
يقول الراوى : أن أحد أصحاب الشركات الضخمة قام بزيارة مفاجئة لأكبر فروع شركته الممتدة فوجد أحد الموظفين نائماً بعمق على الأريكة فى منظرٍ غير مقبول وحينها أيقن الجميع أن هذا المشهد سيتسبب فى طرد الموظف والإستغناء عن خدماته ، ولربما إمتَدَّ العقاب ليشمل بقية الموظفين بالطرد أو التوبيخ والزجر على أقل تقدير عملاً بالقاعدة المقدسة فى مراكز التدريب العسكرى ( الخير يَخُصّ والشَّر يَعُمْ ) ولكن مالك المؤسسة كانت له روية ومعالجة عبقرية للموقف حيث طلب إلتقاط صورة له بجانب الموظف النائم ومن ثَمَّ قام ببثها فى موقع الشركة كإعلان عبقرى مع التعليق التالى : ( لكى تبقى شركتنا هى الأولى فى إرضاء عملائنا الكرام عَملَ هذا الموظف حتى نال منه التعب والإجهاد وألجأه للراحة قليلاً بكل هذه الأريحية ) .. فإستطاع بلقطة من هاتفه أن يأخذ اللقطة العبقرية وأوصل رسالة ذات قوة ثلاثية لزيادة الإنتاج فكسب إخلاص ذلك الموظف وإجتهاده من أجل الإرتقاء بمؤسسته ، وكسب ولاء بقية الموظفين بذكاء الإحتواء ، وكسب ثقة العملاء بأن وراء الخدمة الممتازة التى تُقدَّم إليهم فريق عمل يُجهد نفسه لدرجة الإهلاك ..!! فقدَّم هذا القائد درساً بليغاً بأنَّ القيادة ليست إدعاءًا للصرامة وإصداراً للأوامر بل هى إدراكٌ للحالات الإنسانية وفهم عميق لحقيقة البشر وتقدير لجهودهم .. وأنَّ الذى يميّز بين القائد الحقيقى ومن أتت به الصُدفة هو أن الأول يُحرِج مرؤوسيه بأخلاقه العظيمة ، والآخر يجرح من يعمل تحت إمرته دون مراعاةٍ للحالات الإنسانية فالتقدير الصادق يصنع الولاء .. والإحتواء الحانى يُوَلِّد الحماية والإنتماء ..!!
فإن كان ذلك الصنيع قد ترك أثراً إيجابياً باقياً مابقيت تلك المؤسسة الخاصة فكيف يكون الحال لو تم إسقاطه على مؤسسات الخدمة المدنية العامة التى تُعانى ما تعانى جرَّاء المحسوبية التى أضحت دستوراً غير مكتوب فى بلادنا ( بشهادة الرئيس ) تتحكم فى التوظيف والإستثمار والحصول على الخدمات العامة وإقصاء أصحاب الكفاءة لمصلحة من يملكون العلاقات والنفوذ ..!! والخاسر فى نهاية الأمر هو الوطن الذى يفقد جميع أبنائه ..!! ( فالمستفيد من المحسوبية يكون ولاؤه لمن أوصله إلى تلك المكانة التى هو فيها ويغيب إحساسه بالوطن .. والمتضرر منها يرى إنعدام معايير العدالة والمساواة وأنه لم يجد من وطنه إلإّ الظلم والقهر فينعدم أيضاً إحساسه بالوطن ) وفى كلتا الحالتين يغيب الوطن فى النفوس وتتلاشى المبادئ والقيم الوطنية وتتحول إلى مادة للتندر والسخرية ولعن البلد ووالدٍ وما ولد ..!! فيلجأ من يلجأ منهم للهجرة وركوب أمواج الخطر كحل وحيد يتراءى لهم ، وينزلق من ينزلق فى مساراتٍ غير آمنة من الإنحرافات الفكرية والعقدية والتطرف والجريمة فى ظل إنسداد الأفق ..!!
فيارعاك الله وإسترعاك فينا .. أنت من تبث فينا الأمل وليس أن تبثنا شكواك ..!! أنت من تبنى دولة العدالة وتكافؤ الفرص بما لديك من تفويض فالمستقبل لايُصنع بالمحاباة .. والأوطان لا تُبنى بتكرار الماضى إنما تتقدم حين تُعطَى الفُرصة لكل فرد ليُحقِّق ذاته ويُساهم فى بناء مجتمعه دون أن يكون رهينة لنظام القبلية والمناطقية وأولاد الدفعة والمحسوبية .. أو تدع الوضع يستمر على ماهو عليه من مخاطر إجتماعية وإقتصادية وإنعدام الرؤية التى تمنح الأمل للشباب وإنغلاق الباب أمام الكفاءات لتكون الحياة والتنمية لفئات محدودة من المجتمع على حساب الجميع ..!!
لعلك تدرك سيِّدى الرئيس أن ضعف الأداء المؤسسى الدائم وضعف ديناميكية العمل فى بلادنا ناتجٌ عن مشاكل هيكلية وغياب للتخطيط وعدم وجود إستراتيجية حكومية فاعلة ( رغم وجودها حُكماً جنباً إلى جنب مع إستراتيجية رزق اليوم باليوم ..!! ) .. فوجودها الفعلى أمرٌ لا غنىً عنه فى بناء الدولة القوية ، وإنعدامها يُعد من الأغلال الثقيلة التى تُعيق الدولة تقدمها ، وتحرمها من طاقاتها ونُخبها ..!! فإن إستطعت يا سيِّدى أن تزيل عوائق المسير وتواجه المشاكل البنيوية للدولة التى إستأمنك عليها رب العِزَّة والجلال ، وأن لا تَلتَفِتْ إلى مشاكل الماضى التى تشد دولتنا إلى الخلف ، وأن تتعامل مع قنابل وألغام المجتمع بحذر مخافة الإنفجار .. فلن تجد عجزاً بشرياً فى الإنسان السودانى بل ستجد نُخَبَاً مُستَنيرة وكفاءات حقيقية لها القدرة على إنشاء بنية تحتية قوية وإطلاق المشاريع التنموية الكبرى التى تُحَقِّق أمننا الغذائى وإكتفائنا الذاتى ..!!
إنَّ دولة القانون غائبة عن هذا الوطن المكلوم سيِّدى الرئيس وليتك تعمل على إرضائها وإعادتها فما أحوج بلادنا للخروج من حالة الفوضى المنتظمة وغياب المؤسسات وإنعدام المساواة بين أبناء الوطن الأمر الذى جعلكم تشتكون أعضاء حكومتكم ومن تملكون حق محاسبتهم بأنهم يُفسدون فى الوزارات للدرجة التى يأتون فيها بأمهات آبائهم أو آباء أمهاتهم للعمل معهم كما تفضلتكم فى حديثكم ..!! فالشكوى حين تأتى من مقام الرئاسة فإنها عجزٌ وإنعدامٌ للكياسة ونربأ بكم ونعيذكم بالله أن تكونوا كذلك .. !! دعوا الشكوى ياسيِّدى فإنها حيلة العاجز وشأن الضعيف ، وأعملوا بجدية وبإرادة علمية وعملية ومنهجية بعيدة كل البعد عن الإرتجال لعل جمهورية عادلة تعرف الفجر فى أرض السُمُر ، وتُشرق شمس المواطنة الحقَّة والعدالة الإجتماعية فى أرض النيلين لنُرِى العالم من نكون وأننا راية من رايات الأمل لمستقبله وأمنه الغذائى والمائى .
وقبل الختام أخبرتنا العصفورة التى تقف دوماً على كتف الراوى لتخبرنا ببعض حكاوى الطير على هامش روايات أبوزيد الهلالى بأنَّ الصنم الذى تم نصبه فى أشهر شوارع شرق الخرطوم وكان شؤماً على صاحبه الشؤم الذى ترك أوسمته المزيفة وضيَّع نفسه ومن يسوس وكفى بالعُرِّ قُبحاً أن يُضيِّع من يَسوس ..!! أخبرتنا أن ذلك الصنم قد تهاوى وسقط وتَطَهَّر الشارع ، وعاد الإسم سالماً غير منقوص ولامقصور ونزل المطر وبرد الجو ونط العجل وقفز الحمل وفرح أهل البلد .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
✍🏼 لواء شرطة (م) :
د . إدريس عبدالله ليمان
الأربعاء ٣٠ أبريل ٢٠٢٥م