الرأي

واشنطن بين دعم الشعب السوداني ودعم القوى المؤيدة للديمقراطية

صلاح محمد إبراهيم

بقلم : بروفسير صلاح محمد إبراهيم
تحدث السفير الأمريكي جون جود فري بعد تقديم أوراق اعتماده أمام البرهان عن دعم رغبة السودانيين في حكومة مدنية وتعميق العلاقات بين الشعبين، لم يتحدث السفير عن الانقلاب، و أشار إلى اعلان العسكريين الابتعاد عن المشهد السياسي، ولكن كيف يمكن أن تدعم واشنطن الشعب السوداني؟ هل عن طريق تشجيع التظاهرات ـوبالحديث المتكرر عن الحرية والديمقراطية؟ او هل هو بالعقوبات على السودان التي كان ضحيتها الشعب السوداني وليس السياسيين والحكام ؟ أو هل هي عن طريق دعم أو تشجيع اطراف معينة ضد اطراف كما يقول منتقدو السياسية الأميركية؟ أو بالحديث فقط عن حث الأطراف على الحوار بلا نهاية؟ إذا كانت واشنطن تعتقد أن الناشطين والمظاهرات هم الشعب السوداني عليها أن تعيد قراءة المشهد ، فقد أظهرت السيول والفيضانات الأخيرة حجم المأساة والبؤس بسبب صراع السياسيين على الحكم وكم هي المسافة بعيدة بين ما يجري في الخرطوم واهلنا في مختلف بقاع السودان.
الشعب السوداني يحتاج إلى (حياة كريمة) وحكومة تعمر وتحقق الاستقرار والأمن، الشعب السوداني يحتاج إلى التنمية وإعادة تعمير المشروعات التي انهارت بسبب العقوبات الأميركية، الشعب السوداني يحتاج إلى واشنطن كصديق حقيقي يعاقب السياسيين ولا يعاقب الشعب ويمنع عنه المساعدات والتمويل الدولي في إطار من المصالح المشتركة.
على واشنطن أن تدرس لماذا فشلت ثلاث حكومات ديمقراطية حزبية في السودان، وجاءت بعدها حكومات عسكرية كان للتكنوقراط الحزبيين وغير الحزبيين الذين تشبعوا بالعلوم الليبرالية ودرسوا في الجامعات الأميركية دوراً رئيسياً فيها؟ لماذا تعثرت التجربة الديمقراطية الغربية، وهل هي بسبب رغبة العسكريين في السلطة؟، أم أن هناك عوامل موضوعية تسببت في انهيار النظام الحزبي من داخل البرلمان ومجلس الوزراء وليس من ثكنات الجيش.
الشاهد أن الحكومة الأميركية ظلت تعاقب الشعب السوداني كلما اختلفت مع بعض الحكومات السودانية ، كما أنها كانت الأكثر دعماً لبعض الحكومات الدكتاتورية مثل حكومة الفريق عبود ، وبعض فترات الرئيس نميري ، وهي حكومات لم تكن لها علاقة بالديمقراطية أو الحرية ، وقدمت لتلك الحكومات دعماً اقتصادياً مقدراً ، وهو ما لم يحدث مثلاً خلال حكومة الصادق المهدي التي اسقطها انقلاب عام 1989، كان من الممكن أن تستمر حكومة الصادق المهدي وتعيش التجربة الديمقراطية لو وجدت حكومته دعماً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً قوياً ومؤازرة دولية بتشجيع من واشنطن، كان يمكن أن نرسخ تجربة المهدي التجربة الديمقراطية في السودان أكثر من أي وقت ، وذلك لأنه من أكثر القادة السودانيين قناعة بالنظام البرلماني الغربي ، كان المهدي يحتاج لدعم اقتصادي قوي، وكان الجيش يحتاج للدعم والتسليح لحفظ الأمن واستمرار التجربة الديمقراطية وحفظ أمن البلاد ، ولكن حسابات واشنطن لم تكن لصالح الديمقراطية في ذلك الوقت ، بل كانت لصالح تهيئة المناخ لسقوط التجربة الحزبية بتقاعسها عن مد يد العون لذلك تظل هناك ضبابية وتساؤلات كثيرة حول المواقف والسياسات الأمريكية تجاه السودان،
قام السفير جون جودفري مشكوراً بزيارة بعض اسر الشهداء، وهو ربما كان نشاطاً حارج الأطر الدبلوماسية المعروفة، وهذ امر ليس غريب في ظل حالة عدم الاضطراب السياسي التي نعيش فيها، وهذا أمر ليس مهماً إلا كجهد يصب في تقديم صورة إنسانية، ولكن المهم هو ماذا ستقدم الحكومة الأميركية للشعب السوداني الذي تحدث عنه سعادة السفير . الشعب السوداني يحتاج إلى صداقة حقيقية ، وليس صداقة فقط مع النشطاء وداعمي الديمقراطية الذين يتحدث عنهم سعادة السفير ، فأكثر من نصف السودانيين لا يعرفون شيئاً عن الديمقراطية ولا يفهمون ماذا تعني وما يحدث غي الخرطوم ، هم يقضون يومهم في البحث عن لقمة العيش بعيداً عن لهو السياسيين ، ويعرفون أنهم ظلوا يعانون من حكومات فاشلة منذ الاستقلال عسكرية ومدنية أورثت البلاد الفقر والتخلف ، وليس بالديمقراطية وحدها يحي الإنسان في العالم الثالث، الشعب السوداني أكثر شعب تمت معاقبته من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ،على الرغم من أن هناك حكومات في العالم صديقة لواشنطن ارتكبت من الفظائع أكثر من ما ارتكبته حكومات سودانية ، ونتيجة لتلك العقوبات اصبح السودان بلداً يعاني من المجاعات والفقر والتراجع في الكثير من جوانب الحياة ، وهو ما أثر على حياة الشعب ، بينما السياسيين والحكام يتمتعون بالسلطة والثروة القليلة، والمشكلة أن العقوبات لم يكن لها دور كبير في اسقاط الحكومات الدكتاتورية ، فقد ظل الرئيس نميري في الحكم ستة عشر عاماً ، والبشير ثلاثون عاماً ، وبفضل السياسة الخارجية الأمريكية أغلقت كل الأبواب أمام السودانيين ، بينما هي ظلت مفتوحة أمام السياسيين والحكام الدكتاتوريين الذين يحمل بعضهم الجوزات الأمريكية والبريطانية ودول غربية أخرى، وقد ساهم الكثيرين منهم في تشويه صورة البلاد ونقل معلومات مغلوطة عنها.
واشنطن تدعم بسخاء حكومات غير ديمقراطية كثيرة في هذا العالم وفقاً لمصالحها الحيوية وهي على وفاق مع حكوماتها على الرغم من المعارضة الداخلية الكثيرة الظاهر منها والخفي ، اعتقد جاء الوقت الذي ينبغي على واشنطن أن تعدل فيه سياساتها في السودان ، وتعمل على دعم حقيقي للشعب السوداني ، وأن تعمل وفقاً لمصالحها كما هو حادث في الكثير من المناطق بغض النظر عن نوع الحكم ، خاصة وأن قضية الحكم المدني في السودان قضية شائكة ومعقدة وتتداخل فيها عوامل قبيلة، وطائفية وايديلوجية متصادمة، وأحزاب هشة وضعيفة وليس لديها قدرة على التعايش والاستمرارية ، وسرعان ما تتفاقم صراعاتها وخلافاتها وتدور في حلقة مفرغة كما هو حادث الان، حيث ضاعت اكثر من ثلاثة سنوات في خلافات ومكايدات ، ولم تتمكن من تنحية العسكريين عن الحكم بعد 2019.
على واشنطن أن لا تشغل بالها كثيراً بالأزمة السياسية ، وعليها أن تركز على مساعدة الشعب السوداني ، فالدولة في السودان تديرها الخدمة المدنية ، وعلى واشنطن أن تتعامل مع التكنوقراط الذين يديرون الدولة بعيداً عن السياسيين ولتتركهم في خلافاتهم وحساباتهم التي ليس لها علاقة بمصالح الشعب السوداني الذي جاء السفير لتلبية احتياجاته.
في اليوم الذي قدم فيه السفير الأمريكي أوراق اعتماده، أعلن عن خلافات جديدة بين مجموعة من الأحزاب التي كان من المتوقع أن تدشن اعلان دستوري جديد، وهذه هي الدوامة التي سوف يجد فيها السفير نفسه إذا شغل نفسه بالسياسة، وهو ما حدث للسيد فولكر الذي تحول إلى متفرج على الحالة العبثية السودانية، الولايات المتحدة دولة عظمي هي ارض الحرية وبلد الشجعان كما تعلمنا فيها، وهي تملك الشجاعة التي تعيد فيها رسم سياستها في السودان.

اترك رد

error: Content is protected !!