن جديد، قبل أن تهجم عليهم قوات الدعم السريع وتنكل بهم في ٣ يونيو ٢٠١٩، كما يعلم الجميع ووثقته منظمات وقنوات تلفزة دولية من بينها بي بي سي، مما لا يجدي معه إنكار عزت.

إنجازات شباب الدعم :

“شباب الدعم السريع” عرفهم عامة السودانيين، بعد أن خبرهم الدارفوريون منهم لسنوات، خلال المشاهد المباشرة التي نقلتها القنوات العربية والعالمية أثناء المظاهرات ضد فض الاعتصام وهم ينهالون بالضرب المبرح على سيدة سودانية رماها حظها العاثر في طريق موكبهم المسلح في الخرطوم، و على شيخ مسن كل ذنبه انه كان على رصيف الشارع العام في امدرمان لحظة مرور موكب مسلح آخر، وحادثة قتل ٩ من التلاميذ في الأبيض في ذات الأيام والتي أدين فيها ٨ من جنود الدعم السريع، لاشك انهم كانوا ضمن من اطلقت المليشيا سراحهم حينما هاجمت السجون وأخلتها ممن فيها بعد أيام من اندلاع الحرب. جاء في تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش في تلك الأيام: “انتشرت قوات الدعم السريع بأعداد كبيرة في الخرطوم وبلدات أخرى، وهي تستخدم العنف ضد المتظاهرين”، مضيفة أنّ “الدعم السريع أقوى من أي وقت مضى بدون أي خوف من المحاسبة للانتهاكات بحق المدنيين.”

وهم نفس الشباب الذين يبثون هذه الأيام في الوسائط لقطات ذاتية لهم (سلفي) من داخل مخادع وغرف جلوس وساحات البيوت التي يحتلونها في مختلف أحياء العاصمة بعد أن طردوا منها أهلها، َووجوههم تعلوها ابتسامات الرضى والسعادة لما حققوه من إنجازات على طريق “التحول الديمقراطي والدولة المدنية” اللذين أخبرنا عزت أنهم يتلقون تنويرا مستمرا عن التقدم نحوهما منذ أن انحازوا للثورة في ٢٠١٩. لكنه لم يخبرنا ما إذا كانت تلك التنويرات، التي لا بد أنه يشارك فيها بحكم أنه المستشار السياسي لحميدتي وممثله في العملية السياسية، تتضمن نصيحة الراحل فاروق أبو عيسى له قبل ربع قرن بأن ما يحتاج له مجتمعه البدوي ليس مزيدا من المقاتلين وإنما المتعلمين الذين ينفعون أهلهم. الواضح أن المواطن الكندي يوسف عزت المتخصص في التنمية وفض النزاعات، وَمخدمه، لا يريان بأسا في التضحية بمستقبل أجيال كاملة من أهل البادية ومصادرة طفولتهم وصباهم بتحويلهم الي مجرد مقاتلين تحت الطلب سواء في اليمن أو ليبيا أو الزج بهم في المحرقة الحالية في الخرطوم والذين هم أكثر ضحاياها. لقد وثق ديفيد كيرباتريك كبير مراسلي نيويورك تايمز للشرق الأوسط في ديسمبر ٢٠١٨ كيف يشجع الدعم السريع الآباء والأسر في جنوب وشرق دارفور على تقديم أبنائهم مقاتلين في اليمن حتى ولو كانوا أطفالا ويساعدهم باستخراج وثائق مزورة لهم بأنه بالغون، مقابل المال. بما ذلك تعويضا ماليا عن القتلى منهم.

النموذج الإسرائيلي :

هل يعبر ذلك عن مشروع ل”التحول الديمقراطي والدولة المدنية” ام انه تجسيد لسلوك “النخبة التي تحكم وتنهب وتحملهم-أي اهل الشمال – وزر افعالها” في وصف عزت للقوي الحاكمة التي انزعجت من حميدتي لأنه “يستطيع ان يكون جزءًا من تشكيل مستقبل الدولة بما يملكه من قوة عسكرية واستقلالية وسند شعبي”. ومربط الفرس في عبارته هو القوة العسكرية، فالسند الشعبي لحميدتي لم يختبر من قبل وأصبح الآن من رابع المستحيلات بعد ما شاهده السودانيون والعالم باجمعه من “شباب الدعم السريع” على مدى الشهرين الماضيين. ولا أدري ما المقصود بالاستقلالية، وارتباطات حميدتي الخارجية معروفة للقاصي والداني. وقد عبر المستشار عن هذه الارتباطات عندما قال في مقابلة مع قناة “كان” الرسمية الإسرائيلية بعد أيام من بدء الحرب: “ما نتعرض له تعرضت له إسرائيل آلاف المرات من الجماعات الإرهابية، مثل حماس وغيرها من الجماعات التي يعرفها المواطنون الإسرائيليون جيدا”.

شراء النفوذ :

ما أغفله المستشار عمدا من مؤهلات مخدمه التي تغريه بالاستيلاء على السلطة، إلى جانب القوة العسكرية، المال. والذي يملك منه الكثير الكثير بعد أن وضع يده على معظم مناجم الذهب في دارفور، وليس جبل عامر وحده، وفي أنحاء أخرى من السودان وعائدات حرب اليمن. وبات معلومات أنه الآن أثري أثرياء السودان وربما القارة كلها. وقد ذكر بنفسه أنه اشترى طائرة سوخوي للقوات المسلحة السودانية من ماله الخاص. وقد فصل تقرير لمركز الدراسات الأمنية المتقدمة في واشنطن C4AS أهم عناصر ثروة الدعم السريع الذي وصفه بأنه عبارة عن مشروع عائلي Family Business لآل دقلو. كما أوردت تقارير غربية أخرى تفاصيل إضافية عن مصادر دخل المليشيا وأسماء المسؤولين منها من أفراد الأسرة الممتدة ومن هذه المصادر، إلى جانب استخراج وتجارة وتهريب الذهب، تهريب المخدرات الخمور وتهريب البشر المرتزقة. راجع الرابط :

https://www.sudaninthenews.com/the-rapid-support-forces-a-comprehensive-profile

جهاز دعاية المليشيا :

ومن علائم ثراء قيادة المليشيا الإنفاق بسخاء على الدعاية ضمن مشروعها للاستيلاء على السلطة بما ذلك تعاقدها منذ يونيو٢٠١٩ مع ثلاث شركات علاقات عامة غربية في كندا وبريطانيا وامريكا لتحسين صورتها. تعاقدت قيادة المليشيا في البداية في نهاية يونيو ٢٠١٩ مع شركة ديكنز آند مادسون الكندية، ومقرها في مونتريال، ويرأسها ضابط مخابرات إسرائيلي سابق، بن منشه، وبلغ حجم التعاقد ٦ مليون دولار، كما ذكرت صحيفة قلوب آند ميل، كبرى الصحف الكندية. وتتولي نفس الشركة الدعاية في الدول الغربية لخليفة حفتر، وعملت من قبل لصالح الرئيس الزيمبابوي السابق روبرت موقابي . ولا شك أن عزت بحكم كونه مواطن كنديا قد كان علي علم بهذه الصفقة إن لم تتم بواسطته. ثم تعاقدت بعد ٧ شهور مع شركة علاقات عامة بريطانية، تعمل في الخفاء لتقديم حميدتي كمقاتل من أجل الحرية. وكما نقلت إصدارة Middle East Eye البريطانية عن الشركة فإنها تتقاضى ما بين ١٢٥ ألف إلى ١٥٠ ألف دولار شهريا مقابل الخدمات التي تقدمها لعملائها مثل حميدتي. أما العقد الثالث فكان َمع شركة نيلسون مولينز الأميركية ويمثلها عضو الكونغرس السابق جيم موران، ووقع عن حميدتي عز الدين الصافي، مفوض مكافحة الفقر السابق، والذي أقيل من منصبه قبل أسابيع بعد ان شارك في مفاوضات جدة ضمن وفد حميدتي. وتبلغ فاتورة الشركة ٣٠ ألف دولار شهريا.

اشترت المليشيا أيضا بعض المنابر الإعلامية بالخارج مثل صحيفة “العرب” اللندنية التي كانت تتبع للعقيد القذافي وأسسها في الثمانينات من القرن الماضي أحمد الهوني الذي سبق وأن تولى وزارة الإعلام في ليبيا ، وبعد سقوطه صارت منبرا مفتوحا لمن يدفع. وتبالغ الصحيفة في الدفاع عن المليشيا لدرجة مضحكة؛ إذ نشرت يوم ٣٠ مايو قصة خبرية بعنوان”استخبارات الجيش تستعين بالجنجويد لتشويه صورة الدعم السريع”!! مفادها أن الاستخبارات العسكرية جندت ٢٧٠٠ من الجنجويد واحضرتهم من دارفور خلال هذه الحرب، ليقوموا بعمليات النهب والاغتصاب واحتلال مساكن المواطنين وكل الفظائع التي ترتكبها المليشيا الآن في العاصمة ودارفور وهم في زي الدعم السريع بغرض تشويه صورته. المثير أن عزت لم يردد هذه الرواية الهزلية في أحاديثه الإعلامية العديدة أو في مقاله المطول لأنه كان سيضع نفسه موضع السخرية. بل على العكس، انبرى للدفاع عن الجنجويد في مقاله، باعتبار أنهم بدويين على قدر من البراءة وعدم الإلمام بتعقيدات السياسة ولذلك سهل علي النظام البائد استغلالهم باسم المشروع العروبي الإسلامي. وهذا قمة التناقض وافتقاد المصداقية. إذ يحاول عبر الصحيفة ومن خلال موقعه، مستشار سياسيا لقائد المليشيا، إيهام القراء غير السودانيين ان الجنجويد شئ والدعم السريع شئ آخر. وهذا ما لا يجرؤ عليه عند مخاطبته للسودانيين فالجأ لتبرير أفعال الجنجويد. المشكلة أن الصحيفة ورطته بنشر مقاله المعنى على حلقات، و سيكتشف القارئ الحصيف هذه الفجوة الهائلة في المصداقية.

لقد عاش المستشار المتخصص في التنمية وفض النزاعات في كندا لسنوات ويدرك مدى رسوخ الصورة المعروفة للجنجويد في العقلية الغربية واستحالة تبديلها، حتى أن الكلمة دخلت في الطبعات الحديثة من القواميس الانجليزية مرادفة للبربرية والهمجية. أما كان واجبه ان يشير على مخدمه ان يوفر ملايين الدولارات التي يدفعها لشركات العلاقات العامة الغربية والصحفيين النفعيين لإنفاقها بدلا عن ذلك على تعليم ناشئة البدو عوضا ان يكونوا مقاتلين أطفال، او في تقديم الخدمات الاجتماعية للمجتمعات التي تضررت ولا تزال تتضرر من فظائع الجنجويد على مدى العقدين الأخيرين مسؤوليته المباشرة عن جزء كبير منها، عسى أن تغير صورته الداخلية جزئيا إذا كان فعلا يتطلع إلى سند شعبي له؟


حكمة البصيرة أم حمد :

لا يمانع عزت في انهيار الدولة السودانية ما لم تعبر عما يراه : “لكن فكرة الحفاظ على الدولة ومؤسساتها غير مفهومة وما المصلحة في الحفاظ على دولة لم نرى منها سوى البندقية والإقصاء وعدم الاعتراف”. إذا اختلف سكان بيت مشترك على الطريقة التي يعيشون فيه معا، فهل الحل في أن تهدم الدار على رؤوسهم جميعا، ثم يحاول من ينجو منهم، أن نجا أحد، أن يعيد بناء البيت من جديد، وما الضمان ألا يدعي الجيران ملكيتهم لقطعة الأرض التي بني عليها البيت أصلا، أو جزء منها. ما هذه العبقرية. وما الفرق بين هذا الحل وما نسبه حميدتي للرئيس المخلوع من أنه على استعداد ان يضحي بثلث السودانيين لكي يعيش الثلثان الآخران في سلام.؟ كان القضاء ينظر في دعوى قانونية ضد البشير في هذا الخصوص.. وطلب الادعاء شهادة حميدتي لكنه لم يستجب حتى اندلاع الحرب.

يمزج عزت إذن حكمة “البصيرة أم حمد”، صاحبة الملكية الفكرية لمثل حلوله العبقرية، مع القواعد التي وضعها بول جوزيف غوبلز وزير دعاية هتلر: أكذب ثم أكذب أكذب حتى يصدقك الناس، كلما كانت الكذبة كبيرة سهل تصديقها.

اترك رد

error: Content is protected !!